أحمد يعقوب - صباحات لم يغنّها الملك داوود.. قصة قصيرة

نحن الآن ثلاثة فقط . أمامي شابان ،التشابه بينهما يصل حَدَّ التوأمة ، ورغم السنوات العشرين التي تبدو لكل منهما ، فهما يجهدان في نقل حقائبهما ، بين مواسير معبر "إيرز" ، "مواسير" الحديد .
كلما اضطر للمرور بين هذه المواسير وبين هؤلاء الجنود، تنتابني حالة من الكآبة والشعور بالدونية والنقص .. تبدأ هذه الحالة تغزوني قبل يومٍ أو يومين من "السفر" . أنا لا أزال عاجزاً عن استيعاب ضرورة الحصول على "تصريح إسرائيلي" من أجل السفر أو التجوال في بلادي !! ولم أتمكن من التعامل مع الحواجز بصفتها حدوداً بين غزة ورام الله .
يقول "شارون" أمام عدسات التلفزيون : " إن القصد من زيارته للقدس قبل أربعة أيام ، هو إظهار عدم حاجة أي إسرائيلي إلى الحصول على ترخيص لزيارة أية بقعة في إسرائيل " .. يذكرني هذا الكلام بالحكاية المعروفة ، "عندما يصبح القرد قاضياً ويقطّع قالب الجبن...!" .

عندما عدت إلى ما تيسر من وطن ، وقد جئت إلى غزة، ظننت معبر "إيرز" شبكة أنابيب نفط ، أو غاز ، أو مياه ،أو مصنعاً كيماوياً ..
حال اقترابي منها ومروري بينها اكتشفت أنها أقرب إلى منظومة الحواجز الحديدية ،التي يتم وضعها في مزارع تربية المواشي لتنظيم علفها ومائها ، وكذلك دخولها وخروجها بشكل فردي .
"بقرة" كادت تتقمصني عندما مررت بين هذه المواسير التي أقف الآن بينها عدا مواسير البنادق في أكثر من اتجاه .
الحقائب ليست سبباً في ارتباك الشابين ، إنه ضيق المسافة بين المواسير/ الممر ، إذ لا يمكن لأصحاب الكروش أن يمروا بينها إلاّ إذا كانت لديهم ليونة أجساد القطط .
ينتهي الممر بمثلث مصنوعٍ من المواسير لكنه ليس كالأبواب الدوارة في مداخل الفنادق أو محطات المترو ، إنه ثقيل الوزن جداً بما يثقل الحركة في داخله ، يجعلني مثل كتلة حديدية مثبتة فيه. إلى جوار هذا المثلث نافذة زجاجية لحجرة خشبية
تشكل مكتباً ميدانياً للتدقيق ليس بأوراق الفلسطيني إنما بمشاعره وذاته .
داخل الحجرة ، مجندتان في العشرين من العمر بالملابس العسكرية ترتديان الستر الواقية للرصاص كأنهما توحيان بأن أجسادهما عرضة للرصاص في أي لحظة !! تجلس المجندتان بشكل يتقابل فيه ظهراهما ، كُل منهما خلف النافذة الزجاجية والمشبكة بالحديد … ثمة جهاز كمبيوتر لكلٍ منهما ، وجهازان آخران للتدقيق في البطاقات الممغنطة عدا عن جهاز التكييف .
تبدو المجندة الثانية – هكذا وبلا تخمين- أنها من إثيوبيا بملامحها وشعرها المجدول بنعومة بالغة تذكرني بزميلاتي الإثيوبيات اللواتي كان يروق لي أن يشرحن ويطبقن كيف يجدلن شعورهن في ممر السكن الجامعي في سانتياغو دي كوبا،كُنَّ يقلن إن الإمبراطور هيلا سلاسي هو من سلالة أسد يهوذا وإن حكاية سليمان وبلقيس جرت وقائعها على " أرض الميعاد " بين الحبشة واليمن ، لم يكن قد قرأن فرضية كمال صليبي و لا تلك الصديقة الجمايكية التي تعتز بجذورها الأفريقية وتنتمي إلى جماعة " بوب مارلي " في سياق اتباع الإمبراطور سليل يهوذا . وكن يغنين "صهيون قطار يعود إلى دربنا" .
أنا الآن لا أتمكن من التحرك بين المواسير ، كي أتجاوب مع الحركة المرتبكة للشابين ويصعب عليّ مد يد العون لهم في نقل حقائبهم .
أكتفي بحركة رأسي نحو الجزء المخصص لعبور "مواطني دولة إسرائيل والأجانب" .. لا مواسير هناك ، ولا شباك حديدية تؤطر المكان .. يبدو أنهم ليسوا عرضة هناك لشبح القتل الفلسطيني ?!
كثيراً ما كان أصدقائي الجنوب أفريقيين يمسحون دموعهم أثناء شرحهم لأشكال التمييز وأنهم لا يستطيعون المرور من الطرقات والممرات المخصصة لعنصريي "جوهانسبرغ" .
أين أنت يا "عدي رشيد" السينمائي العراقي ? لتقرأ بكاميرتك الشابة "تعابير" الزمان والمكان هنا .. !! ثمة ميتات كثيرة لم تصلها الكاميرات في هذا الخريف الفجّ ، وحكاية الفناء الفلسطيني ?!

ترفع المجندة الآن بندقية (أم-16) عن فخذيها ، وتنهض، تحمل بيدها جوازات سفر الشابين وأحمل ارتباكهما في أعماقي ، يزداد ارتباكهما بين المواسير التي لا تسمح بمرور أي شيء عدا الارتباك وأصحابه،من خلف النافذة تتكلم المجندةٍ بالعبرية وبصوتٍ عال ، يوجه الشابان إليّ نظرات لم أفهمها ، ربما أصبت بعدوى الارتباك والذهول !! لا أفهم ماذا يجري !! وما هو سبب صراخها ? وماذا تقول هذه المجندة ?!
أحاول تهدئة نفسي وضبط أعصابي فأذهب إلى التحليل النفسي الاجتماعي بديلاً للأيديولوجي والسياسي في تفسير صراخ المجندة الذي يتراوح بين النزق والهستيريا .
ربما تكون مضطرة اليوم لأن تقبع في هذا المكعب بدلاً من فضاء آخر تقضي فيه موعداً غرامياً ?! ربما تكون "الأمور النسائية" وما يسبقها من نزقٍ كل شهر!! ربما تكون قد تعرضت لاغتصابٍ في طفولتها ?!! ربما …!!
لكن الشابين يدوران إلى الوراء،ويبدأان ، بالرجوع يحملان الحقائب فوق رؤوسهما وارتباكاتهما !! اضطر إلى الرجوع مسافة خمسة أمتار أو أكثر بين المواسير كي يتمكنا من المرور!! أتشبث بنفسي !! أوازن بين هجوم "الثور" فيّ و "تقمص البقرة" فأكظم غيظي… أتابع مضغ "علكة اللبان" وأمضغ معها أشياء كثيرة … لقد اهتديت إلى مضغ العلكة كوسيلة ناجحة كلما مررت من بين هذه المواسير،فالمضغ يخفي تعابير وجهي ، ويمنع تلونها بالأحمر أو بالأصفر . نظرات الشابين لا تنقطع في محاكاة عيني .
تقف الآن المجندة أمامي بعد أن خرجت من الحجرة إنها قصيرة جداً . السترة الواقية للرصاص تجعلها منتفخة كلاعبي "الرغبي" شعرها أشقر طويل وأملس ، ليس مصبوغاً بالأصفر كغالبية المجندات.. عيناها دائريتان صغيرتان بلونٍ أزرق ورغم بياض بشرتها، إلا أن وجهها أصفر أو قد اصفرّ ..
لا أفهم من العبرية إلاّ بعض المفردات اللاتينية والعربية بقليل من المعالجة … لكنني أفهم حركة إصبع الجندية الممدودة ،نحوي كماسورة مضافة ! ماذا بين المواسير وبيني ؟! وبحركة منفعلة تخطف من يدي تصريح الدخول إلى إسرائيل ?! وتبقي بطاقة هويتي تهتز في يدي .
كانت "كوكو" صديقتي الجنوب أفريقية تحدثني عن السجانات في سجون جوهانسبرغ : "كن يقمن بضخ الماء في قناة فالوب للنساء، كن يوجهن الصدمات الكهربائية إلى حلمات الأثداء"!! وكنت أقول لها : كانت الجنديات في ألمانيا النازية يقمن بضرب النساء المعتقلات ويقمن بتجويعهن حتى الموت !! بل وباختيار من تقع عليها القرعة من أجل الموت .
تصوب الجندية الآن إصبعها وصراخها نحو الشابين !! وأراهما يعودان من جديد إلى الحقائب والأمتعة والارتباكات …
صمت ..
صمت …
اصفرار وجوه …
امضغ العلكة …
ونظرات …
لا أفهم شيئاً !! لكن حزناً عميقاً .. يجرف أعماقي عندما يسألني أحد الشباب :
ماذا تقول هذه ?! وأشار برأسه إليها بحركة من يخشى أن تفضح إيماءاته خوفه وارتباكه … وأضاف :
- :أنا لا أفهم !!
= : وأنا أيضاً !!
تخطف المجندة بطاقة هويتي من يدي وتوجه صراخها نحوي، آخذ شهيقاً عميقاً أتذكر "التقيّة" الشيعية بأن أظهر عكس ما أبطن اتقاء للتنكيل وأقول لها :
You speak English?
يأتيني زعيق بالعبرية أعتقد أنني أفهمه بـ"اخرس" !!
Take it easyهو ردّي
ربما لم تقل لي "إخرس" يبدو أن "زعقتها" هي صفارة إنذار!! أو كلمة سرّ !!
نحن، الشابان وأنا والحقائب ، محاطون الآن بالمواسير، مواسير الممر ، ومواسير بنادق (M16) أحمل بيدي "ابتسامة الجدي" رواية الإسرائيلي "ديفيد غروسمان" وبين أقدامي حقيبتي الظهرية الصغيرة لأن المواسير لا تسمح لها أن تكون على ظهري أو إلى جانبي !! فإما أن تكون فوق رأسي أو بين أقدامي.
أوصتني عروسي أن أحافظ على ترتيب القمصان و"البناطيل" لقد وضعتهما بعناية كي لا تذهب "كويتهما" ولا رائحة أهلي التي أرسلوها مع حقيبة هدية العرس . الجنود يتقدمون نحونا، منتفخين بستراتهم الواقية للرصاص !! أمضغ العلكة وأشياء كثيرة !! أسمع عبرية تتأرجح على حبالٍ صوتية روسية !! إنها للرقيب وهو يتحدث مع الجندية !! يوقف الحركة "الرامبوية" لجنوده ويقول : "ما في مشكلة" ويشير إلى الشابين أن يعبرا .
"نحن لا نحيا ، نحن نحيا موتاً يومياً أخرس" أتذكر عبارة أدونيس هذه . وأتابع المضغ بصمت ... المكان فارغ إلاّ من الجنود والمواسير والصمت .. أنا الآن وحدي بين المواسير ... أسمع أصوات رصاصٍ شبه قريب ... ربما يكون من "المعسكر الإسرائيلي القريب من حاجز إيرز" .
اليوم هو الرابع من المواجهات بين فلسطين وإسرائيل منذ أن اقتحم "شارون" المسجد يرافقه ثلاثة آلاف مسلح (لواء مشاة خاصة) .
لقد تخصص "شارون" بإبادة الفلسطينيين منذ أن كان آمراً للوحدة رقم 101 التي نفذت بقيادته مذبحة قبية هكذا يقول "بيني موريس" المؤرخ الإسرائيلي عن مذبحة قبية .
يبدو شارون في مشيته مثل "فيل الماموث" الذي يسحق كل شيء –عدا العشب- في دبيبه . لقد تخصص في انتهاك مشاعر الفلسطينيين بمن فيهم أولئك الذين لا تربطهم علاقات خاصة مع السماء أو التابوات ... أي "مونولوج" يردده شارون مع نفسه ?! القتلة في الأفلام الأمريكية لا يندمون . مع أن سبر أغوار شخصياتهم غير السوية يكشف عن تأصل الجريمة في نموذج "السايكوباث" الذي لا يرعوي ، ولا يندم، وتأخذه العزة بالجريمـة ..
أنا الآن بين المواسير أقف قبالة الشبك الحديدي الذي يلف نافذة الحجرة الخشبية (ربما يكون طول النافذة"1م" وعرضها "نصف متر") تدخل الجندية الحجرة ، تدير ظهرها وتبدأ بحديث هادئ مع الجندية الأثيوبية :
- الساعة الآن التاسعة من صباح يوم الثلاثاء 3/10/2000. أطيل النظر في الساعة .. أشعر أن التركيز في الميناء الأزرق للساعة يغنيني عن مضغ اللبان ..
كانت عروسي قد أهدتني ساعة الـCalvin) Klein)التي يتبدل لون مينائها حسب الظل والنور .
قبل قليل ودعت زوجتي بوعدٍ قاطعٍ بالعودة حال اختتام الملتقى الشعري وخرجت إلى الشارع أنتظر سيارة لتقلني إلى حي الشجاعية كمحطة نحو معبر إيرز .
لغزة أسرار في حيويتها ، في هدوئها ، في غضبها وحنوها . كانت شوارعها خالية تقريباً وببرودة الأعصاب المعهودة عند سائقي تاكسيات غزة !! أذن لي سائق السيارة بالركوب باتجاه حي الشجاعية...
- : صباح الخير ..
= : صباح الخير
وأسأله هل معبر إيرز مفتوح اليوم ويجيبني :
- لقد "سرح" بعض العمال .
يبدو أنه قدّر جيداً أنني على علاقة بالثقافة وبدأ حديثاً دقيقاً جداً في وصفه لحادثة قتل الطفل محمد الدرة : "لقد قدم الشاعر مايكوفسكي في وصفه لمشاعر من تهوي مقصلة الإعدام على رأسه ، إنجازاً هاماً للتحليل النفسي". ويقارن ذلك في مشهد "إعدام محمد الدرة على الملأ" كما يقول "لقد رأى العالم حالة موت بطيئة بوقائع حية وبالتدريج !! وتابع حديثه ليس عن سكرات موت محمد الدرة بل عن الحالة النفسية التي مرّ بها والد الطفل المعدوم" لقد أصيب الوالد بحالة شبه إغماء وربما مات للحظة ...!"

قهقهات الجنديات الآن تقطع عليّ تركيزي على ميناء الساعة. أرى فيهما الاستعلاء البارد الذي أعدم محمد الدرة...
أمضغ العلكة ببطء ومرارة . وفيما تتابعان حديثهما أتذكر نصائح أصدقائي بضرورة أن لا أستعجل الجنود كي لا يمددوا فترة التأخير في إعطاء الإذن بالمرور عند الحواجز .
أبدأ بالنظر في ملابسي ومحاولة تخيل مشاعر الأبوة إزاء محمد الدرة ... فلا أفلح لأنني ترددت كثيراً في إنجاب أطفال لي، لقناعتي أن الأطفال هم الاستعمار الجميل في العالم والذي ندعه يستمر بلا مقاومة !!
أتذكر حالة شبه هستيرية ألمت بي عندما رأيت أخي الأصغر في حالة غيبوبة مرضية . أنظر إلى "الجاكيت" التي أرتديها وكان قد أرسلها لي "ميلاد" أخي الأصغر الذي لا أستطيع تذكره الآن إلاّ ببنطاله الأحمر القصير و(البلوفر) الأبيض وهو يمسك بيدي متلعثماً بنطق الكلمات . وبتوسلٍ طفولي ينظر إليّ من أسفل إلى أعلى كالذي ينظر إلى شجرة سرو .
"خذني معاك" يقصد أن أصطحبه في تجوالي بين شوارع وأزقة مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوبي دمشق.
عشرون عاماً وأكثر مضت على آخر مرة رأيته فيها . لم أتحمل "اعتصار روحي" عندما أعطاه الدكتور إبرة في العضل بعد استفاقته من الغيبوبة . أي اعتصار عصف "بروح" والد محمد الدرة أو الأبوة الإنسانية ؟؟
"أتأوّه ، كأنني أسحب سلكاً طويلاً من أحشائي" "يصبح الزمن الذي ينز من ثقوب الظلم !مثل السم الذي يشل الجسد ويتلف الدماغ" .
تقع عيناي على هذا الكلام بعد أن فتحت "ابتسامة جدي" ديفيد غروسمان . كان علي أن أتظاهر بالقراءة أمام مواصلة الجنديتين حديثهما الهادئ
يبدو أن منظري وأنا أقرأ كان سبباً لهما لتكفَّا عن الحديث فتقدمت الجندية نحو الشبّاك الذي أقف قبالته جلستْ على كرسيها الدوّار خلف جهاز الكمبيوتر ، وبطاقتي الشخصية والتصريح مشدودان في قبضة يدها الصغيرة .
أغلقت الرواية وبدأت أنظر إلى لوحة "الرجل والمرأة" التي وضعها صديقي الفنان التشكيلي كتصميم لغلاف الرواية ، وأقرأ ترجمة حسن خضر وأتذكر أحاديث "معرفة الآخر ، والحوار مع الآخر" .
يصلني الآن حديث الجندية بالعبرية ... لا أدري من قال إن اللغة مرادف للأيديولوجيا ... لكنني أتذكر أن صفات كالحضارة هي مصطلحات ثقافية وليست وراثية . فقلت للجندية:
English, French, Spanish
أرى الآن ملامح وجهها وهي تأخذ بالتغيير .
تتقلص العضلات فوق الفم !! ترافقها حركة تنفسية !! ارتفاع للحاجبين !! اتساع للعينين !! يتسع اللون الأصفر في الوجه فتصل ملامحها إلى حالة "التكشير عن الأنياب" .
وحال اكتمال "الميتامورفوز" عندها تأخذ نفساً عميقاً ، تركز عيناها في عينيّ فأرى زرقتهما تقترب إلى الرمادية !! وبلكنة أمريكية أكثر من طليقة أطلقت جملاً ممزوجة بالزفير !! وهذه ترجمتها :
"أنا هنا من يقول ، أنا هنا من يفعل ، أنا أعرف ماذا عليّ أن أفعل" .
قلت لها بالإنكليزية : ماذا حدث ... ؟؟
وبصوت قويّ ردت علي:ّ
Don't tell me what I have to do.
لم أقل لها أي شيء تفعله .. فأتذكر أنني قلت لها أثناء صراخها السابق:
Take it easy
، نهضت عن كرسيها بانفعال واضح... ألقت بطاقتي وتصريحي فوق جهاز تدقيق البطاقات الممغنطة الموجود أسفل النافذة ويبرز جزءٌ منه إلى الخارج كي يتمكن العمال من وضع البطاقات فيه!! اتجهت الجندية نحو الأثيوبية وطلبت منها سيجارة !! أحاول الآن أخذ بطاقتي والتصريح لكنني لا أستطيع لأن يدي لا يمكنها أن تدخل بين الفراغ القائم بين نهاية الزجاج وبداية سطح جهاز البطاقات الممغنطة !! أقوم الآن بتمرير أصابعي التي لامست البطاقة !! أحاول مناداة الجندية كي تعطيني أوراقي فتأتيني لسعة كهرباء قوية مصدرها موصلات الجهاز الخارجة من النافذة عندها خرجت مني (No) كبيرة !!
أراهما "تنقزان" وتتغير ملامحهما !! فالأثيوبية لا يمكن قراءة ملامحها !! تشدان سترات الفايبر غلاس على صدورهما أكثر . نظرت هي إلى بندقيتها واقتربت من النافذة !! دفعت البطاقة برؤوس أصابعها وهي تقول:
OK .. OK
إن روحي توجعني ... الآن ...
أسمع أصوات رصاص شبه بعيد .
أتقدم أمتاراً خمسة باتجاه جهاز التفتيش ، جندي يجلس على كرسي ، ويجلس معه انتفاخ سترته
الواقية وبندقيته M16)) على ساقيه الممدودتين باتجاه المواسير..
منذ أول مرة عبرت فيها جهاز التفتيش هذا الذي يأخذ شكل إطار باب عليه أجهزة ترسل إشارات وإضاءات ... منذئذٍ قررت أن لا أضع حزاماً في بنطالي !! وأن لا أحمل مفاتيح !! وأن لا يكون في جيوبي قطع نقود ! معدنية ! وأن لا يكون في ملابسي أي شيء معدني كسحاب البنطال أو الأزرار .
كثيراً ما قالت لي جدتي : "إن الذي يضع حزاماً في بنطاله لا توجد لديه ثقة فيه" لكن ليس لهذا السبب ، أبقيت حزامي خلف باب غرفة نومي (لقد صار عندي غرفة نوم) إنما كي لا أعطي فرصة للجندي أن يأمرني بنزعه عدا عن نزع السترة وإفراغ الجيوب ...في المرة الأولى .. ولولا إبداء انزعاجي السافر وتأكد الجندي أن سحاب وأزرار بنطال الجينز هي سبب انبعاث صفير وإشارات ذلك الإطار ، لكان عليّ أن أنزع البنطال وأوضح ماذا تحت البنطال ، رغم بطاقتي الصحافية ...
الآن إنه يتحدث معي بالعبرية ..؟! هل على الفلسطينيين إتقان لغة محتليه ?!
ولما حدثته بالإنكليزية ردّ عليّ بعربية ثقيلة
- : وين بروخ ?
= : رام الله
وضعت جهاز التلفون والحقيبة الظهرية "وابتسامة الجدي" إلى جانب الإطار وبروحي التي توجعني مررت .. قال: روخ ماكينة (يقصد بها جهاز فحص الحقائب)
افتحها هنا .. بانزعاج واضح قلتها له .
في مرة سابقة وأنا قادم من رام الله حاملاً معي حقيبة كبيرة مليئة بكتبي .. كنت أجرها على الأرض ... وكانت تصدر صوتاً مزعجاً ، وعندما اقتربت من هذا الإطار سألني أحد الجنود بالعبرية !! ولما لم أفهمه عاد وسألني بالإنكليزية :
-:هل أنت ياباني
? Why: =
الحقيبة تتكلم ياباني زززززززززز ز?... ?... ?... ?.... ?... !!
قلت له : "لا يوجد عربات تسهل نقلها"
أجابني بعربية مضحكة :
"كُله بيشتغل عتال ، ليش بيجيب عراباي ، روخ ماكينة...!!"
وأمام السخرية الثقيلة كثقل الحقيبة التي أنهكتني وكادت تقطع أنفاسي ، فتحتها أمامه فوراً ، وبدأت أهدئ أنفاسي المتسارعة وأنا أتأمل دهشة الجنود وهم يرونها مليئة بالكتب فقط..
لا أنسى علامات الفرحة والتعجب التي ارتسمت على وجه أحد الجنود !! عندما وقعت عيناه على قاموس صغير (جيب روسي فرنسي ، هدية صديق جزائري يقيم في موسكو) وبطفولة حقيقية كالتي للنساء الروسيات في حالات فرحهن القصوى أخذ القاموس كالذي يأخذ كتاباً مقدساً بين يديه وسألني : "تي غفاريش بر وسكي؟!"
= : أتكلم الروسية قليلاً أجبته ، فتابع سؤاله :
: بفرنسوسكي ?
= : قليلاً أيضاً ! قلتها وأنا أنظر في رقرقة عينيه والبهجة المشوبة بحزن خفي على وجهه . كان كأنه عثر على ذكرى حبيب إلى قلبه وبغاية "اللطف السوفياتي" قال : أغلق الحقيبة... تفضل من هنا وأشار إلى الممر الذي ليس مخصصاً للعمال لكنه مشابه من حيث المواسير ويختلف بغياب الازدحام .
قال تفضل فيما بقيت عيناه نحو القاموس .. عندها قلت له هل تحتاجه ?! وتبادل مع الجنود نظرات لم أفهمها .
أخرج الآن ما في الحقيبة للجندي الذي كان سارحاً قبل قليل ويبدأ بإظهار استغرابه ودهشته أمام زجاجة العطر ومعجون الأسنان والفرشاة وربطة العنق وعلبة سجائر "مالبورو" التي طلب إحداها وقال:
"أنت بروخ رام الله ...!! في طخ طخ عالطريق" .
قلت هل كل شيء:
OK ،
أقصد إن كان قد أنهى إجراءات التفتيش!!
قال:
(OK) .
وبروحي التي توجعني انطلقت في ممر المعبر باتجاه السيّارات التي تذهب إلى رام الله .
"أدعو إلى إضراب تتوقف فيه الرموش العصافير عن الزقزقة
أدعو إلى إضراب تتوقف الرموش فيه عن الرفيف
أدعو إلى إضراب يتوقف فيه العشاق عن تبادل القبل
أدعو إلى إضراب تتوقف فيه القلوب عن الخفقان
لأسمع وقع خطوات الجنرال وهو يرحل عن المدينة..."
سماعي لوقع أقدامي جعلني أتذكر ذاك المقطع من قصيدة الشاعرة النيكاراغوية جولاندا التي قيل أن قصيدتها أسقطت الجنرال "سوموزا" .
الآن وحيداً أمشي ...
الصمت يعيد أصداء أقدامي وربما زفراتي !! حقيبتي على كتفي و "روحي توجعني" و لا أدري ماذا تقول تعابير وجهي ?
أشعلت سيجارة سحبت منها بشدة ... أطلقت دخانها باتجاه مستنقع (المجاري) المكشوف تحت الممر الذي أمشي عليه وحيداً .
وبصوت يكاد يكون مسموعاً وجدتني أردد مطلع أغنية إسبانية:
ESTAS
SON
LAS MANIANAS ... QUE
CANTABA
EL
REY
DAVID...
وترجمتها : هي ذي الصباحات التي غنّاها الملك داود

أرى الجنود الإسرائيليين وضباطهم في حالة استنفار وأسرح مع الجنرالات بين الخريف والخرافة ...
ما كتبه (بيساريو بيتنكور) بعد إقالته من رئاسة كولومبيا عن (الجنرال في متاهته) رواية ماركيز الشهيرة . جعلني أدرك وبتلمس شفاف معاني ما قاله الجنرال في رسالته الأخيرة : "يبدو أن الشيطان يسيرّ شؤوني" ومضى هائماً رفقة ممرضته وسكرتيره الخاص وبعض مرافقين . بعضهم يظن أنه مضى لتأسيس جيش جديد بينما يقول سكرتيره : "كان ينتظر قوة خفية تهبط من السماء تحمله وتعيده إلى مكتبه الذي كان يحكم من خلاله ما تعرف اليوم بخمس دول في أمريكا اللاتينية ، كان البريطانيون قد عاملوها بـ"فرق تسد" فصارت فنزويلا وبوليفيا وكولومبيا وكوستاريكا وبنما ...
لا يعقل أن يستوي الذين يُحررون والذين يحتلون (يدعي جنرالات إسرائيل أنّهم يحررونها من الاحتلال الفلسطيني) ! لهذا ربما عقدوا صفقاتهم كل مع شيطانه حتى لا تزف نهاية "الكولونيل الذي لم يعد من يكاتبه" بل إنهم يطلقون الرصاص على فصول السنة كي لا يكمل "خريف البطريك" دورته!! ..
في خريف (1982) - نحن الآن في الخريف أيضاًـ وقبل أن يدخل "بيغن" خريفه الأخير،كان قد أدخل جنرالات "غولاني" إلى خريفهم المحتوم ليتسنى لمصور الخرافة أن يلتقط صورة الخريف الأخير لـ"بيغن" مظهراً أسنانه كلها وهو يقف إلى جانب جثامين حفنة من المقاتلين الفلسطينيين في "ماسادا" الشقيف ...
مدعي عام جيش "الخرافة" وقبل فترة قصيرة ينصح حكومته بعدم الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية تحت التأسيس في روما لأنه كما يقول : "جنرالات إسرائيل سيكونون أول مجرمي حرب يتلقون أحكامها" . أما الخرافة فلها حكاية مع الخريف . لم يبق لـ"بيغن" إلاّ أن يطلق شعر وجهه وربما كمسلٍ وحيد في عزلته الأخيرة منتظراً تساقط آخر أوراقه ... وتنقلب صفحة أخرى في لفائف الخرافة.
(كان"سيمون بوليفار" مثل جبل .. قاعدته شاسعة وقمته مدببة حادة ... ربما ليمرق إلى سماء المجد بسهولة أكثر) الشاعر والمفكّر خوسي مارتي في رثاء بوليفار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى