فوزية رشيد - سباحة.. قصة قصيرة

بلغا نقطة يصعب الارتداد عنها.

حين التفتا الى الوراء كان البحر يضيع في لفافة من الغمام موحدا لون السماء بلون الماء. لون داكن شفيق يشبه انحدار القلب في حالة توقه الغامض . إنهما الآن في اللحظة القاسية أو الشرسة . يتشبثان بقوة الدفع والتعب يفت في جسديهما بكل حواس الوهن . يذوبان في احضان الامتداد الخرافي من يشاهدهما من بعيد يدرك ان الرحلة المضنية وحدت فيهما هاجسا غريزيا للبقاء رغم انهما لم يكونا في ذات النقطة .

امرأة ورجل .

لم يكن أحدهما يدرك وجود الاخر قط على مبعدة منه ، ولا يدرك لهاث الرحلة ا لمضنية والحلم الشارد في غيهب الاقتراب من الغرق . في النقطة التي كانت فيها لم تكن ترى شيئا سوى الماء. هو أيضا كان لا يرى شيئا سوى ذلك. هبطت الشمس قليلا. اقتربت لتلامس البرزخ الواقع بين امتداد البصر والخط الافقي البعيد. في حلقة دائرية تدور المرأة كما تدور الفراشة حول نفسها بحركة لولبية تقترب بدائريتها من الضوء الذي به تحترق . تمنح حركتها للموج ولذلك الاحتدام العاصف بخلايا الجسد. تنوس في الوحشة لتغتسل حورية وهبت نفسها للابحار فوجدت وجه الموت .

من يمنع انحدارات الشهيق فيك عن خلاياي؟

حتى أنت لا تستطيع ! بفراقك لا تستطيع . حين لا أعول على وجودك أيها الحبيب معي يكون حضورك أقوى ما يكون في. الحب بصيرة لا بصر.

أيها الحب ... أية سطوة لبرازخ الفردوس والجحيم في جنباتك ؟

ايتها الطبيعة .... ايها البحر.... أية سطوة لرياح الفردوس والجحيم في قاعك ؟

كلاكما لا يأتي الا مرة واحدة . حين يأتي فردوس الحب يمنع لقيا الجداول بالخرير فينقلب الى الجحيم وحين تأتي شهوة البحر يجىء الفرق ... بعدها ترتبك بوصلة الجهات كلها حدس ما يثير فيه صدى ضعيفا لمزامير التيه . كان كمن يلهو بالنجوم والنيازك ويقترب من بواباتها المفتوحة والمشرعة على متاهة الذوبان أو الفناء. ان عالمه لم يكن يساوي شيئا مقابل هذا الخضم الشرس الذي سيسلب منه الوجود. وهو على الشاطىء معها وقبل ان يدخل لعبة البحر سألها:

- لماذا انت محتدمة الى هذا الحد؟

- ان كان ارتحالنا معا في زورق الحياة لم يوحدنا فإننا لا نليق ببعض .

- صراعاتنا كلها ساذجا.

- لو كانت كذلك لما تشبثت كل لحظة بمحاولة فرض سيادتك واذلالي .

- انك انت التي تغامرين بحبنا مقابل إثبات وهمي للذات .

- أ لم يكن تميزي وحريتي الداخلية هي التي ابهرتك في ؟ ثم من قال إن اثبات الذات شي ء وهمي أو أنه نقيض الحب ؟ كل شي ء في اصبح يزعجك وهكذا نحن ندور في دورة لا تنتهي.



قررا أن يختصما أو يفترقا. ان ينأى طريق كل واحد منهما عن طريق الآخر. في لحظة القرار الصعب أراد أن ينزع عن نفسه سطوة القلق والضيق سلم نفسه لأمواج البحر واعتلى الاصداف ممسكا بصهيل مكتوم يكاد يخنقه . لم يلاحظ بعد ذلك كيف كانت تتأمله في حيرة وكيف حين دخل البحر حتى ذاب فيه رمت نفسها هي الاخرى لهذيان اللجة وشهوة السباحة دون ان تدرك او يدرك هو فيما بعد اختلاجه الوقت القادم والبحر يلقى بشفرة المخاض والترصد فيهما. كل واحد يصارع لحظة موت لا لحظة حب ، لحظة بقاء لا لحظة صراع فج .



انك بعيد أيها الرجل كبعد نجمة في سمائها. لو كان بإمكاني أن أرى ذرات هذه النجمة كان بامكانك ان تواني. هكذا انت في اللامحدود والمطلق والوهم وهكذا أنا أترقبك كما يترقب البحر بريقا بعيدا.



هل رأيت كيف تتوحد خارطة الأزمان ؟

هل رأيت كيف يستفيض القدر بالذي تجيئك امرأة طازجة وشفيقة كالصباح وانت تعتمها بمسائك . الساعدان يخفقان في وجه الأشباح البحرية الضاجة بالصخب والحصار،. ينتفض الموج وترتعش المياه تحت سكون الروح واحتدامها وهي تسلم ارادتها لشيء من الوهن .

في لحظة أخرى حرجة التفتت ... كانت تبحث عنه . لمحته يتخبط مثلها في الماء. يرفع رأسه تارة ويفرقها في الموج تارة أخرى. بصعوبة شقت المسافة الافقية بينهما. لم تكن الا برهة وهو يصرخ باسمها اقتربت منه أكثر قرأت في وجهه كل أيقونات النداء والشوق والفرح .

على هامش الموت وولادة الأسرار اتكأ على احد ذراعيها فأخذت تبلبط بالذراع الاخرى. لا نأمة غير المجهول والارتياب . مرتجف في حضرتها وفي غواية المفاجأة . مقتربا من تخوم المعرفة الرهيفة حين تضج اللحظات بالغياب . هذه المرة هي التي اتكأت على ذراعه وهو الذي جعل يتخبط في الماء بالذراع الاخرى. هكذا معا اتقنا فعل التناوب لتخطي بوابة العدم وهكذا كانا معا كأبهي ما يكونان دون مساومات من يتفوق على الآخر.

وهكذا ببساطة قال لها:

- في ازمان غابرة كنا معا. كنا شيئا واحدا.

قالت له :

- وفي هذا الزمان نحن أيضا معا.

- كنا معا حتى انفصل النصف عن نصفه الاخر ثم ظل يبحث عنه وما إن يجده يعود ليفرط فيه .

- هل كنت نصفك الحقيقي؟

- والا ما أحينك كل هذا الحب

- ربما بعد ان اقترب الموت وكاد اليم

- الحب لا يكتسب بريقه الا في الازمات .

- هل نسيت ما نحن فيه . ركز فقط على النقطة التي يجب ان نصل اليها.

- قد يكون هدفا بعيدا.

- وقد لا يكون !

في الحضن الذي دخل فيه استمد قوة وحضورا. الطلاسم تحتشد وتفتت حصار الغياب . مسكون بها وهي مسكونة به وحدهما يدركان الان سر اللعبة وسر تلك الاحابيل التي يمارس الانسان طقوسها وهو يعتقد ان حياته مبنية على قوة مستمدة من تفوق وهمي. يتوحدان . جسدان بزغا عنوة في غفوة الماء. يتحركان كما لو كانا نائمين . تهرول الاطراف مرفرفة على البحر الصاخب . تستل من شظايا الروح رعونة أزلية انقلبت الى غريزة خالدة للبقاه.. وربما قبلها أو بعدها الى غريزة الحب والاكتمال . تزداد الهوة اتساعا.. هكذا تخيلا فجأة وهما يتكئان على بعضهما في سباحة تبادلية جديدة . يتحسس كل منهما أنفاس الاخر.

- ان نجونا لن نعود الى تلك الرعونة

- ان نجونا.

تكتظ كائنات البحر بهما. ترفو لهما قاربا يخوض في الجهات كلها ولا يتعب .

- الحياة امرأة ورجل .

- بهما تكتمل العناصر كلها

-هل تعتقدين اننا سنصل الشاطىء بأمان ؟

-هل تعتقد اننا سنصل الى انفسنا؟

لو نجح الموت في الانقضاض على المسافة الباقية .. لحظتها لا يجدي شىء. اصيب بالدوار والوهن . تماسكت. أصيبت بالدوار والوهن . تماسك . اليأس يلقي بحباله فوقهما ويهرول بعيدا لينسج شبكة عنكبوتية من التوغل في العتمة والغموض لم ينحسر الوقت عن الزبد... لم يعد بإمكان احدهما ان يستل اطرافه من الانتفاضة الضائعة في سطوة البرزخ المتذبذب بين الموت والحياة .

ألمهما يشبه الم الطهارة . يتطهران من نتوءات وهمية استنفذت اجمل ما فيهما وفي العلاقة الصمت المشدود يدرب حواسهما تلك اللحظة على المجازفة الاخيرة . همس بصعوبة :

- كأني أرى أول القيامة

- هل هي نبوءة ام مجرد لحظة متشائمة

همس ايضا:

-البحر لا يبتلع المتمرسين

- التجربة وحدها تولد التمرس

يتخبطان معا في المجازفة . لماذا يجعلهما العراء صدفتين ذائبتين في القاع . لم يحتملا عدوان الطبيعة ورغم ان الهواء يسترق وهافته من وجهيهما الا انهما لم يجرا على فعل الاسترخاء فوق سطح الماء.

-هل هو ناموس العلاقة ان يوجد دائما ما يكدرها؟

- تتحدث وكأنك درويش

هكذا يتوسدان البحر. يستلقيان على ظهريهما ويتجولان بعينه في الحزم الضوئية للسماء يغمضهما اتفعل مثله ؟ تجد نفسها في رهبة جديدة تعانق الطبيعة فيها أطرافها الفسيحة . ولاول مرة : يتوقفان عن الكلام . يتركان جسديهما متقابلين تلامسهما ارتجافات دفيئة تتسرب من القاع ومن الحزم الضوئية الشفيفة . لكأنهما في بكارة الخلق الاول .



لحظة خرافية يدخلانها اول مرة يتوحدان فيها بجسد البحر... المزمور الاول في الطبيعة الساحقة او الحنونة كجسد الام المفقود. يستعيدان اساطير الاجداد حول الراحة المفقودة منذ ان تم الانفصال . ينقلبان . الدفقة الجديدة من الطمأنينة تضرب الماء بساعديهما وترفرف بالقدمين . من يردهما من بعيد يوقن انهما في نشوة السباحة أو انهما أول الرحلة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى