علي الصوافي - تلويحة الرّصيف.. قصة قصيرة

عند منتصف الليل أو قبله بقليل

بعد أن هدأت الشوارع من ضجيج المارة ودوران عجلات السيارات ومباغتات رجال الشرطة وبعد أن طوى أصحاب المحلات دكاكينهم المَفروشة طوال النهار وأوصِدت الأبواب والنوافذ وفتحات المنازل وصحت الأسرة في مشاكساتها الليلية ، في ذلك الوقت خرج الرجل من منزله بعد نهار طويلٍ مليء بالسجائر والركض والأرصفة والاشتباكات، خرج الرجل من منزله في الشقة رقم (8) بالدور الخامس للبناية التي خلف الشارع الرئيسي تماما والمقابلة للمجمع التجاري الأكثر شهرة في المدينة...

في ذلك الوقت يبدو كل شيء منظما وهادئا عدى بعض الأصوات الليليية العابرة التي كانت تتكاثر ببطئ أو تختفي بسرعة في الحانات والأزقة الضيقةِ ومواقف السيارات ، في هذه المدينة المطفأة كل يمارس وحشته وأحاديثه وقهقهاته كما يكره أو كما يكره.



كان الرجل قد تجاوز الشارع الفاصل بين منزله ومحل البقالة الملاصق لمواقف السيارات الخاصة بالبناية وكان الشارع مطفأ بأكمله ، وكان كما لو أنّ ماسًا ما قد عطّلَ الإنارة فالشّوارعُ والمَساراتُ الجانبية على امتدَادِها بَدت مظلمة، وكان الرجل يمشي على الرّصيف، وكان أن قفز إلى الضِّفَّةِ الأخرى من الشّارع ،ولم يمكث الرّجل في دورانهِ كثيرًا حولَ البنايةِ فأدار ظهرهُ للمَدخلِ الرّئيسي وَمسحَ المَدى بِنظرةٍ سَريعةِ تجَاوزت سُمكَ الظّلمةِ الى الشّارع العام الّذي يضُحُّ بالإنارة.



... ومَا كان من أمرِ الرّجُلِ أنَّهُ كان يَبرحُِ مَنزِلهُ في نَفسِ التّوقيتِ يَمشي ملوحًا بيديهِ حَاملاً حَقيبةً مُعلقةً على ظَهرهِ مُنتصفَ النّهارِ حَيثُ تَفرشُ الشّمسُ أشِعّتها على الأشجَارِ ورٌؤوسِ المَارّة وأسطٌحِ البِناياتِ وعَلى صَلعةِ الرّّّجلِ المَلساءَ الّتي تَعكسُ خَرائطَ المَدينةِ بكل انحِناءاتِها وخَباياهَا، يَمشي الرّجلُ ذَارعًا الأرصِفةَ والمَحلاتِ والمَطاعمَ وَمواقفَ البَاصاتِ وسَياراتِ الأجرَةِ لايَتكلّمُ أبدًا إلا عن الوَقتِ أو السّاعةِ أو البَوصلةِ وهوَ في كُلِّ هذا لا يَتحدثُ إلا مع نَفسهِ وإذا تَصادفَ وكَلّمهُ أحدٌ يَرفعُ ثَوبهُ الى نِصفِ سَاقَيهِ ويَجري تَاركًا غُبارًا من الأسئِلةِ وعُيونًا تَركضُ وَراءَهُ وضَحكاتٍ تَتداخلُ مع ضَرباتِ نِعالهِ على اسمَنتِ الشّارعِ حيثُ ينَحني الرّجلٌ أحيانًا فاتحًا ذِراعيهِ كالطّائرِ ثم يَركضُ على خَطّ التّشجيرِ بِمحاذاةِ الشّارع ِمُلوحًا على السّياراتِ والمَارّةِ بِحديدةٍ طَويلةٍ تُشبهُ حَديدةَ الحَفرِ ، يَقضى الرّجلُ نهَارهُ مُشاكسًا المَارةَ بِحديدتهِ ولا يَعودُ الى مَنزلهِ إلا عند الغُروبِ حيث يَلبدُ على مَدخلِ البِنايةِ وبَعدها الى مَنزلهِ في الدّور الخَامسِ .. كانت هذه المَرّةُ الأولَى الّتي يَخرجُ فيها الرّجلُ في مُنتصفِ اللّيلِ ..

خَرجَ الرّجلُ لَيلاً ...

المَساءُ في المَدينةِ الليلة أطولَ من المُعتادِ وعلى الرُّغمِ من هُدوءِ الطُرقاتِ والمِساحاتِ الشّاسعةِ للظُّلمةِ إلا أن الرّجلَ الذي كان يَبرمُ الرّصيفَ بِقدميهِ كان يَشعرُ بِجَلبةِ خُطواتٍ تتدافع وراءه .

تَوقفَ الرّجلُ قَليلاً وانتصَبَ فَاردًا طُولَهُ ثُمَّ التفتَ الى وَراءهِ " تفوو" وأدارَ ظَهرهُ الّذي كان مُتنملاً نحو الخَلفِ ثمّ نَحوَ الأمَامِ ثُمّ وَاصلَ مِشيتهُ بِخطواتٍ مُتأرجِحةٍ وهو يُغنِّي أو يَضحكُ أو يَبصق حتى انتهى الى الشَّارعِ الرئيسي ومن ثَمّّ الى مَواقف سَيّاراتِ الأجرةِ على الخَطِّ المُقابلِ بعد أن عَبرَ الجِهةَ اليُمنى من الشّارعِ العَامِ والَّذي بدا على امتِدادهِ نَاصعًا كمَا لو أنّهُ غُسلَ لِلتَّوِّ حيث كانت الشّاحناتُ الكَبيرةُ الّتي مَسحت الشّارعَ ولمّعتهُ كمَا يُلمّعُ الحِذاءُ قد مرّت لتوّهَا مُواصلةً سَيرهَا البَطيءَ وَتنظيفَها المُتقنَ باتِّجاهِ النُّقطةِ الأخرى من الشّارعِ العَامِ تاركةً الشّارعَ يتلألأ كَصفحةِ المَاءِ حيث سيمر المراقب في بِدايةِ الصّباحِ فَاحصًا الأسمنت والمساحاتِ الجَانبيّة المُبلطة أو المُعشّبة لِيرفعَ تَقريرهُ لرئيسٍ البَلديّةِ .

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير هذهِ المرة وذلك كما أشارت دَقات السّاعةِ المثبتة على تمثال إسمنتي وسط باحة الحي التجاري المُجاورِ ، كانت السّاعةُ الثَالثةُ والرّبع صَباحًا عندما انتَصبَ الرّجلُ بِمحاذاةِ الشّارعِ بعد أن أخرجَ من مَلابسهِ عَمودَهُ الحَديديّّ غَيرَ عابئ بِطولهِ وَلا بِغلظتهِ وَلا حتّى بِجانبيهِ الحَادّينِ وبدأ كَعادتهِ في السّاعاتِ النّهاريةِ أيضا التَلويحَ بِيدهِ تَارةً وبالعَمودِ الحَديديّ تارةً أخرَى .

وبعدَ فَترةٍ من التّلويحِ ومن اللّيلِ ومن الرّكضِ نَجحَ الرّجلُ هذه المَرُة على الرّغمِ من الهُدوءِ الُذي يَعمُّ المَكان في تِلكَ السَّاعةِ من إيقاف مَجموعةٍ من سَياراتِ الأجرةِ وخَمسةِ أشخاصٍ آخرين تَصادفَ خُروجُهم من حَانةٍ بإحدى الفَنادقِ المُجاورةِ كانو يَمشونَ باتجاه مَحطّةِ البَاصاتِ وَسطَ ضَجّةٍ من الانتشاء والسُّّعالِ والضّحكِ حيث وَقفوا أمَامَ الرّجلِ الّذي كان مُنتصبًا على أحدِ الكراسي المَوجودةِ باستراحةِ المَواقف:

(هيه اس سسسسسسسس ...اجلسوا جَميعُكم... لا اقتربوا أنتم سَأخبركم اللّيلةَ سرًّا ولكن تفو... أنتم لاتفهمون) كان أحَدُ سَائقي سَياراتِ الأجرةِ يَلعبُ بِميداليةِ سَيّارتهِ الّتي كانت على شَكلِ تِمساحٍ زُجاجيٍ بِداخلهِ سَائلٌ زِئبقيٌّ وَكراتٌ مُلونةٌ وفُقاعاتٌ تَسبحُ في فَضاءِ الزّجاجِ ، قَذفَ السّائقُ الميداليةَ في الهَواءِ ثُمّ التَقطها بِحركةٍ بَهلوانيةٍ من خَلفِ ظَهرهِ بينما كان الأخرُ قد بدأ يُشعلُ سيجارةً سَحبها من أُذُنهِ اليُمنى ، حَاولَ السّائقُ إشعال السّيجارةِ بَعد أن كَشطَ بِعودِ الثقاب على عُلبةِ كِبريتٍ صَغيرة من نوع " المقص " ولَم تَشتعِل ولكِنّهُ عَاودَ مَرّة أخرى بِكشطةٍ مُعاكسةٍ للاتجاه فأشتعَلَ عودُ الثّقابِ حتى كاد الفَتيلُ أن يُلامسَ شَعرَهُ المَتروك بإهمال على مُقدّمةِ رأسِهِ وبدأ يَنفِثُها باتجاهِ الرّجلِ الّذي صَرخَ:

(أقول لكم أن الملك سيموت الليلة في الدقيقة الأخيرة من هذا المساء....اييه.. لا تقلقوا أبدا سيأتيكم ملك آخر)

كان الرّجلُ يَتكلمُ وَعينيه للأعلى كمَا لو أنّه كان يُشيرُ الى شَيءٍ ما في الأدوارِ العُليا للبناياتِ المُجاورةِ وكان يَصرخُ على سائقي الأجرَةِ الّذين كانو مُتشاغلينَ عنه، والأشخاصِ المُترنحين والُذينَ تكوّمُو على المِقعدِ المُقابلِ للرّجلِ تحديدًا قريبًا من صَفيحةِ االقمامة المُعلّقةِ على الحَائطِ الجَانبيّ لاستراحةِ المَواقفِ والّتي كانّت بِلونٍ يَتناسبُ تمامًا مع اللّونِ الأصفرِ الّذي صُبغت به مِظلّة الاستراحةِ. قَفزَ الرّجلُ من المِقعدِ الّذي كان يَقفُ عَليهِ وبصق ثم صرخ:

(أنتم أيها العاطلون ستكونون رعايا الملك الجديد ، أما انتم هناك سائقو الأجرة فد يبصق الملك على رقابكم تفو ..قلت..سيموت الملك الليلة بعد آخر مضاجعة له هذا المساء)

انتفَضَ الجَميعُ بعد أن شَاهدوا دَوريّةً للشُرطةِ قَادمةً تُلوِّحُ من بَعيدٍ وقَفزوا فَوقَ السّياراتِ الّتي اختفَت في لَمحِ البَصرِ تاركينَ الرّجلَ يَصرخُ وَيلوِّحُ في الهَواءِ بِعمودهِ الحَديديِّ الّذي يُشبهُ أداةَ الحَفرِ.

* * * * * *

( لَم تَكن مَلامحهُ دَقيقةً تمَامًا ، جَبينهُ كان مُلتويًا ومَليئًا بالخُطوطِ والنّدوبِ الجِلديّةِ ، يَدهُ اليُسرى أصبحَت بِثلاثِ أصابعٍ فَقط، كمَا أنّ شَعرهُ الّذي كان طويلاً صارً أطول لكنّني استطعت مُؤخرًا معرفةَ أنّ المَجنونَ الّذي يَمشي بدونِ صِبيةٍ يَركضونَ وَراءهُ بِمحاذاةِ الشّارعِ ذارعًا الأرصِفةَ على امتدادِ المَدينةِ طيلةَ النُهارِ كان حامد)

خليفة أحمد الصديق الأقرب لحامد حمد في الفترة من( 1972-1976)



(... كُنتُ عَائدةً الى المَنزلِ حينما لاحظتُ أن شيئًا ما يُشبهُ الشّبح قد قَفزَ نحو الشُارعَ العام وكانَ بِيدهِ عَمودً حَديديًّ ولأنه كانَ دائمًا يَلبسُ نَعالاً أشبهُ " بالقبقاب " وكان خَفيفًا كمَا لو أنّه كان دائمًا يَستعِدّ للرّكضِ، وكان يُلوِّحُ بِيديهِ الضّيئلتينِ اللّتينِ عرَفتُهما جَيّدًا حيثُ لا يَزالُ الخَاتَمُ بِيدهِ اليُمنى، و...)

زينب سليمان خطيبة حامد التي عادت معه من الدراسة عام 1971

(كنت أنتظر أن يغرس آلته الحديدية على جبيني حيث كان قد صوبها بين عيني عندما كنت أمر وحيدا في الرابعة عصرا بمحاذاة الرصيف الجديد الذي كان مفروشا بالبلاط ثم أصبح مقسما الى أحواض زراعية وكان ذلك باتجاه جسر المشاة ولكنه أنزل حديدته وضرب بها على مفترق قدميه ثم رفع ثوبه وركض)

أحد المارة عام 1996 بالقرب من جسر عبور المشاة

في الشارع المنتهي إلى لسان البحر ومن ثم إلى الحي التجاري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى