عبد القادر الأسود - البحر في الأدب العربي دراسة أدبية .. 2- باب البحرُ في القُرآن الكريم

باب
البحرُ في القُرآن الكريم

وَرَدَ ذكرُ البحرِ في القرآنِ الكريـمِ أكثرَ من ثلاثين مرَّةً،وكان للإنسانِ مع البحر في كتابِ اللهِ شأنٌ عجيبٌ، فقد كان السببَ في نَجاةِ سيّدِنا موسى{عليه السلامُ}مرتين ،
الأولى:حين ولادتِه حيث تنبّأ المنجِّمون لفرعونَ ، حاكمِ مصرَ بأن مولوداً سيُولَدُ هذا العام ، سوف يُقوّضُ له ملكَه ويَذهبُ بسلطانه ، ولذا أمرَ فرعونُ الطاغيةُ،بالتخلُّصِ من جميعِ مواليدِ هذا العامِ من الذكور ، وتَخاف أمُّ سيدِنا موسى على وليدِها، ويأتيها الأمرُ الإلهيُّ العجيبُ بأنْ تَضَعَه في تابوتٍ ثمّ تلقيه في البحر ، ويا له من أمر ، كيف تلقي أمٌّ بطفلِها في البحر إذا خافت عليه!لكنّـه الإيمـانُ يفعل الأعاجيبَ.

ويوضَعُ الطفلِ الوليدُ ((موسى)) في التابوت ويُلقى به في البحرِ لِيَصيرَ إلى بيتِ عَدوِّ اللهِ وعدوِّهِ فرعون ، حيث يتربّى هناك ليَهدِمَ هذا العرشَ الظالمَ بعد ذلك ويا له من عُجاب ، يقول ـ جلَّ شأنه ـ في كتابِه العزيز : (( ولقد مننا عليك مرةً أخرى * إذ أوحينا إلى أُمِّكَ ما يوحى * أن اقذفيه في التابوتِ فاقذفيه في اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليمُّ بالساحلِ يأخذْهُ عدوٌّ لي وعدوٌّ له وألقيتُ عليكَ مَحبَّةً مني ولتُصنعَ على عيني إذ تمشي أُختُكَ فتقولُ هل أدُلُّكم على مَن يكفُلُهُ ، فَرَجَعْناكَ إلى أُمِّكَ كي تَقَرَّ عينُها ولا تحزنَ )) . (1)

فانظر إلى عجيب أمر الله كيف جعل فرعونَ يتبنّى موسى ليتربى في كَنَفِـه بدل أن يقتُلَه ، بل أخذ يبحثُ له عن مُرضعٍ تَكفلُهُ إذ منع موسى من أن يَرْضَع غيرَ ثديِ أمَّه ، ليعيدَه الله إليها ولتقرَّ عينُها كما وعدها .

ثم كان لسيدنا موسى مع البحرِ ، قصّةٌ أخرى إذ كان سبباً لنجاتِه مرّةً ثانيةً وذلك يوم تبعه فرعونُ بجنودِه ليَقضيَ عليه وعلى مَن مَعَه من المؤمنين ويأتيه الأمرُ الإلهيُّ بأنْ يضرِبَ بعصاه البحرَ ، فإذا بالبحرِ ينشطِرُ إلى شَطرين عظيمين ، بينهما طريـقٌ يابسةٌ ، فيسلكه موسى بمن معه من المؤمنين ، ويتبَعُهم فرعونُ بجنـودِهِ ولكن ما إنْ يخرجْ موسى وقومُه من البحرِ ويكون البحرُ قد انتصف بفرعونَ وجنودِه حتى يأتي الأمرُ الإلهيُّ فيبتلعَ البحرُ فرعون وجندَه قال تعالى : (( وإذ جاوزنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون)) . (2)

وقال في سورةٍ أُخرى بشيءٍ من التّفصيلِ :(( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إلـه إلاّ الذي آمنتْ به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلمين * آ لآنَ وقدْ عَصَيْتَ قبلُ وكنتَ من المُفسدين * فاليومَ نُنَجِّيكَ ببدنِك لتَكونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آية)) . (3)

وهاهو البحرُ مع سيِّدِنا موسى في قصّةٍ ثالثة ، يومَ رَكِبَهُ مع سيدنا الخَضِرَ{عليهِمَا السلامُ}وخَرَقَ الخَضِرُ السَّفينةَ التي كانت تُقِلُّهما ، ويعترضُ موسى لكن الخَضِرَ يخبرُه بأنّه إنّما فعل ما فعل بأمرِ اللهِ سبحانه ، ذلك لأنَّ مَلِكاً ظالماً كان يتربَّصُ بالسُّفنِ ليغتَصِبَها فعاب الخَضِرُ السّفينةَ لتنجوَ من ظلمِ المَلِكِ بأمرٍ منَ اللهِ العليمِ الحكيمِ ، يقول جَلَّ مِن قائل : ((فانطلقا حتى إذا رَكِبا في السَّفينةِ خَرَقَها قال أَخَرَقْتَها لتُغرِقَ أهلَها لقد جئتَ شيئـاً إمْراً * قال أَلَمْ أَقُلْ إنّكَ لن تَسْتَطيعَ معيَ صَبْراً *)) . (4)

ثم يخبره بعد ذلك عن السبب قائلاً : (( أَمّا السّفينةُ فكانت لمساكينَ يَعْملون في البحرِ فأردْتُ أَنْ أَعيبَها وكان وراءهم ملكٌ يأخُذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً )) . (5) أما نبيُّ اللهِ يونسَ {عليه السلام} فإنّ له مع البحرِ شأنٌ آخر حيث مَلَّ قومَه بعد طولِ إقامةٍ فيهم ، ويئس من استجابتِهم بعد أن دعاهم إلى الإيمان طويلاً دونَ جَدْوى ، فقرر أن يفارقَهم وأنْ يَدَعَهم وكُفْرَهم ويَمضي إلى أرضٍ أُخرى ، فركِبَ سفينةً مع مَن رَكِبَ ، وما إنْ أصبحتِ السّفينةُ في عُرْضِ البحرِ حتى هاجَ البحرُ وماج ، وأَرْغى وأَزْبَدَ ، فكان لابدَّ للمَلاّحِ مَن تخفيفِ حُمولةِ السفينــةِ والتضحيَــةِ ببعضِ رُكّــابِها ليَنْجوَ الباقون ، واسْتَهَمُوا ، فأَتى السّهمْ على سيدِنا يونسَ بنِ مَتّي ، نَبِيِّ اللهِ{عليه السلامُ} فقُذِفَ به إلى البحرِ ، فالْتَقَمَه حُوتٌ عظيمٌ وسُرْعان ما فَطِنَ سيّدُنا يونسُ إلى ذنْبِه بِتَرْكِهِ قَوْمَه الذين أُمِرَ بِدَعوتِهم وعَرَفَ بأنَّه كان عليهِ أنْ يَصْبِرَ عليهم ، فأحْسَنَ الظنَّ بالله تعالى بأنّه سوف لن يضيّق عليه ((يَقْدِر عليه)) فالْتَجَأ إلى ربِّهِ مُعْتَذِراً طالباً الصَّفْحَ والمَغْفِرَةَ ، وقبلَ اللهُ توبتَه فنجّاه مما هو فيه،يقول سبحانه :((وذا النون إذ ذهب مُغاضباً فظنّ أن لن نَقْدِرَ عليه فنادى في الظُلُمَاتِ أنْ لا إلهَ إلاّ أنتَ سُبحانَك إنّي كنتُ مِن الظّالمين * فاستجبنا له ونجَّيْناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)) . (6)

وقد وردَ ذكرُ البحرِ في كتابِ اللهِ عَزّ وجلّ مُفرَداً ومُثَنّى وجَمْعاً:((وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) . (7)

وفي نفسِ المعنى يقولُ اللهُ تعالى : (( قُلْ لو كان البحرُ مِداداً لِكلماتِ ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبـل أنْ تَنْفَـدَ كَلِمَاتُ ربّي ولو جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً )) . (8)

ذلك لأنّ البحرَ ، مهما كَثُرَ ماؤه ، هُو مَخْلوقٌ للهِ تعالى ، بينما الكلامُ صفتُه سبحانه ، والصِّفةُ إنّما تكونُ مُتَعلِّقةً بالموصوف .

وبما أنّ اللهَ لا يَحُدُّه شيءٌ ، كذلك صفاتُه ، فالشيءُ مخلوقٌ ، وأنّى للمخلوقٍ أنْ يَحُدَّ خالقَه ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

وفي آيةٍ أُخرى يذكرنا ربُّنا جلّ شأنُـه بنعمه علينا ، ومن هذه النعم العظيمة أن سخّر لنا البحر ليحملنا وأمتعتنا ، ولنستخرج منه اللحم الطريّ واللآلئ والمرجان ، وغيره مما ينتفع به الإنسان فقال : (( الله الذي سَخَّرَ لكمُ البحرَ لتَجْرِيَ الفُلْكُ فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)) . (9) ((وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) . (10) وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) . (11) ((وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون)) . (12) (( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا)) . (13) (( وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ )) . (14) (( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور).(15)

وفي قوله تعالى : (( أمْ مَنْ جعلَ الأرضَ قَراراً وجعلَ خلالَها أنهاراً وجعلَ لهـا رواسيَ وجعلَ بينَ البحرينِ حاجزاً أإلهٌ معَ اللهِ بلْ أكثرُهم لا يَعلمون )) . (16) يدلُّنا ربُّنا على آيةٍ عظيمةٍ من آياتِه كدليلٍ على عظيمِ قدرتِه لتطمئنَّ النَّفسُ بإيمانها ألا وهي تلك المعجزةُ الموجودةُ في البحرِ الأحمرِ وربّما في غيرِه أيضاً حيثُ أنّ فيه ماءً عذباً وسطَ ذلك الخِضَمِّ المُتلاطِمِ من المياهِ المالحة .

وقد أَشارَ سبحانه إلى ذلك في موضع آخر أيضاً،حيث قال : (( مَرَجَ البحرين يلتقيـانِ بينَهما بَرْزَخٌ لا يبغيان * فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تُكذِّبان )) . (17) وقال جلَّ شأنه : ((وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً )) . (18) فقد ذكر القرآن الكريم قانوناً خاصاً بالماء في هاتين السورتين ، الفرقان والرحمن هذه الظاهرة الطبيعية المعروفة وهي أنّه إذا ما التقي نهران في ممر مائي واحد فماء أحدهما لا يدخل {أي لا يذوب} في الآخر .

وهناك ـ على سبيل المثال ـ نهران يسيران في {تشاتغام} بباكستان الشرقية إلى مدينة {أركان} في {بورما} ويمكن مشاهدة النهرين مستقلاً أحدُهما عن الآخر ويبدو أن خيطاً يمرّ بينهما حدّاً فاصلاً ؛ والماء عذْبٌ في جانب ومالحٌ في جانب آخر .

وهذا هو شأن الأنهار القريبة من السواحل ، فماء البحر يداخل ماء النهر عند حدوث {المَدِّ البحريِّ} ولكنهما لا يختلطان ويبقي الماء عذباً تحت الماء الأُجاج .

وهكذا عندما يلتقي نهرا{الكنج}و{الجامونا} في مدينة {الله أباد} فهما رغم التقائهما لا تختلط مياههما ويبدو أنَّ خيطاً فاصلاً يميز أحدَهما من الآخر.

إن هذه الظاهرة معروفة ، ولكنّا لم نكشف قانونها إلا منذ بضع عشرات من السنين . فقد أكّدت المشاهدات والتجارب أنّ هناك قانوناً ضابطاً للأشياء السائلة ، يُسمي {قانون المط السطحيurface Tension وهو يفصل بين السائلين ، لأنَّ {تجاذب} الجزئيات يختلف من سائل إلى آخر ، ولذا يحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله .

وقدا ستفاد العلم الحديث كثيراً من هذا القانون الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله {سبحانه} : (( بينهما برزخ لا يبغيان )) . والبرزخ هو الفاصل بين اثنين ، والمراد من ((البرزخ)) هنا إنّما هو ((المطُّ أو التمدُّدُ السطحيُّ )) الذي يوجد في الماءين والذي يفصل أحدهما عن الآخر .

و يمكن فهم هذا المط السطحي بمثال بسيط وهو : أنك لو ملأت كوباً بالماء فإنَّه لن يَفيضَ إلاّ إذا ارتفع عن سطح الكوب قدْراً معيّناً .. والسبب في ذلك أن {جزئيات} السوائل عندما لا تجد شيئاً تتّصل به فوق سطح الكوب تتحوّل إلى ما هو تحتَها ، وعندئذ توجد {غِشاوة مرنة}lastic ilm علي سطح الماء ؛ وهذه الغشاوة هي التي تمنع الماء من الخروج عن الكوب لمسافة معيّنة ، وهي غشاوة قويّةٌ لدرجة أنّك لو وَضَعْتَ عليها إِبْرةً من حديد فإنّها لن تغوص ! وهذه الظاهرة هي ما يسمي بالمَطِّ السطحيِّ الذي يَحُولُ دون اختلاطِ الماءِ والزيت وهو الذي يفصُل بين الماء العذبِ والماءِ المالح(19)

إن القرآن الكريم الذي أُنزل قبل أكثر من /1400/ سنة قد تضمّن معلوماتٍ دقيقةً عن ظواهرَ بحريَّةٍ لم تُكتشفْ إلاّ حديثاً بوِساطةِ الأجهزةِ المتطوِّرةِ ، ومن هذه المعلومات وُجودُ حواجزَ مائيةٍ بين البحار.

يشهد التطوُّرُ التاريخيُّ في سيرِ علومِ البحارِ بعدم وجودِ معلوماتٍ دقيقةٍ عن البحار وبخاصة قبل رحلةِ { تشا لنجر } عام /1873م/ فضلاً عن وقتِ نزولِ القرآن قبلَ ألفٍ وأربعِمئةِ سنة ، الذي نزل على نبيٍّ أميٍّ عاش في بيئةٍ صحراويَّةٍ ولم يَركب البحر طوال حياته ، ولا كان للمجتمع المكيِّ في الجزيرة العربيَّة صلة وثيقة بالبحر ، فلم يخبروه ، ولا كان لهم به خبرة يتضح ذلك من شعرهم الذي هو ديوانُهم ـ كما سنرى عند حديثنا عن البحر في الشعر الجاهليّ ، ولم يتعاملوا مع البحر إلاّ في عصر الخليفة الثالث ، عثمان بن عفّان ثم الخليفة الأُمويِّ الأول معاوية بنِ أبي سفيان { رضي الله عنهم } حيث بدأت الفتوحات في البحر ولكنهم لم يخبروه بشكل جيد إلاّ عندما عبروا مضيق جبل طارق فاتحين، كما هو معلوم تاريخيّاً .ً

كما أنّ علوم البحار لم تتقدم إلاّ في القرنين الأخيرين ، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين . أمّا قبل ذلك فقد بقي البحر مجهولاً مخيفاً تكثر عنه الأساطير والخرافات ، وسنوضح ذلك فيما سيأتي من دراستنا هذه ، إن شاء الله تعالى ، وكل ما كان يهتمّ به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة، وما عرف الإنسان أنَّ البحار المالحة بحار مختلفة إلاّ في الثلاثينات من القرن العشرين ، بعد أن أقام الدارسون آلافَ المحطّاتِ البحريَّةَ لتحليل عيّناتٍ من مياه البحار ، وقاسوا في كل منها الفروق في درجات الحرارة ، ونسبة الملوحة ، ومقدار الكثافة ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات ، فأدركوا بعدئذٍ أن البحارَ المالحةَ متنوعةً . وما عَرَفَ الإنسانُ البرزخ الذي يفصل بين البحار المالحة ، إلا بعد أن أقام محطّاتِ الدراسة البحريّةِ المشار إليها ، وبعد أن قضى وقتاً طويلاً في تتبّع وجود هذه البرازخ المتعرِّجة المتحركة ، التي تتغيّر في موقعها الجغرافيِّ بتغير فصول العام .

وما عرف الإنسان أنَّ ماءي البحرين منفصلان ، أحدهما عن الآخر بالحاجز المائي، ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسُفُنِه حركةَ المياه في مناطق الالْتقاء بين البحار ، وقام بتحليل تلك الكتل المائيّة في تلك المناطق .

و مسحٍ علميٍّ واسعٍ لهذه الظاهرة التي تحدُث بين كلِّ بحريْن متجاورين من بحار الأرض . هل كان يملك تلك المحطات البحرية ، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع رسول الله حركة الكتل المائية المتنوعة؟.

وما قرّر الإنسان هذه القاعدة على كلِّ البحار التي تتلاقى إلاّ بعد استقصاءٍ وهل تيسر لرسول الله في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟

إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمن وصفاً لأدقِّ الأسرار في زمنٍ يستحيل على البشر فيه معرفتها لَيَدُلُّ على مصدره الإلهيِّ ، كما قال تعالى : (( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رحيماً )) . (20) كما يدل على أنَّ الذي أُنزِل عليه الكتابُ رسولٌ يوحى إليه وصدق اللهُ القائل : (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? )) . (21) ويتابعُ ربُّنا سبحانَه في دِلالتِه لنا على لعظيمِ قدرتِهِ ، فيَـذكُرُ لنـا آيـةً كبْرى اكتشفها العلماءُ مؤخَّراً فكانت السببَ في إيمانِ أحدِهم ، ذلك لأنّه ما مِن أحدٍ عَرَفَها قبلَه ، فكيف يذكرها النبيّ العربيّ قبل أربعة عشر قرنا ؟ وهو الذي عاش في الجزيرةِ العربيةِ ولم يركبِ البحرَ طَوالَ حياتِه . وإنّ هذه المنطقةُ النائيةُ من المحيطِ الذي تُوجدُ فيه ، لم يَصِلْها أحدٌ من قبلُ ، ولا كان ذلك مُتَيَسِّراً للبَشريَّةِ أبداً ، الأمر الذي يؤكد يقيناً ، بأنَّ من عرفها قبل ذلك هو خالقُها دونما شكٍّ ولا ريبٍ ، يقولُ سبحانه : (( أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجْيٍّ يغشاه موجٌ من فوقِه موجٌ من فوقِه سحابٌ ، ظُلُماتٌ بعضُها فوق بعضٍ إذا أخرج يدَه لم يَكَدْ يراها ، ومَنْ لم يَجعِل اللهُ له نوراً فما له مِن نورٍ )) . (22) وقد جاءت الآية في سياق التمثيل لأعمال الكفرة التي لا فائدة ترجى منها ولا ثواب عليها ، لأنها لم تكن لوجهِ اللهِ أصلاً ، فكيف يثيبُهم اللهُ عليها وهم الذين لم يؤمنوا به أساساً ليعملوا طلباً لجزائه وإحسانه بل طمعاً في كسب رضا مخلوقٍ أو رغبةً في شهرة؟ وفيها تمثيلٌ آخرُ ـ بعد التمثيل الأول بقوله {سبحانه} : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )) يصوِّر لنا ربُّنا في التمثيل الثاني ، هذا ، أعمال الذين كفروا في الدنيا من حيث خلوِّها من نور الحق بصورة ظلمات متراكبة من لُجَجِ البحر والأمواج والسحاب ، بعد أن صُوِّرت في التمثيل الأول بصورة السراب الخادع.

وقيل في الفرق بين التمثيلين : أنَّ التمثيلَ الأوَّلَ فيما تؤول إليه أعمالهم في الآخرة ، وهذا التمثيل فيما هم عليه في حال الدنيا . قال أبو حيّان في البحر : (( وبدأ بالتشبيه الأول لأنه أكد في الإخبار ، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم ، والعذاب السرمدي ، ثم أتبعه بهذا التمثيل ، الذي نبَّهَهم على ما هي عليه أعمالهم ؛ لعلَّهم يَرجِعون إلى الإيمان ، ويُفكِّرون في نورِ الله الذي جاء به الرسول { صلى الله عليه وسلم } .

الظاهرُ أَنَّ التَشبيهَ في التمثيلين لأعمالهم . وزَعَم عبد القاهر الجرجاني أنَّ الآية الأولى في ذكر أعمالهم ، والثانية في ذكر كفرهم . ونسق الكفر على أعمالهم ؛ لأنَّ الكُفرَ أيضًا من أعمالهم . ودليل ذلك قوله {تعالى} : (( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ )) . (23) أي : يخرجهم من الكفر إلى الإيمان .

وقال أبو علي الفارسي : التقدير: أو كذي ظلمات . قال : ودلَّ على هذا المضاف قولُه تعالى : (( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ)) فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف.فالتشبيه وقع عند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر لا للأعمال . وكلاهما خلاف الظاهر.

أما{أَوْ} فقيل : هي للتخيير ؛ فإنّ أعمالَهم لكونِها لا غيةً ، لا منفعةَ لها كالسراب ، ولكونِها خاليةً عن نورِ الحقِّ كالظُلُماتِ المتراكِمةِ من لُجِّ البحر والأمواجِ والسَحاب .

وقيل : هي للتنويع ؛ فإنَّ أعمالهم إن كانت حسنةً فهي كالسراب ، وإن كانت قبيحةً فهي كالظلمات . وقيل : هي للتقسيم باعتبار وقتين ؛ فإنَّها كالظُلُمات في الدنيا ، وكالسراب في الآخرة وقيل : هي للإباحة ، على تقدير : إنْ شئتَ مَثِّلْ بالسَرابِ ، وإنْ شئتَ مثِّلْ بالظُلُمات .

واختارَ الكَرْماني كونَ { أَوْ } للتخيير ، على تقدير: شبِّهْ أَعمالَ الكفّارِ بأيِّهِما شئت . واختار أبو السُعود كونَها للتنويع ، على تقدير : إِثْرَ ما مثِّلت أعمالهم ، التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ، ويفتخرون بها في كلِّ وادٍ ونادٍ

بما ذكر من حال السراب مع زيادة حساب وعقاب مُثِّلت أَعمالهم القبيحةُ ، التي ليس فيها شائبةٌ خيريّةٌ ، يغترُّ بها المغترّون بظلماتٍ كائنةٍ في بحرٍ لُجيٍّ .

واختار ابنُ عاشورَ كونَها للتخيير ؛ لأنَّ شأن {أَوْ} ـ كما قال ـ إذا جاءت في عطف التشبيهات أنْ تدل على تخيير السامع أنْ يشبِّه بما قبلَها ، وبما بعدها . واختار الطنطاوي كونَها للتقسيم .

و { أَوْ } ـ عند أهلِ التحقيق من علماءِ اللُّغةِ ـ

موضوعةٌ لأحد الشيئين المذكورين معها . فدَلَّ وجودُها عاطفةً بينَ التمثيلين على أنّ أعمالَ الذين كفروا كسراب ، أو كظلمات . فإنّها لا تخلو من أحد المثلين أما ما ذكروه من دلالتها على الإباحة ، أو التخيير ، أو التنويع ، أو التقسيم ، فإنَّ ذلك يُستفادُ من السياق ، لا من { أَوْ } نفسِها .

والظاهرُ أنه عُطِفَ بـ { أَوْ } هنا ؛ لأنّه قُصِد التنويعُ . ويُفهم من السياق في المثلين أنَّ التنويعَ ليس لتنوُّعِ الأعمالِ ؛ وإنَّما هو لِتَنوُّعِ الأحوال الداعيةِ إلى تشبيهِها مرَّةً بالسَرابِ الكاذب ، ومرَّة أُخرى بالظُلمات الكثيفة.

حكى الشوكاني في { فتح القدير } عن الزَجّاج قولَه : { أَعْلَمَ اللهُ سبحانَه أنَّ أعمالَ الكفّار ، إن مُثِّلتْ بما يُوجَد ، فمَثَلُها كمثلِ السَراب ، وإنْ مُثّلت بما يُرَى ، فهي كهذه الظلمات التي وصف . أما تشبيهها بالسراب فيكون لمن سكن الجزيرة العربية ، أو جاورها . وفي هذا التشبيه يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسط ، والخداع الوهمي للسراب ذلك الخداع ، الذي لا يُدركه إلاّ أبناءُ البيئةِ الصحراوية.

Advertisements
Report this ad

وأمّا تشبيهُها بالظلمات الكثيفة فيكون لمن لا يَعرف شيئًا عن البيئة الصحراويّة وأسرارِها ؛ لأنّه يترجم ـ على عكس الأول ـ عن صورة ، لا علاقةَ لها بالوسط الجغرافي للقرآن الكريم ؛ بل لا علاقةَ لها بالمستوى العقلي ، أو المعارف البحريّة في العصر الجاهلي ؛ وإنّما هي في مجموعِها منتزعةٌ من بعض البلدان الشماليّة التي يغشاها الضباب الكثيف ، وتحيط بها مياهُ البحار والمحيطات من كل جانب.

هذا ما يشير إليه تشبيهُ الأعمال بالظلمات الكثيفة في أعماق البحار نتيجةً لتراكب الأمواج والسحاب وذلك يستلزم من القائل أن يكون على معرفةٍ علميّة بالظواهر الخاصّة بقاع البحار ، وهي معرفةٌ ، لم تُتَحْ للبشريّة ، إلاّ بعد معرفةِ جغرافيّةِ المحيطات ، ودراسةُ البصريّات الطبيعيّة.

وغنيٌّ عن البيان أن نقول:إن العصر القرآني كان يجهل كليّةً تراكبَ الأمواج ، وظاهرةَ امتصاصِ الضوءِ ، واختفائِهِ على عُمقٍ معيّن في الماء . وعلى ذلك فما كان لنا أنْ نَنسبَ هذا القولَ إلى عبقريَّةٍ صنعتْها الصحراءُ ، ولا إلى ذاتٍ إنسانيّةٍ صاغتْها بيئةٌ قاريَّةٌ ؛ كالتي عاش فيها سيِّدُنا محمد {عليه الصلاة والسلام } وهذا إعجازٌ جاء به القرآنُ الكريمُ إلى جانبِ إعجازاتِه الكثيرة (( كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ )) و بَحْرٍ لُّجِّيٍّ منسوب إلى اللُّجَّة ؛ وهو الذي لا يكاد يُدرُكُ قعرُه . ولُجَّة البحر : تَرَدُّدُ أمواجِه . قال تعالى : (( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً )) . (24) والجمعُ : لجج تقول العرب : إلتجَّ البحرُ أي: تلاطمت أمواجُه . و ((يَغْشَاهُ مَوْجٌ)) . أي : يستره ويغطّيه .

قال تعالى : (( وإذا غشيهم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) . (25) أي : علاهم موجٌ كالجبال . ومثلُه قولُه تعالى : (( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ )) . (26) والموج في البحر ما يعلو من غوارب الماء . و (( مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ )) أي: من فوق ذلك الموج ، الذي يغشى البحر اللجيّ موجٌ آخر ، ومِن فوق هذا الموجِ الآخرِ سَحابٌ . والسَحابُ هو الغيم ، أكان فيه ماءٌ ، أو لم يكن . ولهذا يقال : سحابٌ جَهَامٌ أي : لا ماء فيه . ويقال عكسُه : سحاب ثِقال . قال تعالى : ((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)) . (27) أي : المحمَّل بالمطر.

وقد يُذكَّرُ لفظُه ، ويُرادُ به الظِلُّ والظُلمة ؛ كما في هذه الآية: (مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ).

وقرأ جمهورُ القُرّاءِ السبعةُ : سَحَابٌ ، بالرفع والتنوين ، و ظُلُمَاتٌ بالرفع على معنى: هي ظلماتٌ . وقَرأ ابنُ كثير في رواية قنبل: سَحَابٌ ، بالرفع والتنوين ، و ظُلُمَاتٍ ، بالخفض على البدل من”ظُلُمَاتٍ ، الأولى .

وقرأ ابنُ مُحيْصنٍ والبَزّيُّ سَحَابُ ظُلُمَاتٍ ، بإضافة سحابٍ إلى ظلماتٍ . ووجهُ الإضافةِ أنَّ السحابَ يرتفعُ وقتَ هذه الظُلمات ، فأضيف إليها لهذه المُلابسة .

ويرى العلماءُ أنَّ أسبابَ وجودِ هذه الظُلُماتِ في البحارِ اللُّجيَّةِ ترجع في الحقيقةِ إلى سببين رئيسين :

أما السببُ الأوّلُ : فهو العُمقُ . فإنّ الجزءَ المّرئيَّ من أشعَّةِ الشمس ، الذي ينفذ إلى كُتَلِ الماء في البحار والمحيطات، يتعرَّضُ لعملياتٍ كثيرةٍ من الانكسارِ , والتَحلُّلُ إلى الأطياف المختلفة ، والامتصاصُ بوِساطَةِ كلٍّ من جُزيئاتِ الماءِ , وجزيئاتُ الأملاحِ المُذابةُ فيه , وبوساطةِ الموادِ الصُلبةِ العالقة به , وبما يحيا فيه من مختلِف صورِ الأحياءِ , وبما تُفرزُه تلك الأحياء من موادّ عُضويّة ؛ ولذلك يَضعُفُ الضوءُ المارُّ في الماءِ بالتدريج مع العُمق . والطيفُ الأحمرُ هو أوَّلُ ما يُمتصُّ من أطيافِ الضوءِ الأبيض . ويتمُّ امتصاصُه بالكامِلِ على عُمْقٍ ، لا يَكادُ يتجاوز العشرين مترًا فلو أنَّ غوّاصًا جُرِح ، وهو يغوص في ماء البحر فإنَّ الدَمَ ، الذي يخرُجُ منه يكون أسودًا؛ لأنَّ اللونَ الأحمرَ ينعدم تمامًا ، ويصبح هناك ظلمة اللون الأحمر .

ويليه الطيف البرتقالي الذي يتمُّ امتصاصُه على عُمْقِ ثلاثين مترًا . ثم يليه الطيف الأصفرُ ، الذي يتم امتصاصه ، ثم طيفُ اللون الأزرق ، ليتشتّت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المئتي متر العليا من تلك الكتل المائية وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تُمتصُّ على عمق مئةِ مترٍ تقريبًا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات , ويستمر1% منها إلى عمق مئة وخمسين مترًا , و 0,01% إلى عمق مئتيْ مترٍ في الماء الصافي الخالي من العوالق .

وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء , فإنّه لا يستطيع أن يستمر في ماءِ البحار والمحيطات إلى عمقٍ يزيد على الألف متر , فبعد مئتي مترٍ من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل ؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من 0,01% من ضوء الشمس , ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرّض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق لا يكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوى سطح البحر ؛ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى جزءٍ واحدٍ من عشرة تريليون جزء . ثم تغرق أعماق تلك البحار والمحيطات بعد ذلك في ظلامٍ دامس .

وأما السبب الثاني : فهو الحواجز من الموج الداخلي والموج الخارجي والسحاب.فهذه كلها حواجز ، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل .

والموج الداخلي هو الذي يعلو البحرَ اللُّجّيَّ ويُغطيه ، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسية الساقطة على أسطح البحار والمحيطات ، ويحول دون الوصول إلى أعماقها . وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجيّة . ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة . ويبدأ تكوُّنه على عمقِ أربعين مترًا ، تقريبًا ، من مستوى سطح الماء في المحيطات ؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها , وقد تتكرر على أعماق أخرى ، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة .
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر ، يسمَّى بالموج السطحي ، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية .

وبذلك يُعَدُّ أحدَ الأسباب في إحداث ظلمةِ تلك الأعماق , هذا بالإضافة إلى تحلُّلِ تلك الأشعة إلي أطيافِها ، وامتصاصِها بالتدريج في الماء .

ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب ، الذي يَمتصُّ حوالي تسعة عشر جزءاً بالمئة من الأشعة الشمسيّة المارّة من خلاله . ويَحجُب بالانعكاس والتشتيت نحو ثلاثين جزءًا بالمئة من هذه الأشعة , فيُحدث قدْرًا من الظلمة النسبيّة التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض . وبذلك تجتمع ظلمةُ الموج الداخليِّ ، وظلمةُ الموجِ السَطحِيِّ ، وظلمةُ السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يُحدثُها امتصاصُ الماء لتلك الأطياف.

والله{سبحانه} عندما يصف هذه الظلمات ، ينسبُها إلى عمق البحر اللجيِّ : (( أو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ).

ثم يقول{سبحانه} : (( ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ )) وكأنّه يقول لنا:

هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق ، وسببها الحواجز . ومن المعروف أن لفظ {ظُلُمَاتٌ} من جُموع القِلّة.

وجمعُ القِلَّة يشمل من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ، فأنت تقول : ظلمة ، وظلمتان ، وثلاث ظلمات إلى عشرِ ظلماتٍ.

والظلمات التي تتحدّث عنها الآيةُ الكريمة هي عشرُ ظلمات : سبعٌ منها للألوان ، وثلاثٌ للحواجز {الأمواج الداخلية ، والأمواج السطحيّة ، والسحاب} .

ثم عقَّب {سبحانه} على ذلك بقوله : (( إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) مبالغة في بيان شدّة هذه الظلمات . والمعنى: إذا أخرج من ابتُليَ بهذه الظلمات يده من كُمِّه ، لم يكد يراها . وجاز إضمارُ الفاعل ـ هنا ـ من غير أن يتقدّم ذكرُه ، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة . وكذا تقديرُ ضميرٍ يرجِع إلى ظلماتٍ . واحْتيجَ إليه ؛ لأنّ الجملة في موضع الصفة لظلمات ، ولا بدّ لها من رابط . وقيل : ضميرُ الفاعلِ عائدٌ على اسمِ الفاعل المفهوم من الفعل أي : إذا أخرج المُخرِجُ فيها يدَه ، لم يكد يراها .

واختَلف علماءُ اللُّغة والتفسير في قولِه تعالى : (( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) هل يقتضي أنّ هذا الرجلَ المقدَّرَ في هذه الأحوال ، إذا أخرج يده من كُمِّه ، لم يرَها البتّة . أمْ رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ؟ فقالت فِرقةٌ منهم : لم يَرَها البتّة ؛ وذلك لأنَّ {كاد} معناها : قارب ؛ فكأنّه قال : “إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ” لم يقارب رؤيتَها.

وهذا يقتضي نفيَ الرؤيةِ جملةً . وقالتْ فُرقة من العلماء: بل رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ، وكاد أن لا يراها . ووجه ذلك : أن {كاد} إذا صحِبَها حرفُ النفي ، وَجَبَ الفعلُ الذي بعدها . وإذا لم يصحبْها ، انتفى ذلك الفعل .

وهذا القول يكون لازمًا ، إذا كان حرف النفي بعد {كاد} داخلاً على الفعل ، الذي بعدها . تقول : كاد زيدٌ يقوم ، فالقيام منفي . فإذا قلت : كاد زيد أن لا يقوم ، فالقيام واجبٌ واقع . وتقول :كاد النعام يطير . فهذا يقتضي نفي الطيران عنه . فإذا قلت: كاد النعام أن لا يطير ، وجب الطيران له .

أما إذا كان حرف النفي مع {كاد} فالأمر محتمل ، مرة يوجب الفعل ومرة ينفيه . تقول : المريض لا يكاد يسكن .

فهذا كلام صحيح ، تضمّن نفيَ السكون . وتقول : رجلٌ متألِّم لا يكاد يسكن . فهذا كلام صحيح ، يتضمن إيجاب السكون بعد جهد .

ويشهد لذلك قوله تعالى حكايةً عن فرعون : (( أَمْ أَنَا خَيْرٌ منْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ )) . (28) أي : لا يكاد يَظهرُ كلامُه للثغةٍ في لسانِه بسبب الجمرةِ . التي تناولها في صغره . وهو سيدُنا موسى {عليه السلام} وقولُ تأبّط شرًّا:

فأُبْتُ إلى فَهْمٍ،وما كِدْتُ آيِباً
وكم مثلها فارقتُها وهي تصفر

يقول : رَجَعتُ إلى قبيلتي {فَهْمٍ} وكدت لا أرجِع ؛ لأنني شارفتُ على التلَفَ .

ومما يحمل على الاحتمالين قولُه تعالى عن اليهود في السورة التي يَذكر فيها البقرة : (( فَـذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) . (29) أي : وما كادوا يذبحون . فكنَّى عن الذبح بالفعل ؛ لأن الـ {فَعَلَ} يكنّى بها عن كل فِعْلٍ . والنفيُ مع {كاد} ـ هنا ـ يتضمَّن وُجوبَ الذبحِ بعد جُهدٍ ويتضمن نفيَه البَتّةَ . وبيانُ ذلك أنّ جملةَ : (( وَ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) تحتمل الحال والاستئناف . والأوّلُ أَظهر وأوضحُ إشارةً إلى أنّ مماطلتَهم قارنت أوّلَ أزمنةِ الذبح .. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين : زمان نفي المقاربة ، وزمان الذبح ؛ إذ المعنى : وما قاربوا ذبحها قبل ذلك . أي : وقع الذبح بعد أنْ نفى مقاربتَه . فالمعنى: أنهم تردّدوا في ذبحها ، ثم ذبحوها بعد ذلك.

قيل : والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو : إمَّا غلاءُ ثمنِها ، وإمَّا خوفُ فضيحةِ القاتل ، وإمَّا قلّةُ انقيادٍ لأمر الله وتعنتٌ من اليهودِ على الأنبياء {عليهم السلام} وكذلك كان دأبَهم مع الأنبياء وعلى مرِّ العصور.

ونحو ذلك قولُه تعالى في هذه الآية : (( لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا )) فإنّه نفيٌ مع {يَكاد} يتضمّن ـ في أحدِ التأويلين ـ نفيَ الرؤيةِ.

ويتضمن ـ في الاحتمال الآخر ـ وجوبَ الرؤيةِ بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ ؛ وبالعودة إلى موضوعنا الذي عنه نتحدّث ، فإنَّ الكائنَ في ظُلماتِ البحرِ اللُّجيِّ ، التي ما زال فيها شيءٌ من ضوءٍ ، لا يَرى يدَه إلاّ بصعوبةٍ . لكن إذا غاص إلى الأعماق التي تغرق في الظلام الشديد ، ومد يدَه أمامَ عينيْه ، فإنّه لن يراها أبداً.

ولهذا ، ونحوِه ، قال سيبويه {رحمه الله} : إن أفعال المقاربة لها نحوٌ آخر . بمعنى : أنّها دقيقةُ التصرُّف . أمّا قولُ ابنِ الأنباري وغيرِه ، ممن اعتقد زيادة {يَكَدْ} وأنّ المعنى : لم يرها ، فليس بصحيح ولا وجهَ له ، والله أعلم.

ثم يختم الله { تبارك وتعالى} الآية الكريمة بهذه الحقيقة المعنويّة الكبرى ، فيقول { سبحانه } : (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).

ثم تفاجئنا البحوثُ العلمية أخيرًا بواقعٍ ماديٍّ ملموسٍ لهذه الحقيقة المعنوية , فقد كان العلماءُ إلى عهدٍ قريبٍ جدًّا لا يتصوّرون إمكانيةَ وجودِ حياةٍ في أغوارِ المحيطات العميقة , للظلمة التامّة فيها , ولبرودة مائها الشديدة , وللضغوط الهائلة الواقعة عليها ، ولملوحة ذلك الماء المرتفعة جدّاً في بعض الأحيان ؛ ولكن بعد تطوير غوَّاصات خاصّة لدراسة تلك الأعماق ، فوجئ دارسو الأحياء البحريّة بوجودِ البلايين من الكائنات الحيَّة ، التي تنتشر في تلك الظُلْمة الحالكة ، وقد زوّدها خالقُها { سبحانه } بوسائل إنارة ذاتيّةٍ في صميم بنائها الجسدي تُعرَفُ باسمِ الإنارة الحيويّة .

والسؤال الذي يفرض نفسَه هنا : مَن غيرُ اللهِ الخالقِ يُمكنُه أنْ يُعطيَ كلَّ نوعٍ من أنواع تلك الأحياء البحرية ذات الأعماق السحيقة , هذا النور الذاتي ؟ وهنا يتضح البعد الماديُّ الملموس لهذا النصِّ القرآنيِّ المعجزِ , كما يتّضح بعدُه المعنويُّ الرفيعُ : (( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ )) فمن لم يُنوِّرُ اللهُ تعالى قلبَه بنورِهِ ، الذي أضاء الوجودَ كلَّه ويَهديه إليه فهو باقٍ في ظلماتِ الجهلِ والغيِّ والضلال ، لا يهتدي أبدًا .

وكيف يهتدي ، وهو لا يملك شيئًا من النور ، الذي هو سبب الهداية لتأكيد هذا المعنى جيء بعد { مَا } النافية ، بـ { مِن } التي يدلُّ وجودُها على استغراق النفيِ وشمولِه لكلِّ جُزءٍ من أجزاء النور .

ولو قيل : “فَمَا لَهُ نُّورٍ”، بدون {مِن} ما أفاد هذا المعنى، الذي دل عليه وجودُها .

ولنبيِّ الله سيِّدنا نوحٍ {عليه السلامُ} في القرآن الكريم مع البحر ، قُصَّةٌ أخرى، حيث أصبحت الأرضُ ، كلُّ الأرض بحراً له ليخلِّصه اللهُ من قومه الذين كذّبوه وكفروا برسالته ، ولِيُنْجِيَهُ اللهُ ، ومَنْ آمَنَ معَهُ ، ويُغرق الأرضَ بما فيها ، ومن عليها لأنّها مُلئتْ كفراً وظلماً وجوراً ، فلم يستجبْ أهلُها لدعوةِ الإيمان بالله وبرسالته التي حملَها إليهم نبيُّهُم نوحٌ {عليه السلام} ، فأمر الله نبيَّه ، أنْ يصنعَ سفينةً عظيمةً ، ويحمل عليها ـ بالإضافة إلى المؤمنين بالله ورسوله ـ زوجين اثنين {ذكراً وأنثى} من كلِّ نوعٍ من أنواعِ الحيوانات والنبات كذلك ، حتى لا تَنْقرِضَ هذه الأنواع ، وذلك استجابةً لدعاء نبيّه نوح الذي بقي /950 / عاماً يدعوهم إلى الله وهذه المدّةُ الطويلةُ ، التي قاربت الألف سنةً، ما زادتهم إلاّ نُفوراً وإعراضاً وعتوّاً عن أمره {سبحانه} قال الله في كتابه العزيز : (( قال ربِّ إنّي دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً * فلم يَزِدْهم دعائي إلاّ فراراً * وإنِّي كلَّما دَعَوْتُهم لتغفرَ لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصَرّوا واستكبروا استكباراً * ثمَّ إنّي دَعَوْتُهم جهارا * ثمّ إنّي أعلنتُ لهم وأسررتُ لهم إسراراً * فقلتُ استغفروا ربَّكم إنّه كان غفّاراً * يرسلِ السماء عليكم مِدْراراً * ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنّاتٍ ويجعلْ لكم أنهاراً * ما لكم لا تَرْجونَ لله وَقاراً * وقد خلقكم أطواراً*).(30)

لقد أصرّوا على كفرهم ولم يلتفتوا إلى نُصْحِ نبيِّهم ، وأعلمَ اللهُ نبيَّه بأنّه لا أمل في هداهم وليس في أصلابهم من سوف يؤمن بالله ولذلك دعا عليهم فقال : (( وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ من الكافرين ديّاراً * إنّكَ إن تذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَك ولا يَلِدوا إلاَّ فاجراً كفّارا * ربِّ اغفرْ لي ولوالديَّ ولمن دَخَلَ بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تَزِدِ الظالمين إلاّ تَبَارى )) . (31) ودعوةُ الأنبياءِ مستجابَةٌ ، لأنهم لا يفعلون شيئاً ولا يتكلّمون إلاّ بإذن اللهِ ووحيِهِ ، فأمرَ اللهُ نبيَّه بأنْ يصنَع السفينة . قال تعالى : (( واصْنعِ الفُلْكَ بأعيُنِنا ووحيِنا )) . (32)

ويبدأ نوح ٌ بصُنعِ السفينة ـ وكان نجّاراً ـ ويمُرُّ به كفرةُ قومِهِ فيستهزئون به وبما يصنعُ ، شأنَ الكفّار في كلِّ أمّة وفي كلِّ زمن ، وأنّى لهم أنْ يصدِّقوا وَعيدَهُ وهم لم يؤمنوا برسالته أصلاً ؟ قال {تعالى} في محكم كتابه : (( ويصنع الفلكَ ، وكلّما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه )) . (33) ويصنعُ السفينةَ ويَركبُ فيها كلُّ المؤمنين الذين قضى الله بنَجاتهم وسعادتهم بسسبب إيمانهم ، ويحملُ نوحٌ ـ بأمرٍ من العليم الخبير ـ من كلِّ نوعٍ من أنواع الحيوان زوجين ، ومن النبات كذالك ، مع أهلِه ومَن آمن به وبرسالة ربّه ، إلاّ ابنَه لأنّه كان كافراً : (( قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين وأهلَكَ ، إلاَّ من سبق عليه القولُ ، ومن آمن ، وما آمن معه إلاّ قليلٌ)) (34) ويأمرُ اللهُ القادرُ السماءَ بأنْ تنصبَّ ماءً ، والأرضَ بأن تنبع ماءً كذالك ، حتى تغرق الأرضُ بمن فيها ، و يعلو الماءُ الجبالَ حتى تنعدِمَ الحياةُ على وجهِ الأرضِ ، بما في ذلك ابنُ نوحٍ الذي لجأ إلى جبلٍ مرتفعٍ ليعصمه من الماء ، علوّاً منه واستكباراً ، ظنّاً منه بأنه سوف يكون بمنجى من الغرق فوق الجبل ، قال {سبحانه} : (( حتى إذا جاء أمرُنا وفار التنّور ، قلنا احملْ فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلَكَ ، إلاّ مَن سَبَقَ عليه القولُ ، ومَن آمن ، وما آمن معه إلاَّ قليلٌ * وقال اركبوا فيها بسم الله مَجريها ومُرساها ، إنَّ ربّي لغفورٌ رحيم * وهي تجري بهم في موجٍ كالجبال ، ونادى نوحٌ ابنَه ، وكان في مَعْزِلٍ ، يا بُنيَّ ارْكَبْ معَنا ولا تَكُنْ مع الكافرين * قال سآوي إلى جَبَلٍ يعصمني من الماء * قال لا عاصمَ اليوم من أمرِ اللهِ إلاّ مَنْ رَحِمَ ، وحال بينهما الموجُ فكان من المغرَقين)) (35) وكان فَوَرانُ تَنُّورِ الخَبّازِ بالماءِ الإشارةَ ببدءِ المعركة ، وكان لسيدِنا نوح {عليه السلام} أمارةَ الأمرِ بركوب السفينة ، وما أقساه من منظرٍ أنْ وما أصعبها من لحظات يرى الرجلُ فيها ابنَه يغرقُ أمامَ عيْنَيْهِ وهو لا يستطيعُ فعلَ شيءٍ ، إنّه قضاءُ اللهِ وقَدَرُهُ ، وإنّها العقيدةُ التي فرَّقَتْ بين الأبِ وابنِهِ العاقِّ الذي لم يُطعْ ربّه ولم نُصحَ والدِهِ فهَلَكَ ، وإنّه صبرُ أولي العزم على الابتلاءِ والامتحان الذي ابْتلى بهما اللهُ عبدَه نوحاً{عليه السلامُ} فصبر وشكر ، وتغلَّب حبُّهُ لربِّهِ على حبِّه لوَلَدِه ، وهذا مِصداقُ قولِ اللهِ {تبارك وتعالى} في كتابِهِ العزيز : (( قُلْ إنْ كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعَشيرتُكم وأموالٌ اقْتَرَفْتُموها وتِجارةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إليكم من اللهِ ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فتربّصوا حتّى يأتيَ اللهُ بأمرِهِ ، واللهُ لا يَهْدي القومَ الفاسقين )) . (36) وقُضي الأمرُ ونَفَذَ حكم الله تعالى على الكافرين المستكبرين ، فأمر اللهُ السماء بأن تتوقّفَ وتُمْسِكَ ماءها ، والأرض بأن تكفَّ عن النبع وتبتلعَ ما على سطحها من ماء قال تعالى : (( وقيل يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي )) . (37) فقد أنهت الأرضُ المعركة التي كانت قد بدأتها ، وهذا خلافُ المتوهَّم ، حيث يُظَنُّ بأنَّ مطر السماء هو مصدرُ المياه الأساس ، فهو ينزل على الأرض فتتشرّبُهُ وتخزِّنُه في باطنها ليخرج فينتع الناسُ به ، لكن أن تبدأ الأرضُ المعركة بدفع ما في جوفها من ماء ، وأن تبدأ النهاية منها أيضاً بأن تبلعَ ماءها فإنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الأرضَ هي المصدرُ أساسُ للماءِ ، حيث أثبتت الأبحاث العلميَّةُ بعد نزول القرآن الكريم بقرون أنَّ الماء النازل من السماء إنّما هو بخار تصاعد من الأرض بفعل حرارة الشمس ، فشكّلَ سحاباً ثمّ تساقط أمطاراً بعد ذلك ، بإذن الله وأمره ليحيي به الله ما شاء وليسقيَه مَن شاء من خلقه .

سبحان الله الحليم كم يَجحد الناسُ فضلَه ، ويكفرون نعمَه ، ويبطرون معيشتَهم حالَ الرخاء ، فإذا حلَّ بهم الضيق ونَزَل بهم الكرب ، ولم يجدوا من دونه ملجأً إليهَ يلجؤون ، تراهم يجأرون إليه بالدعاء طالبين منه النجدة وينجدُهم الله ، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من كفرٍ وضلالٍ ، كراكبِ البحر الذي اشتدّت به الريح حتى لتكاد تكفأ سفينتَه به فيستغيث باللهِ فيجيبُه الله الكريم إلى ما سأل ، وينجيه من الغرق ، لكنّه يعود إلى عصيانه وجحودِه ، يقول سبحانه في سورة الإسراء معرِّضاً بهؤلاء الملاحدة والعصاة : (( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا)) . (67) ((أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَات ِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )) (70) {37} أرأيت إلى الإنسان كيف يقابل نعم الله وحلمَه وكرمه وتفضيلَه على الكثير من مخلوقات الله .

وهكذا نرى أنَّ القرآنَ الكريمَ قد ذكرَ لنا الكثيرَ عن البحرِ ، مُرْشِداً لنا ومُعَلِّماً ومُشَجِّعاً على سَبْرِ أَغوارِه واكتشافِ المزيدِ مِن أسرارِه والانتفاعِ به وبما يحتويه من كنوز وأمرنا أن نسخِّرَهُ لما فيه صالح الإنسان في كلِّ زمان ومكان.

مصادر الباب الثاني

1 ـ سورة طـه : الآيات37-40 .
2 ـ سورة البقرة : الآية 50 .
3 ـ سورة يونس: الآيات 90-91-92
4 ـ سورة الكهف : الآيتان 71ـ 72
5 ـ سورة الكهف : الآية 79
6 ـ سورة الأنبياء : الآيتان 87-88.
7 ـ سورة لقمان : الآية 27
8 ـ سورة الكهف : الآية 109.
9 سورة الجاثية : الآية 12
10 ـ سورة النحل : الآية 14.
11 ـ سورة المائدة : / 96.
12 ـ سورة الأعراف الآية : /163.
13 ـ سورة الإسراء الآية : / 67 .
14 ـ سورة الشورى الآيتان : / 32، 33 .
15 ـ سورة النمل ، الآية : / 61 .
16 ـ سورة الرحمن : الآيتان / 24 و 25.
17 ـ سورة الفرقان ، الآية . /53/
18 ـ إقامة الحجة على العالمين بنبوة خاتم النبيين – (ج 1 / ص 491.
19 ـ سورة الفرقان ، الآية : / 6 / .
20 ـ سورة فصلت ، الآية : / 53 / .
21 ـ سورة النور ، الآية : / 40 / .
22 ـ سورة البقرة ، الآية : / 257 / .
23 ـ سورة النمل ، الآية : / 44 /.
24 ـ سورة لقمان ، الآية : / 32 / .
25 ـ سورة طه ، الآية : /78/
26 ـ سورة الرعد ، الآية : / 12 / .
27 ـ سورة الزخرف ، الآية : / 52 / .
28 ـ سورة البقرة ، الآية : / 71 / .
29 ـ سورة نوح ، الآيات : /5 – 14
30 ـ سورة نوح ، الآيات : / 26 ،27 ، 28
31 ـ سورة هود ، الآية :/ 37
32 ـ سورة هود ، الآية : /38 /
33 ـ سورة هود ، الآية :/40
34 ـ سورة هود ، الآيات : / 40ـ 41ـ 42ـ 43
35 ـ سورة التوبة ، الآية /24
36 ـ سورة هود ، الآية /44
37 ـ سورة الإسراء/67 – 70 /
أعلى