آنا راكيل مينيان - أمريكا التي لم تكن دائمًا محبسًا للمهاجرين.. ترجمة : محمود إبراهيم القرش

سياسات الاحتجاز الحالية وجذورها التاريخية المحددة

الزمان هو الأحد الماضي والمكان هو الحدود التي أطلقت قوات حرسها قنابل الغاز المسيل للدموع في مواجهة طالبي اللجوء من المهاجرين القادمين من أمريكا الوسطى بما فيهم الآباء مع صغارهم ، حدث ذلك في نفس الوقت الذي يقبع فيه أكثر من 40000 مهاجر آخرين في مراكز الاحتجاز في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وكما جذبت سياسة "عدم التسامح مطلقًا" التي انتهجتها إدارة ترامب في وقت سابق من هذا العام انتباه الجميع والتي فصلت الأطفال عن آبائهم أثناء احتجازهم، جاءت مشاهد إطلاق الغاز المسيل للدموع على المهاجرين القادمين من أمريكا الوسطى صادمة لوجدان الأمة واستنكر مواطنون كُثر ذلك العمل واصفينه بالغيرإنساني. بيد أنه لم يتطرق أحد على ذكر الحقيقة العارية التي مفادها أنه حتى وإن تمكن هؤلاء المهاجرون من عبور الحدود والتقدم بطلب للجوء ، فإن العديد منهم ينتهي بهم المطاف إلى شكل ما من أشكال الاحتجاز أو ما شابه.

ومن الضرورة بمكان أن نقر في هذا المقام أن احتجاز المهاجرين لم يكن يُنظر إليه دائمًا على أنه أمر طبيعي بل على العكس من ذلك ، فإن تاريخ قضية احتجاز المهاجرين كان تاريخًا قصير الأمد ولكنه شديد التعقيد حيث أقرت الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها قانون احتجاز المهاجرين في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن بحلول أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، بات أمر احتجاز المهاجرين غير ذي شأن بسبب انخفاض الهجرة الأوروبية والأسيوية بشكل غير مسبوق نتيجة لقانون الهجرة الصادر في عام 1924م وفترة الركود العظيم. وفي عام 1954م، توصل مسؤولو دائرة الهجرة والتجنس إلى أنه يمكن إطلاق سراح الغالبية العظمى من المهاجرين بموجب " الإفراج " المشروط ، بينما تظل قضاياهم قيد التحقيقات مع الإبقاء على احتجاز المهاجرين المحتمل فرارهم أو الذين يشكلون تهديدًا للأمن القومي أو خطرًا على الأمن العام. وبحلول يناير 1955م ، لم يتبقى في مراكز احتجاز المهاجرين سوي أربعة أشخاص فقط يطالبون بدخول البلاد.

ألقت تلك الأحداث بظلالها بشكل جلي على قضية لينج ماف باربر حيث أقرت المحكمة الدستورية العليا في عام 1958م أن "الاحتجاز البدني للأجانب بات الآن الإستثناء وليس القاعدة" ، مشيرةً إلى أن "هذه السياسة الجديدة تعكس بما لا يدع مجالاً للشك الصفات الإنسانية للحضارة المستنيرة". والآن دعونا نتسائل كيف استمرأت أنفسنا إلى هذه الدرجة ليس فقط بشاعة الاحتجاز وانحطاطه كعمل غير إنساني ولكن أيضًا تشتيت شمل أفراد الأسرة الواحدة وإطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم؟ وكيف انحدرنا إلى هوة سحيقة حين اعتبرنا أن احتجاز أكثر من 40000 مهاجر وراء القضبان أمرًا طبيعيًا؟ وتكمن الإجابة على هذه التساؤلات في هجرة الكوبيين والهايتيين في الثمانينيات فيما ما اصطلح على تسميته بهروب ماريل الجماعي Mariel Boatlift ، عندما فر ما يقرب من 125000 من الكوبيين إلى الولايات المتحدة في هجرة مسيسة بدرجة كبيرة كانت محط اهتمام وسائل الإعلام المحلية والعالمية وألقت بالخوف في نفوس العديد من الأمريكيين.

تبدو هذه الأحداث جلية في ثنايا حكايات أشخاص مثل ألبرتو هيريرا ، والذي قص أحداثها على مارك هام ، أستاذ علم الجريمة في ولاية إنديانا، حيث اعتبرالأمريكيون السيد هيريرا ومئات المبعدين الكوبيين الآخرين خلال فترة الثمانينيات أنهم يشكلون تهديدًا خطيرًا لهم للدرجة التي جعلت فكرة الاحتجاز تبدو مرة أخرى كطريقة مستساغة في إدارة ملف الهجرة. كان ألبرتو هريرا المولود في هافانا في عام 1952م هو الأخ الأكبر لسبعة أطفال وكان شأنه شأن العديد من الأخوة الأكبر سناً في تحمل عبء مسؤولية إعالة أسرهم ، لكنه كان يعاني في كوبا من شظف العيش ومن البطالة الدائمة مما جعل عائلته تتضور جوعا في أحيان كثيرة. وعندما بلغ سن الثامنة عشر ، قرر القيام بعمل شيء ما حيال ذلك الأمر حيث دخل إلى محل بقالة حكومي في هافانا وأخفى رطلين من جبن الماعز تحت سترته وهرب إلا أنه تم إلقاء القبض عليه على الفور وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. وانقضت السنوات السبع وخرج السيد هريرا من سجنه إلا أن فرصته في الحصول على وظيفة باتت أكثر صعوبة عن ذي قبل. وبعد إطلاق سراحه بأقل من خمسة أشهر وتحديدًا في 21 سبتمبر 1979م ، واجه السيد هيريرا مجددًا عقوبة السجن لمدة 13 سنة لسرقته بنطالين.

ثم ما لبث أن ابتسم الحظ للسيد هيريرا وهو في غياهب السجن وتحديدًا في الرابع والعشرين من حزيران 1980م، حيث كان على موعد مع القدر في ذلك اليوم إذ أتى إلى زنزانته أحد الحراس قائلاً له أنه سيوضع على متن قارب متجه إلى الولايات المتحدة. لم يكن يدري السيد هيريرا عن ذلك الأمرشيئًا ، لكن كانت قد أعلنت حكومة فيدل كاسترو منذ شهرين أنه في حالة رغبة أي شخص مغادرة كوبا فإنه يمكنه ذلك من ميناء ماريل. وفي استجابة سريعة لذلك الإعلان، انطلق الآلاف من المهاجرين الكوبيين المقيمين في ولاية فلوريدا على متن قوارب الصيد واليخوت والقوارب الشراعية لنقل أقاربهم. وفور وصول المهاجرين إلى ميناء ماريل، أبلغتهم الحكومة الكوبية بأنه إذا ما أرادوا نقل أقاربهم إلى الولايات المتحدة، فإنه يتحتم عليهم أيضًا نقل أي شخص آخر تريد الحكومة أن يصطحبوه معهم وقام مسؤولو الحكومة الكوبية بوضع المختلين عقليا والسجناء قسراً على متن بعض هذه القوارب والذي كان من بينهم السيد هيريرا.

أطلق السيد هريرا لخياله العنان وبدأ يحلم بالوظيفة بعد أن أصبح حرًا طليقًا و لا سيما بعد أن سمع بعض الركاب على متن القارب المبحرعبر مضيق فلوريدا وهم يتجاذبون أطراف الحديث عن ديزني لاند والسيارات الفارهة باهظة الثمن. وكما يقولون تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فبمجرد أن لامس القارب شاطىء ولاية فلوريدا، رأي السيد هيريرا أحلامه بالحرية تنهار أمام عينيه حيث انتشرت كالنار في الهشم أخبار إرسال حكومة كاسترو المجرمين والمختلين عقليا بين المبعدين القادمين من كوبا. وبرغم ضآلة عدد مرتكبي الجرائم وقلة خطورتهم، إلا أن شعور الشعب الأمريكي بالخوف من موجة المهاجرين كان الأوسع انتشارًا وتناميًا في نفوسهم وخاصة بعد تفاقم معدلات الجريمة في ميامي والتجمعات الأخرى التي استقر فيها المبعدون الكوبيون، مما دفع العديد منهم إلى المطالبة باحتجاز القادمين الجدد. وتوالت الأحداث واستجوب المسؤولون الأمريكان السيد هيريرا الذي كان سجينًا في كوبا و وقرروا وضعه هو وآخرين، من القادمين المشتبه في ارتكابهم جرائم، في المؤسسة الإصلاحية الفيدرالية في مدينة تالاديغا بولاية ألاباما.

وفيما يتعلق بشأن آلاف المبعدين الكوبيين الآخرين، فقد تيقن المسؤولون الأمريكان من براءة ساحتهم وقرروا وضعهم في القواعد العسكرية المنتشرة في طول البلاد وعرضها حيث انتظر هؤلاء المبعدون أن يقوم شخص ما (أو بعض المؤسسات) بكفالتهم إلى أن يتمكنوا من الإستقرار والاعتماد على أنفسهم. وانقضت عدة شهور غادر خلالها معظم المبعدون القواعد العسكرية، أما بالنسبة لأولئك الذين لم يكن لديهم قرابات عائلية أو معارف في الولايات المتحدة فقد واجهوا مصاعب جمة في العثور على من يكفلهم مما جعلهم في موقف لا يحسدون عليه، فبدون وجود من يكفلهم صار السبيل الوحيد للخروج من هذه المعسكرات هو مغادرة الولايات المتحدة ولكن لم يتمكن مسؤولو الحكومة من ترحيلهم لأن حكومة كاسترو رفضت عودتهم ونتيجة لذلك تم تمديد احتجاز هؤلاء المبعدين داخل مراكز احتجازهم في الولايات المتحدة لأجل غير مسمى مع تضاؤل احتمالات إطلاق سراحهم بعد أن تم وصم الكثير منهم بصفة " المعادي للمجتمع" برغم عدم اتهامهم بارتكاب أية جرائم.

باتت ممارسة سياسة الاحتجاز ضرورية وطبيعية في وجدان الأمريكان بعد أن بلغ بهم الخوف مبلغه من هؤلاء المبعدين لدرجة أنه لم يحتج ضد سجنهم سوى النذر اليسير منهم ولم يحاول مساعدتهم سوى قلة من رجال القانون، وبحلول عام 1982م ونتيجة لعدم وجود من يكفلهم ، تم وضع حوالي 400 من المبعدين الكوبيين القادمين من ميناء ماريل في سجن شديد الحراسة في أتلانتا ولم يعد هؤلاء المبعدون تابعين لمعسكرات إعادة توطين اللاجئين، والتي قُصد بها أن تكون مكانًا مؤقتًا لحين ظهور من يكفلهم، بل أصبحوا الآن نزلاء في السجون. وانضم نزلاء سجن أتلانتا الجدد إلى صفوف الكوبيين المبعدين في هروب ماريل الجماعي Mariel Boatlift والذين خرقوا القانون في الولايات المتحدة (أحيانًا بارتكاب الجنح) بالإضافة إلى أولئك الذين يُعتقد أنهم ارتكبوا جرائم خطيرة في كوبا. أما بشأن ألبرتو هيريرا الذي سبق أن أبلغوه عند وصوله الإصلاحية الفيدرالية في مدينة تالاديغا أن الإفراج عنه يعتمد على حسن السير والسلوك ، ولكن برغم أنه كان يتمتع بسجل مثالي إلا أنه لم يُطلق سراحه لأنه لم يجد من يكفله فانتهى به الأمر إلى الانتقال لسجن أتلانتا في 14 فبراير 1981م حيث التقى به هؤلاء السجناء.

وبسبب أزمة هروب ماريل الجماعي Mariel Boatlift واعتقاد مسؤولي الحكومة الأمريكية أن الاحتجاز وسيلة لردع المهاجرين، أصبح هؤلاء المسؤولون أكثر عزمًا وأشد تصميمًا على عدم السماح بتكرارها مرة أخرى فقاموا بوضع خطط طوارئ طالبوا فيها بإنشاء "مراكز احتجاز مناسبة تسع ما بين 10000 إلى 20000" مهاجر حتى يكونوا على أهبة الاستعداد في حال وصول مجموعة كبيرة أخرى من المهاجرين - ولا سيما الهايتيين الذين يفرون من بلدهم منذ عام 1971م - لمنعهم من الهروب بحرًا إلى الولايات المتحدة. وعند هذه النقطة اتضح أن مسؤولو الهجرة كانوا لا يزالون يميلون إلى اتباع سياسة الإفراج المشروط عن مواطني هاييتي ريثما يتم البت في جلسات الاستماع وتحديد حالتهم. وبرغم قيامهم على فترات متقطعة باحتجاز القادمين منهم من هايتيي ولكن بحلول عام 1981، أصبح مسؤولو الهجرة يحتجزون جميع الهايتيين القادمين دون عرض إمكانية الإفراج المشروط عنهم. ثم بعد مرور عام ، قامت دائرة الهجرة والتجنيس بشرعنة أعمال الاحتجاز الشامل ومددت نطاقه ليشمل جميع المهاجرين مع الإبقاء على الإفراج المشروط بشكل محدود للغاية.

في الواقع كانت تلك الإجراءات بمثابة انقلابًا على السياسة التي أشادت بها المحكمة العليا في عام 1958م، والتي أجازت إطلاق سراح معظم المهاجرين أثناء نظر قضاياهم. وبدلاً من الدفاع عن تلك السياسة ، حل محلها سباقًا محمومًا لتشييد بنية تحتية ضخمة لإنشاء مراكز الاحتجاز مدفوعًا في جزء كبير منه بالشركات الهادفة للربح ، مثل مؤسسة الإصلاح الأمريكية * Corrections Corporation of America. وكما يشير مارك داو ، مؤلف كتاب "الجولاج* الأمريكي: إطلالة داخل سجون الهجرة الأمريكية" أن أول منشأة افتتحتها شركة الإصلاح ضمت مهاجرين محتجزين وأصبح احتجاز المهاجرين جزءاً لا يتجزأ من توجه الحبس المتنامي في الثمانينيات. ثم أصبح هذا السجل التاريخي مبررًا لسجن المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء حيث احتجزت الحكومة في عام 2016م ما يقرب من 360000 شخص داخل سلسلة ضخمة تضم أكثر من 200 مركز احتجاز، تنوعت ما بين سجون المقاطعات وسجون يديرها القطاع الخاص ووصلت في عام 2017م إلى الحد الذي بلغت فيه تكلفة تلك المنظومة الضخمة للاحتجاز قرابة 2.6 مليار دولار.

إن المتأمل في سياسة ممارسة احتجاز المهاجرين اليوم في ظل استمرار فرار سكان أمريكا الوسطى من بلدانهم الأصلية إلى الولايات المتحدة لا يكاد يدرك فشل منظومة اللجوء لدينا، والذي يمتد فيها ذلك الفشل إلى ما هو أبعد من حالات مواجهة المهاجرين بالغاز المسيل للدموع وفصل الأطفال عن ذويهم، حتي تنجلي أمامه حقيقة تلك المنظومة التي تم تصميمها في حد ذاتها بهدف التعامل مع المهاجرين وطالبي اللجوء على أنهم مجرمون حتى يتسنى وضعهم خلف القضبان. ودعونا نقول ليس هكذا تورد الإبل حيث يعلمنا تاريخ احتجاز المهاجرين أنه يمكن التعامل معهم ومع طالبي اللجوء في إطار منظومة أكثر فعالية من حيث التكلفة وأكثر رقيًا من حيث الإنسانية. وختامًا ، فإن تلك المنظومة الفعالة كانت موجودة في الفترة ما بين عام 1954م و1980م وكانت في موضعها الصحيح.

ـــــــــــــــــــــــــ
· Corrections Corporation of America* هي شركة متخصصة في بناء وإدارة السجون ومنشآت الاحتجاز.
· جولاج* أو معتقل سيبيريا هو الإسم الذي كان يطلق على معسكرات الاحتجاز السوفييتية ويرجع تاريخه إلى عام 1918م

مصدر الترجمة : نشر هذا المقال في جريدة النيويورك تايمز بتاريخ 1 ديسمبر 2018م بقلم د. آنا راكيل مينيان أستاذة التاريخ في جامعة ستانفورد وباحثة في شؤون الهجرة.
يمكن الاطلاع على النص الأصلي باللغة الإنجليزية على الرابط الآتي:
Opinion | America Didn’t Always Lock Up Immigrants

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى