رسائل الأدباء رسالة من البطل فوزي القاوقجي إلى الشاعر علي محمود طه

23 - 06 - 1947
الأستاذ علي محمود طه
تحية عربية.
وبعد،
فقد قرأت قصيدك، وأطربني شعرك، وسألت نفسي، هل أنا جدير بمثل هذا التكريم يزجي إلى شعراً حراً؟ وأعدت تلاوة القصيدة فإذا بي أجد في كل بيت روح معركة، أو صدى حق ناقم، أو صورة نضال باسل، وأيقنت أن هذا المجد يضيفه على مثل هذا الشعر العبقري أجدر به أن يدخر ليوم الفصل، يوم المعركة الكبرى لإنقاذ فلسطين كلها.. يومئذ (لا يمرح الباغون فيها)، ويومئذ يقول شاعرنا الكبير ما يشاء

أخي؛
ما أشبه هذه الأمة بالكنز الدفين، تراكمت فوقه على ممر السنين طبقات من تراب تعلوها أشواك وأعشاب ذهبت بمعالمه وعفت آثاره، يوم توارى وجه الأمة الصحيح، وغر الأجنبي العدو، هذا الوجه السطحي المصطنع للأمة، فاستهان بها، واستحوذ على القادة يأس، فظلوا هم عن حقيقة أمتهم، ولم ينفذوا إلى غورها حتى ظن الظانون أنها مسكنة قد ضربت عليها. . . رأيت كيف يبسط الظلم على هذه الأمة جناحيه، ويطلق يديه في بلادي فيستنزف ثروتها، ويوهن أخلاقها، ويدوس كرامتها. ورأيت كيف يتزاحم وجوه وأعيان وسراة، بالمناكب على أبواب المستشارين، وكيف تمرغ على أقدامهم بعض الجباه تستجدي العطف من الطاغية والمرحمة من الضارى، فثارت نفسي أولا، وأوحت إلى الثورة. . . ولكن أين العدة؟ وأين التكافؤ بيننا نحن الضعاف القلة، وبين العدو الكثير؟

ورحت أفتش عن القوة، وأسأل أين تكون المعجزة. واستلهمت التاريخ وبطولة الأجداد، ثم اهتديت إلى أن الوجه الصحيح لهذه الأمة قد توارى تحت كثيف من غبار الدهر. فأخذت أنتزع الأعشاب وألتقط الأشواك وأزيح التراب حتى تجلى لي ذلك الكنز الثمين، ورأيت وجه الأمة الصحيح، إنه هو الشعب العربي، إنه هو المادة الأصيلة التي صنع منها بناة الإمبراطورية العربية أركان مجدها. مددت يدي نحو الكنز وتناولت حفنة واحدة من أبناء هذا الشعب ممن يصدق في كل واحد منهم قولك: حواري على كفيه قلب ... أبى غير الشهامة والكرامة

وأيقنت أن في هذه الحفنة من القوة المدخرة ما تسقط معه حجة التكافؤ مع الخصم. فثمة شيء يقال له إيمان وكرامة لا يستقيم معه حساب العدد والعدة. ولكنني تلفت يومذاك أنشد القدوة في هذه الدنيا. تطلعت نحو الترك... هذا عظيم. . ولكنه وجد بقايا جيش وأنقاض مملكة، أي وجد مادة الجهاد ميسورة؛ وأما نحن فلا شيء عندنا. وأخيراً لذت بالتاريخ العربي وإذا بي أجده حافلا غزيراً. فهنا خالد، وهناك أبو عبيدة، وهنالك أسامة، وكل شبر من بلادنا ينطق بآثارهم، وأين سرت تقاطع آثارنا آثارهم، فسمعت في ضميري أصواتهم تهيب بي إلى الواجب. وبهذه الحفنة التي احتفنتها من الكنز كنت أثب من قطر عربي إلى قطر عربي آخر، وأكون حيث تقضى النجدة العربية أن أكون. ولطالما قطعت المفازات، واجتزت السباسب، وخضت في لهيب من الصحراء يشوي الوجوه! وطالما وجدتني في متاهات البادية قد استبد بنا العطش، ننشد أثراً ينم على الحياة فلا ماء ولا ظل ولا أنيس إلا هذا القرص الشمسي، ويا له من أنيس، يبعث بالأشعة لتسلق الرؤوس، وما عرفت أن الأشعة ذات ثقل تنوء به المناكب إلا في تلك البوادي، وما عرفناها تأكل الظهور أكلا إلا في تلك الأيام، حتى لكأننا نعيش في أتون يتسعر لظى. . . أما خيولنا، فكانت تقاسمنا الضراء والبأساء. ولطالما مدت أعناقها تنشد ظلا أو ماء! لقد جفت مشافرها وضمرت أجسامها ضمور أجسامنا. وكان الفرسان وهم يسبحون في اللهيب خرساً لا ينبسون بشكوى، ولا يكادون يقتربون بعد ذاك الجهد من مواطن القتال ويزدلفون من ساحة الجلاد حتى تفتر شفاههم وتنبسط أساريرهم وتتردد أهازيجهم. وترى الفارس منهم كما وصفة المتنبي:

قح كأن صهيل الخيل يقذفه = عن سرجه مرحاً بالفر أو طرباً

ويتبينون في الأفق سواداً عظيما، أنه جيش العدو العرم فما تهن عزائم الحفنة، وإنما تمتد أعينهم امتداد بنادقهم نحو العدو.

ويسود صمت، ليس صمت رهبة، ولكنه إيذان للبنادق بأن تتكلم. ثم تنفجر القنابل فالسماء تمطر ناراً. وتنشب المعركة ويستحر القتال، وأين تطلعت تجد ناراً ولهيباً، وسواداً وغباراً، والمعركة بمن فيها كأنها إعصار فيه نار، وعدتنا هي عدتنا. أما الخصم فقد امتلأت يداه بأدوات القتال، ومع ذلك لا يلبث أن ينفد صبره، ويرتقب دنو الظلام لينجو بنفسه. وما يكاد الظلام يرخى سدوله حتى يلوذ به، ويتستر وراءه. وتقف رحى المعركة، ونتعقبه، ثم نعود إلى الساحة نتفقد شهدائنا ونحصى قتلاهم. فإذا النسبة بين شهدائنا وقتلاهم، هي النسبة بين عددنا الضئيل، وعددهم الجسيم.

وهنا تنطلق الأنشودة الشعبية التي طالما هزت مشاعرنا:

يا دار لنا = حقك علينا

وهنا نشعر بأننا قد دفعنا قسطاً من حق الوطن، وأن الجثث المتناثرة في ساحة المعركة هي الإيصال الشرعي. وكم من أقساط دفعناها في ميادين سورية وجبال وفلسطين وبطاح العراق.

وهل الدار إلا الوطن العربي؟ وهل الحق الذي لها علينا إلا الجهاد في سبيل إنقاذها؟

لقد مرت بي الطائرة في سماء فلسطين، ثم أنزلتني في مصر العربية، ورأيت فيها ما رأيت. فما استطعت أن أخاطبها بغير أنشودتنا في المعارك:

يا دار لنا ... حقك علينا

وشاء الزمن المعادي أن يحيينا، فمد الله في العمر، ويممت شطر الشام، البلد العربي السيد المستقل، فما كدت أكحل العين برؤية الراية العربية خفاقة، وما كدت أرى ابتسامة العز ترتسم على أول وجه لقيته حتى نسيت كل ألم أصابني في هذه الدنيا وما عانقت أخاً إلا أحسست أنني أضم إلى صدري هذه الأمة كلها. وماذا كنت أسمع في ساعات اللقاء من إخواني المجاهدين الذين رافقوني في ساحات النضال؟ هذا مجاهد يقول وهو يعانقني لا تنسني هذه المرة، وآخر يقسم إنه منتحر إذا لم يرافقني في معركة فلسطين المقبلة. وهذا شيخ آخر يقول وهو يعانقني: لقد غدوت شيخاً، ولكن لدى ثلاثة أولاد، وهؤلاء سيؤدون الواجب الملقى على، فينوبون عني. . . الأول فتح عينية على أصوات مدافع ميسلون، والثاني خرج إلى هذه البسيطة يوم كانت دمشق تلتهب بنار قنابل الفرنسيين في أوائل الثورة؛ أما الثالث وهو صغير، فقد ولد يوم الجلاء على أصوات الزغاريد وصيحات الابتهاج؛ لقد أحسست وأنا أستمع إلى هذا الشعور أن دينا جديداً وواجباً جديداً ملقيان على كاهلي. . .

وهذا ما حبب إليّ الحياة، لا خشية الموت، وطالما اندفعت نحوه، وقد تخطاني كثيراً وبالغ في التخطي، وأنشبت أظفاره في جسمي في تسعة وأربعين مكانا. . . ولم يظفر بأمنيته. ولكنني أحببت هذه الحياة لأتمكن من أداء الأقساط الباقية والمستحقة.

إن سعادتي وافتخاري بانتسابي إلى هذا الشعب العريق لا حد لهما. ولهذا الشعب نذرت دمي متطوعاً مبتهجاً

هذا ما أوحت به إلى قصيدتك وإني أودعك مردداً قولك الحق:

هو السيف الأصم إذا تغنى = صغى متجبر ووعى كلامه.

المحب

فوزي القاوقجي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى