أحمد حسن الزيات - على محمود طه.. (أرواح وأشباح)

على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت (على طه)، وعلى هذه الضفة الخضراء من مَرْبعها قرأت (أرواح وأشباح). وكان بين اللُّقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة

كان حين عرفته في إبَّان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيعٌ من أربِعة الفردوس لا يُدرَك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر؛ فهو منظور الِخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخِّيلة، لا يَنشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينُشدها الدهر ويرقص عليها الفلك

وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مَواسِّ الهوى وما لا بسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذِكَر!

قال لي صديقي (حسين) ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر:

(مِل بنا إلى قهوة (متيو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره)

وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة؛ وكان نصفه الغربي لا يزال يومئذ مخطوطاً بين النيل والحقول، فلا ترى على جانبيه غير مَماصِّ القصب، ومشارب الكازوزة، وعريشة من عرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة

دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق، وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هشَّ بقريبه ورفَّ لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفاً من الحديث؛ ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفَّسنا من كربه، أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في سذاجة الريفي ووداعة الطفل: (نشرت لي جريدة (السفور) هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة). ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهمَّ بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر السفور ق أصغيتُ سمعي وجمعتُ بالي، فلم يكد يفرغ من سرد القصة حتى صحت به:

- أأنت صاحب هذه القصيدة؟

- نعم

- وأنا صاحب هذه المقدمة

- عجيب!!

كان ذلك في سنة 1918؛ وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر؛ وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكولاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، ولي؛ فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غُفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار، فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السَّل، وصححنا ما فيها من الخطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يُكره قيثاره المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول شعره

ثم تتبعت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرباض المنصورة ورياض النيل، تُصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، و (الأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسَّمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!

(أرواح وأشباح) هي ملحمة الرجل والمرأة، وقصة الفن والوحي، وحوار الجسد والروح، وأنشودة الشباب والحب. سما فيها الأستاذ (علي طه) إلى غاية من الفن قل أن بلغها شاعر

هي حادث جديد في حياة الشعر المصري لا يزكو بالنقد الأدبي أن يهمل الاحتفال بتسجيلها في تاريخ الأدب. وهي قصيدة من النمط العالي لا تحك معدنها في أية حلقة من سلسلتها إلا ثبتت على المحِك؛ فهي في الصياغة مشرقة البيان منتقاة اللفظ، وفي التفكير واضحة المنهج سديدة المنطق، وفي التخيل بعيدة الغاية قريبة المأخذ. وأشهد أنى قليل الاهتزاز لأكثر الشعر وأكثر الغناء؛ ولكن (أرواح وأشباح) هزت نفسي هزاًّ شديداً، فكنت أطيل الوقوف عند كل رباعية، وأُديم النظر في كل بيت، أتذوق جمال صياغته برفق، وأستجلي سر بلاغته في أناة. وإن (الحية الخالدة) و (الفنان الأول) و (حواء) لمن الروائع التي تطول على مقاييس النقد وتدخل في منتخبات الخلود

على أن أسلوب هذه الملحمة ليس بدعاً من أسلوب علي طه؛ فان الصفات الغالبة إلى أسلوبه كله هي الوضوح والأناقة والسهولة والسلامة. ومرجع ذلك فيه إلى ثقافته الرياضية. وليس كالعقل الرياضي شكيمةٌ للخيال الجموح يُسلس بها ويُصحب. وما دام الخيال في قيادة المنطق طار بالفكرة في جِواء مشرقة لا سحاب فيها ولا ضباب، فتتميز الألوان وتتحدد الخطوط وتتبين الصور. أما الخيال الشعري الجامح، فهو كالحب الصوفي الجامح، لا يجد اللفظ الذي يُسفر، ولا العبارة التي تُبين. إنما هي (شطحات) وراء الفكر لم تتضح في الشعور ولم تستقم في الذهن، يحاول الشاعر أن يعبر عنها بالمجازات البعيدة والرموز الخفية، فيغرب ولا يُعرب، ويشير ولا يَدل

إن من عادتي في هذا المكان من (الرسالة) ألا أجامل في سياسة ولا أدب. وربما كان من الخير في هذه المرة أن أدافع الظنون عن هذه العادة بذكر الحكم مؤيداً بأسبابه. وكان ذلك يقتضي تحليل القصيدة إلى عواملها البلاغية، ولكن أن الكتاب في أيدي القراء، والتنبيه على مواضع الجمال فيه اتهام للأدباء!

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات


مجلة الرسالة - العدد 458
بتاريخ: 13 - 04 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى