وفاء عبد الرزاق - الحافلة.. قصة قصيرة

الجو المسائي البارد والهواء الذي يتسرب الي العظام يجعل ركاب الحافلة منكمشين.
المسافة من العاصمة إلي قرية أبوالحلوات ، تستغرق ثلاث ساعات في الحافلة.
السائق يرتجف رغم شعوره بالسعادة .. لم تسعه السيارة والأرض التي تمشي عليها .. سيعانقها عندما يصل ويقبلها ويستسلم لقهقهات رقيقة تراقص الشفتين الناعمتين الحلوتين كالعسل .. وستفرح عندما تجده قد جلب الخاتم الذي تحبه. فقد اختارته عندما ذهبت معه إلي العاصمة للنزهة ساعتها لم يكن معه ثمنه واليوم بعد أن نقل الركاب ثلاث مرات ، يوما بعد يوم وفرّ ثمنه واشتراه من تاجر المجوهرات.
رجل يرتدي دشداشة بيضاء وعقال وغترة يلف سيجارته جيداً بين أصابعه الصفراء، يجلس بقرب السائق ساهم العينين شارد الفكر .. مع نفسه إلي لا شيء ينظر إلي لا شيء يندهه السائق عمي ! عمي ! ما بالك ؟ سوف نصل بعد نصف ساعة . ما بالك ياعم.؟
الرجل : كانوا يسمّونها وردة .كنزي كانت وردة . لم يكن فيها عيب أخذوها مني وتركوا حياتي جحيماً ،أخذوها لكنهم لم ينتزعوها من قلبي من ناظري.
منو عمو ..؟
وردة .. وردة تطاردني ، رأيتها قبل قليل تحلّق أمام السيارة بجناحين ورديتين كخديها.
امرأة ترتدي عباءة سوداء وفوطة سوداء تقارب الخمسين تكني أم محمـــد حجي يا جناحين يا بطيخ هاي انت وين عايش
عيوني يا أختي شاخصة لها، منذ سنوات لم تعد. كانت تذرف الدموع تلك العينان الناعستان كيف يختبئ الذعر بينهما؟
امرأة تحمل طفلا رضيعا.
عمّو وين صارت وردتك هذه ؟
هي ضيائي يا ابنتي ، عيني التي أري بها، أخذوها مني وتركوا لي الموت.مزقني بكاؤها، تركتني طريحاً، رأيتها فوق مع النجوم، صعدتُ إلي أعلي السطح علّي أكون بقربها لم أستطع، طارت طارت مني بجناحيها.
أحد الرجال :
اتركوا الرجل بحاله اما ترون شكله.
تقف الحافلة في محطة أبوسدرة يركب رجلان ــ أحدهما :
أفسح لي المجال أرجوك.
طفل جالس بقرب أمه يسأل أحد الركاب الجدد : لماذا سٌمّيت منطقتهم بأبي سدرة؟
ــ يقال يابني أن هناك رجلاً عشق سدرة كان يجلس تحتها كل يوم ويهذي بكلمات لايعرفها أحد غيره . كان يتخيل أمرأة تظهر له من السدرة تعانقه، جٌن بها ، بقي تحت السدرة حتي مات، سموه أبا سدرة وسميت المنطقة باسمه.
تماماً مثل قرية أبي النسوان طبعاً سمعت حكايتها . نعم نعم عمي أي هذا المختار الذي يتحرش بالنسوان
أم محمد: ملعونات،كل الحديث علي النسوان فضّوا هذه السيرة رجل يبدو عليه سمة الوقار
هنا المشكلة ،النسوان يا سيدتي ، أنتِ مثلاً ألست أماً وأختاً وعشيقة.
تتحسر ، عشيقة ، يا ولد عشيقة آخ ليت الأيام تعود !
إذا أنتِ كل شيء أنت الحياة كلها مثل مثل - تقاطعه - مثل من؟
مثلها هي ، شمس، دفء ، بها اجتاز جليد العالم كله.
فتاة شابة تقارب الخامسة والعشرين .. نحن الميلاد أيها الأخ الفاضل.
عذراً أختي، أنتن داؤنا ودواؤنا ..
يبدو أنك تهتمين بالألفاظ المنّمقة.؟
هي لعبتي ومهنتي أنا صحفية.
الرجل إذاً ، وصلنا ، وأنا كاتب أين وجهتك سيدتي ؟
الفتاة إلي أبي النسوان .
يضحك الجميع ..
رجل يرتدي قميصاً ملطخاً بالأصباغ يبدو عليه الإجهاد
لقد أنكرتني أفراحي حين غابت عني أفراح
أم محمد عدنا إلي النسوان
الكاتب هل فتشت عنها؟
لم أفتش عنها لكنها تدق بابي كل يوم ،أسمع خطواتها . دقات قلبها إنها هنا في صدري.
أم محمد تتحسر
الفتاة ما بالكِ يا خالة.؟
هي حسرة فقط لم يبق في الدينا شيء يستحق الحسرة . لم يعد يعنيني أحد ولا أعني لأحد شيئاً.
تنادي رجلاً جالساً قرب شباك السيارة ، عيني من فضلك ، أغلق النافذة ،أشعر بالبرد يكسر عظامي.
خذي غترتي ياخالة لعلها تدفئك .
شكراً..علمتني الحياة أن أدفيء نفسي بنفسي .. هل تري هذا الصدر؟ لقد خبأ عريه بلحمه حتي أصبح هو الخيرات بعينها لست بحاجة إلي غطاء من أحد، حين اقع انتصب بألمي وتزداد قامتي طولاً.
( يقدم لها رجل قريب منها عباءته الصوفية) تفضلي ضعيها علي كتفك أرجوك.
شدة البرد والانتظار وهزهزة السيارة يحول الجو إلي صمت مطبق.
بعد قليل ، تنده السائق، قف في المحطة القادمة يا ولدي( بعد أن يقف الباص تنزل مبتسمة وتخاطب الجميع ) وداعاً. تنظر بوجوههم . لو كل واحد منكم عمل لمحبوبته شيئاً ما ، من أجلها كسر الطوق والقيد وأخذ بيدها أما كان أفضل من الحديث عن الذكريات؟
أنت عيني أبا خاتم ، ( توجه الكلام إلي السائق.)
هل الخاتم يكفي لإسعاد امرأة ؟ هل الحياة هي خاتم ؟ يا الله مع السلامة.
يا حاجة عباءتي أرجوك ليس لي غيرها !
من بعيد تلوح له:
لست بحاجة إليها دعها لي، وداعاً.
تصيح بصوت أعلي بعد أن ابتعدت عن السيارة قليلاً : يا حاج عباءتي في السيارة تركتها في مكاني.
تسير الحافلة متأرجحة في تعرجات الطريق، تقف عند أول بائع خبز تشتري خبزاً وتدخل شارعاً ضيقاً ، ترتمي علي باب قديم في منتصف الزقاق. تضحك عند سماعها صريره وتخاطبه كعادتها.
يا بارد عدت إليك وذراعي المريضة تسندني .. ثم تدخل وتغلقه خلفها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى