الجنس في الثقافة العربية ابن القيم الجوزية - زاد المعاد في هدي خير العباد فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم

فى عِلاج العشق
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى عِلاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب، مخالفٌ لسائر الأمراض فى ذاته وأسبابه وعِلاجه، وإذا تمكَّنَ واستحكم، عزَّ على الأطباء دواؤه، وأعيا العليلَ داؤُه، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه فى كتابه عن طائفتين من الناس: من النِّسَاء، وعشاقِ الصبيان المُرْدان، فحكاه عن امرأة العزيز فى شأن يوسفَ، وحكاه عن قوم لوط، فقال تعالى إخباراً عنهم لـمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 68-73].
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله صلى الله عليه وسلم حقَّ قدره أنه ابتُلِىَ به فى شأن زينب بنت جَحْش، وأنه رآها فقال: (سُبحانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ). وأخذتْ بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ: (أمْسِكْها) حتى أنزل الله عليه: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك فى شأن العشق ، وصنَّف بعضهم كتاباً فى العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة، وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه، ونسبتِه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برَّأَه الله منه، فإنَّ زينبَ بنت جحش كانت تحتَ زيدِ بن حارثةَ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد تبنَّاه، وكان يُدعى (زيد بن محمد)، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه، فشاور رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى طلاقها، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله)، وأخفى فى نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه، لأن زيداً كان يُدعى ابنَه، فهذا هو الذى أخفاه فى نفسه، وهذه هى الخشية من الناس التى وقعت له، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها، وأعلمه أنه لا ينبغى له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له، وأنَّ اللهَ أحق أن يخشاه، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به فى ذلك، ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنِّى، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه، ولهذا قال فى آية التحريم: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[النساء:23]، وقال فى هذه السورة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]، وقال فى أولها: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ، ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4]، فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه، وبالله التوفيق.
نعم.. كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ نساءه، وكان أحبَّهن إليه عائشةُ رضى الله عنها، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب، بل صح أنه قال: (لو كنتُ مُتَّخِذاً من أهل الأرض خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً)، وفى لفظ: (وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن).

فصل

وعشقُ الصُّوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن محبة الله تعالى، المُعْرِضةُ عنه، المتعوِّضةُ بغيره عنه، فإذا امتلأَ القلبُ من محبة الله والشوق إلى لقائه، دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور ، ولهذا قال تعالى فى حقِّ يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فدلَّ على أن الإخلاص سببٌ لدفع العشق وما يترتَّبُ عليه من السوء والفحشاء التى هى ثمرتُه ونتيجتُه، فصرفُ المسبب صرفٌ لسببه، ولهذا قال بعضُ السَّلَف: العشقُ حركة قلب فارغ، يعنى فارغاً مما سوى معشوقه. قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً}[القصص: 11]، إن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ أى: فارغاً من كل شىء إلا من موسى لفرطِ محبتها له، وتعلُّقِ قلبها به
والعشق مُرَكَّب من أمرين: استحسانٍ للمعشوق، وطمع فى الوصول إليه، فمتى انتفى أحدهُما انتفى العشقُ، وقد أعيتْ عِلَّةُ العشق على كثير من العقلاء، وتكلم فيها بعضهم بكلام يُرغَب عن ذكره إلى الصواب.
فنقول: قد استقرت حكمة الله عَزَّ وجَلَّ فى خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه، وانجذابِ الشىء إلى مُوافقه ومجانسه بالطبعِ، وهُروبه من مخالفه، ونُفرته عنه بالطبع، فسِرُّ التمازج والاتصال فى العالم العُلوى والسُّفلى، إنما هو التناسبُ والتشاكلُ، والتوافقُ، وسِرُّ التباين والانفصال، إنما هو بعدم التشاكل والتناسب، وعلى ذلك قام الخلق والأمر، فالمِثْلُ إلى مثلِه مائلٌ، وإليه صائرٌ، والضِّدُّ عن ضده هارب، وعنه نافرٌ، وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189]، فجعل سُبحانه عِلَّةَ سكون الرَّجل إلى امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره، فعِلَّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها منه، فدل على أن العِلَّة ليست بحُسن الصورة، ولا الموافقة فى القصد والإرادة، ولا فى الخلق والهُدَى، وإن كانت هذه أيضاً من أسباب السكون والمحبة.
وقد ثبت فى ((الصحيح)) عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ ، فما تَعارَفَ منها ائْتلَف ، وما تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ)) . وفى ((مسند الإمام أحمد)) وغيره فى سبب هذا الحديث : أنَّ امرأة بمكةَ كانت تُضِحكُ الناسَ ، فجاءت إلى المدينة ، فنزلتْ على امرأة تُضِحكُ الناسَ ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم : ((الأرواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)) ... الحديثَ .
وقد استقرتْ شريعتُه سُبحانه أنَّ حُكم الشىء حُكْمُ مثله ، فلا تُفَرِّقُ شريعته بين متماثلين أبداً ، ولا تجمعُ بين مضادَّين ، ومَن ظنَّ خِلاف ذلك ، فإمَّا لِقلَّة علمه بالشريعة ، وإما لِتقصيره فى معرفة التماثُل والاختلاف ، وإمَّا لنسبته إلى شريعته ما لم يُنزلْ به سلطاناً ، بل يكونُ من آراء الرجال ، فبحكمتِه وعدلِه ظهر خَلقُه وشرعُه ، وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع ، وهو التسويةُ بين المتمائلَيْن ، والتفريق بين المختلفَيْن .
وهذا كما أنه ثابت فى الدنيا ، فهو كذلك يومَ القيامة . قال تعالى : {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ *مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ }[الصافات : 22].
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبعدَه الإمامُ أحمد رحمه الله : أزواجهم أشباهُهم ونُظراؤهم .
وقال تعالى : {وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير : 7] أى : قُرِن كلُّ صاحب عملٍ بشكله ونظيره ، فقُرِن بين المتحابِّين فى الله فى الجَنَّة ، وقُرِن بين المتحابِّين فى طاعة الشيطان فى الجحيم ، فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ شاء أو أبَى ، وفى ((مستدرك الحاكم)) وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم : ((لا يُحِبُّ المَرءُ قَوْماً إلاَّ حُشِرَ مَعَهُم)) .
والمحبة أنواع متعددة ؛ فأفضلها وأجلُّها : المحبةُ فى الله ولله ؛ وهى تستلزِمُ محبةَ ما أحبَّ اللهُ ، وتستلزِمُ محبةَ الله ورسوله .
ومنها : محبة الاتفاق فى طريقةٍ ، أو دين ، أو مذهب ، أو نِحْلة ، أو قرابة ، أو صناعة ، أو مرادٍ ما .
ومنها : محبةٌ لنَيْل غرض من المحبوب ، إمَّا مِن جاهه أو من ماله أو مِن تعليمه وإرشاده ، أو قضاء وطر منه ، وهذه هى المحبة العَرَضية التى تزول بزوال مُوجِبها ، فإنَّ مَن وَدَّك لأمر ، ولَّى عنك عند انقضائه .
وأمَّا محبةُ المشاكلة والمناسبة التى بين المحب والمحبوب ، فمحبةٌ لازمة لا تزولُ إلا لعارض يُزيلها ، ومحبةُ العشق مِن هذا النوع ، فإنها استحسانٌ روحانى ، وامتزاج نفسانى ، ولا يَعرِض فى شىء من أنواع المحبةِ من الوَسْواس والنُّحول ، وشَغْلِ البال ، والتلفِ ما يعرضُ مِن العشق .
فإن قيل : فإذا كان سببُ العشق ما ذكرتم من الاتصال والتناسب الروحانى ، فما بالُه لا يكون دائماً مِنَ الطرَفين ، بل تجدُه كثيراً من طرف العاشق وحده ، فلو كان سببُه الاتصالَ النفسى والامتزاجَ الروحانى ، لكانت المحبةُ مشتركة بينهما .
فالجواب : أنَّ السبب قد يتخلَّفُ عنه مسبِّبه لفوات شرط ، أو لوجود مانع ، وتخلُّف المحبة من الجانب الآخر لا بد أن يكون لأحد ثلاثة أسباب :
الأول : عِلَّةٌ فى المحبة ، وأنها محبة عَرَضية لا ذاتية ، ولا يجب الاشتراكُ فى المحبة العَرَضية ، بل قد يلزمها نُفرةٌ من المحبوب .
الثانى : مانعٌ يقوم بالمحِب يمنع محبة محبوبه له ، إما فى خُلُقه ، أو خَلْقِهِ أو هَدْيه أو فعله ، أو هيئته أو غير ذلك .
الثالث: مانعٌ يقوم بالمحبوب يمنعُ مشاركته للمحبِ فى محبته ، ولولا ذلك المانعُ ، لقام به من المحبة لمحبه مثلَ ما قام بالآخر ، فإذا انتفتْ هذه الموانعُ ، وكانت المحبة ذاتيةً ، فلا يكون قَطُّ إلا من الجانبين ، ولولا مانعُ الكِبْر والحسد ، والرياسة والمعاداة فى الكفار ، لكانت الرُّسُلُ أحبَّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، ولما زال هذا المانعُ من قلوب أتباعهم ، كانت محبتُهم لهم فوقَ محبة الأنفس والأهل والمال .

فصل

والمقصود : أنَّ العشق لما كان مرضاً مِن الأمراض ، كان قابلاً للعلاج ، وله أنواع مِن العِلاج ، فإن كان مما للعاشق سبيلٌ إلى وصل محبوبه شرعاً وقدْراً ، فهو علاجه ، كما ثبت فى
((الصحيحين)) من حديث ابن مسعود رضى الله عنه ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((يا معشر الشَّبَاب ؛ مَن استطاع منكم الباءةَ فلْيتزوَّج ، ومَن لم يستطِعْ فعليه بالصَّوْم ، فإنَّه له وِجَاءٌ)) . فدَل المحبَّ على علاجين : أصلىٍّ ، وبدلىٍّ . وأمره بالأصلى ، وهو العلاج الذى وُضع لهذا الداء ، فلا ينبغى العدولُ عنه إلى غيره ما وَجد إليه سبيلاً .
وروى ابن ماجه فى ((سننه)) عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لَمْ نَرَ للمُتحابَّيْنِ مِثْلَ النِّكاح)) . وهذا هو المعنى الذى أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرِهن وإمائهن عند الحاجة بقوله : {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء : 28] فذكرُ تخفيفِه فى هذا الموضع ، وإخبارُه عن ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه سبحانه خفَّف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ ، وأباح له ما شاء مما ملكتْ يمينُه ، ثم أباح له أن يتزوَّج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجاً لهذه الشهوة ، وتخفيفاً عن هذا الخُلق الضعيف ، ورحمةً به .

فصل

وإن كان لا سبيلَ للعاشق إلى وِصال معشوقه قدْراً أو شرعاً ، أو هو ممتنع عليهِ من الجهتين ، وهو الداء العُضال ، فمِن علاجه ، إشعارُ نفسه اليأسَ منه ، فإنَّ النفسَ متى يئستْ من الشىء ، استراحت منه ، ولم تلتفت إليه ، فإن لم يَزلْ مرضُ العشق مع اليأس ، فقد انحرف الطبعُ انحرافاً شديداً ، فينتقل إلى عِلاج آخرَ ، وهو علاجُ عقله بأن يعلم بأنَّ تعلُّق القلب بما لا مطمع فى حصوله نوعٌ من الجنون ، وصاحبه بمنزلة مَن يعشق الشمس ، وروحُه متعلقة بالصعود إليها والدَّوَرانِ معها فى فلكها ، وهذا معدودٌ عند جميع العقلاء فى زُمرة المجانين .
وإن كان الوِصال متعذراً شرعاً لا قدراً ، فعِلاجُه بأن يُنزله منزلة المتعذر قدراً ، إذ ما لم يأذن فيه الله ، فعِلاجُ العبد ونجاتُه موقوف على اجتنابه ، فليُشعرْ نفسَه أنه معدوم ممتنع لا سبيلَ له إليه ، وأنه بمنزلة سائر المحالات ، فإن لم تُجبْه النَّفْسُ الأمَّارة ، فليتركْه لأحد أمرين : إما خشية ، وإما فواتِ محبوب هو أحبُّ إليه ، وأنفع له ، وخير له منه ، وأدْوَمُ لَذَّةً وسروراً ، فإن العاقل متى وازَنَ بين نَيْل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظمَ منه ، وأدومَ ، وأنفعَ ، وألذَّ أو بالعكس ، ظهر له التفاوتُ ، فلا تبعْ لَذَّة الأبد التى لا خطرَ لها بلذَّة ساعة تنقلبُ آلاماً ، وحقيقتُها أنها أحلامُ نائم ، أو خيالٌ لا ثبات له ، فتذهبُ اللَّذة ، وتبقى التبعةُ ، وتزولَ الشهوة ، وتبقَى الشِّقوة .
الثانى : حصولُ مكروه أشقَّ عليه مِن فوات هذا المحبوب ، بل يجتمع له الأمران ، أعنى : فوات ما هُو أحبُّ إليه من هذا المحبوب ، وحصولُ ما هو أكرهُ إليه من فوات هذا المحبوب ، فإذا تيقَّن أنَّ فى إعطاء النفسِ حظَّها من هذا المحبوب هذين الأمرين ، هان عليه تركُه ، ورأى أنَّ صبره على فوته أسهلُ من صبره عليهما بكثير ، فعقلُه ودينه ، ومروءته وإنسانيته ، تأمُره باحتمال الضرر اليسير الذى ينقلِبُ سريعاً لذَّةً وسروراً وفرحاً لدفع هذين الضررين العظيمين . وجَهلُه وهواه ، وظلمه وطيشه ، وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالباً عليه ما جلب ، والمعصومُ مَن عصمه الله .
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء ، ولم تُطاوعه لهذه المعالجة ، فلينظر ما تجلبُ عليه هذه الشهوةُ مِن مفاسد عاجِلته ، وما تمنعه مِن مصالحها ، فإنها أجلبُ شىء لمفاسد الدنيا ، وأعظمُ شىء تعطيلاً لمصالحها ، فإنها تحول بين العبد وبين رُشده الذى هو مِلاكُ أمره ، وقِوامُ مصالحه .
فإن لم تقبل نفسُه هذا الدواء ، فليتذكر قبائحَ المحبوب ، وما يدعوه إلى النُّفرة عنه ، فإنه إن طلبها وتأملها ، وجدها أضعافَ محاسنه التى تدعو إلى حبه ، وليسأل جيرانَه عما خفى عليه منها ، فإنَّ المحاسن كما هى داعيةُ الحبِّ والإرادة ، فالمساوئ داعيةُ البغضِ والنُّفرة ، فليوازن بين الداعيَيْن ، وليُحبَّ أسبَقهما وأقرَبَهما منه باباً ، ولا يكن ممن غَرَّه لونُ جمال على جسم أبرصَ مجذوم وليُجاوِزْ بصره حُسنَ الصورة إلى قبح الفعل ، ولْيَعبُرْ مِن حُسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب .
فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صِدقُ اللجأ إلى مَن يُجيب المضطَر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بين يديه على بابه ، مستغيثاً به ، متضرعاً ، متذللاً ، مستكيناً ، فمتى وُفِّقَ لذلك ، فقد قرع باب التوفيق ، فليَعِفَّ وليكتُم ، ولا يُشَبِّبْ بذكر المحبوب ، ولا يفضحْه بين الناس ويُعرِّضه للأذى ، فإنه يكون ظالماً متعدياً .
ولا يغترَّ بالحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه سُويد بن سعيد ، عن علىّ بن مُسْهرٍ ، عن أبى يحيى القَتَّات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، ورواه عن أبى مسهر أيضاً ، عن هشام بن عروةَ ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، ورواه الزُّبَيْر بن بَكَّار ، عن عبد الملك ابن عبد العزيز بن الماجِشُون ، عن عبد العزيز بن أبى حازم ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضى الله عنهما ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَنْ عَشِقَ ، فعَفَّ ، فماتَ فهو شهيدٌ)) وفى رواية : ((مَنْ عَشِقَ وكتم وعفَّ وصبرَ ، غفر اللهُ لَهُ ، وأدخَلَهُ الجنَّة)) .
فإنَّ هذا الحديثَ لا يصِحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز أن يكونَ من كلامه ، فإنَّ الشهادة درجةٌ عالية عند الله ، مقرونةٌ بدرجة الصِّدِّيقية ، ولها أعمال وأحوال ، هى شرط فى حُصُولها ، وهى نوعان : عامةٌ وخاصةٌ .
فالخاصة : الشهادةُ فى سبيل الله .
والعامةُ خمسٌ مذكورة فى ((الصحيح)) ليس العشقُ واحداً منها . وكيف يكون العشقُ الذى هو شِرْكٌ فى المحبة ، وفراغُ القلب عن الله ، وتمليكُ القلب والروح ، والحب لغيره تُنال به درجةُ الشهادة ، هذا من المحال ، فإنَّ إفساد عشق الصور للقلب فوقَ كل إفساد ، بل هو خمرُ الروح الذى يُسكرها ، ويصدُّها عن ذكر الله وحبِّه ، والتلذذِ بمناجاته ، والأنسِ به ، ويُوجب عبودية القلب لغيره ، فإنَّ قلبَ العاشق مُتَعبِّدٌ لمعشوقه ، بل العشقُ لُبُّ العبودية ، فإنها كمال الذل ، والحب والخضوع والتعظيم ، فكيف يكون تعبُّد القلب لغير الله مما تُنال به درجةُ أفاضل الموحِّدين وساداتهم ، وخواص الأولياء ، فلو كان إسنادُ هذا الحديث كالشمسِ ، كان غلطاً ووهماً ، ولا يُحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظُ العشق فى حديث صحيح ألبتة .
ثم إنَّ العشق منه حلالٌ ، ومنه حرامٌ ، فكيف يُظَن بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه يحكم على كُلِّ عاشقٍ يكتُم ويَعِفُّ بأنه شهيد ، فترَى مَن يعشق امرأةَ غيره ، أو يعشق المُرْدانَ والبغَايا ، يَنال بعشقه درجةَ الشهداء ، وهل هذا إلا خلافُ المعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة ؟ كيف والعشقُ مرض من الأمراض التى جعل اللهُ سبحانه لها الأدويةَ شرعاً وقدراً ، والتداوى منه إما واجب إن كان عشقاً حراماً ، وإما مُسْتَحَب
وأنت إذا تأملت الأمراضَ والآفاتِ التى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابها بالشهادة ، وجدتها من الأمراض التى لا علاج لها ، كالمطعون ، والمَبْطُون ، والمجنون ، والحريقِ ، والغرِيقِ ، وموتِ المرأة يقتُلها ولدُها فى بطنها ، فإنَّ هذه بلايَا من الله لا صُنع للعبد فيها ، ولا عِلاجَ لها ، وليست أسبابُها محرَّمة ، ولا يترتب عليها مِن فساد القلب وتعبُّده لغير الله ما يترتب على العشق ، فإن لم يكفِ هذا فى إبطال نسبة هذا الحديثِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلِّدْ أئمةَ الحديث العالمين به وبعلله ، فإنه لا يُحفظ عن إمام واحد منهم قَطُّ أنه شهد له بصحة ، بل ولا بحُسن ، كيف وقد أنكروا على سُويدٍ هذا الحديث ، ورموه لأجله بالعظائم ، واستحلَّ بعضُهم غزوَه لأجله . قال أبو أحمد بن عَدِىٍّ فى ((كامله)): هذا الحديث أحدُ ما أُنكر على سُويد ، وكذلك قال البَيْهقى : إنه مما أُنكر عليه ، وكذلك قال ابن طاهر فى ((الذخيرة)) وذكره الحاكم فى ((تاريخ نيسابور)) ، وقال : أنا أتعجب من هذا الحديث ، فإنه لم يحدَّث به عن غير سُويد ، وهو ثقة ، وذكره أبو الفرج بن الجوزى فى كتاب ((الموضوعات)) ، وكان أبو بكر الأزرقُ يرفعه أوَّلاً عن سُويد ، فعُوتب فيه ، فأسقط النبىَّ صلى الله عليه وسلم وكان لا يُجاوِزُ به ابنَ عباس رضى الله عنهما .
ومن المصائب التى لا تُحتمل جعلُ هذا الحديث من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضى الله عنها ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم . ومَن له أدنى إلمام بالحديث وعلله ، لا يحتمِلُ هذا البتة ، ولا يحتمِلُ أن يكونَ من حديث الماجشون ، عن ابن أبى حازم ، عن ابن أبى نَجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعاً ، وفى صحته موقوفاً على ابن عباس نظرٌ ، وقد رمى الناسُ سويدَ بن سعيد راوىَ هذا الحديث بالعظائم ، وأنكره عليه يحيى بن مَعِين وقال : هو ساقط كذَّاب ، لو كان لى فرس ورمح كنت أغزوه ، وقال الإمام أحمد : متروك الحديث . وقال النسائى : ليس بثقة ، وقال البخارى : كان قد عمىَ فيلقن ما ليس من حديثه ، وقال ابن حِبَّان : يأتى بالمعضلات عن الثقات يجبُ مجانبةُ ما روى .. انتهى .
وأحسنُ ما قيل فيه قولُ أبى حاتم الرازىِّ : إنه صدُوق كثير التَّدْليس ، ثم قولُ الدَّارَقُطنىِّ : هو ثقة غير أنه لما كَبِرَ كان ربما قُرئ عليه حديثٌ فيه بعضُ النكارة ، فيُجيزه .. انتهى .
وعِيبَ على مسلم إخراجُ حديثه ، وهذه حالُه ، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيرُه ، ولم ينفرِدْ به ، ولم يكن منكراً ولا شاذاً بخلاف هذا الحديث .. والله أعلم .


.
Pi

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى