أحمد أبو خنيجر - تمثال الريح..

على جانب الطريق صخرة، بدت في وقفتها كتمثال نحتته الريح، مجسدة للفتنة الفاجرة التي هي على وشك الاندلاع، الاستدارات والانحناءات مستوية الكمال، شديدة النعومة والصقل، ولم تكن بي قدرة على مد يدي لأمس هذا الجمال الفاتن وأتحسسه، فوقفت مُسمراً محاولاً ضبط تنفسي.

كنت على غير عادتي أسابق الغروب كي أتخطى الجبل العالي لأدرك الوادي وأبيت ليلتي عند انشعاب الدرب، وحينما أنفلت من زحمة الصخور مستقبلاً الوادي، لم أر التمثال في البداية حتى ظننتُ في لحظة أنه نبتَ فجأة، فكيف لتمثال يتوسط الوادي لا تدركه العين عند الوهلة الأولى، أرجعتُ ذلك لاعتياد عيني على رؤية الصخور بأشكال وأحجام مختلفة، هو ما جعلني لم أنتبه لوجود هذه الفتنة منذ البداية، رحتُ أقترب على مهل والملامح تستبين وتأخذ سمت الفتنة المتجبرة التي شكَّلتها الطبيعة بتمعن وطوال زمن لا يمكن تحديده، غير أنها أبدعت في شكل يفوق الخيال.

رغم شهرة الدرب الذي أقطعه ومعرفتي بالحكايات الكثيرة التي تخصه ورواها العابرون به، لم أسمع حكاية أتت على ذكر التمثال في هذا الموضع، متوسطاً الوادي تحيط به رمال ناعمة، كأنما آلهة الفتنة هذه تخوض في بحر لين ناعم. يقوم التمثال عند نقطة افتراق الدرب وتحوله إلى دربين: أحدهما يقود للعمار والآخر يقود لعمق الصحراء فتتحاشاه القوافل ويتجنبه المغامرون، لذا فالجميع يبيت ليلته في الوادي حتى يتبين في الصباح الدرب الصحيح، وقال البعض بوجود صخرة عظيمة في هذه الناحية يجعلها العابر على يمين الدرب النازل نحو العمار؛ وروى البعض حكايات متضاربة عن تلك الصخرة العظيمة. البعض شبهها بالناقة الهائلة الباركة ونظرها معلق بالسماء، ومن قال بالقِدر الضخم وغطائه الهائل، ومن قال بالصخرة الشائهة عديمة الملامح قبيحة الملمس، ومن شطَّ بالقول وقال إنها صخرة الشيطان فهى تشبهه تماماً؛ لكن أياً من الروايات لم تذكر وجود هذا التمثال مطلقاً.

درتُ حول التمثال في محاولة يائسة مني لألمس هذا الجمال الفاجر وأنا أشعر بالرمل الناعم ينسرب تحت قدميَّ، كنتُ أشعر بقوة ما تدفعني للارتداد خوفاً من الاحتراق، وما بين الرغبة والخوف وجدتني ألف في مدار ثابت، كأنما أطوف بالتمثال، محافظاً طوال الوقت على المسافة التي تفصلني عن هذا الجلي الباهر، حتى هدني التعب فجلستُ متربعاً في مواجهة التمثال أتأمل دقة الملامح وشهوانيتها القوية ونبضها المتبل بالرغبة الجارفة.

وكان هواءٌ لطيف، وقمر بهي كأنما ثُبِتَ ليظهر هذا الجمال، ورأيت كأنما القمر يغازل التمثال، فيطفر الخجل على محيا الحجر؛ استندت على كوعي ممدداً قدمي على نعومة الرمل الآخذ فى الابتراد، حتى عقدت يدي تحت رأسي راقداً ومتابعاً فصول الغزل المتبدل بين القمر والتمثال ذاهبة نحو الشبق الدامي، حتى ثقلت عيني ونمتُ محلقاً فى أرض أحلامي.

صحوتُ على لسعة الشمس القاسية، كانت قد ارتفعت واستوى لهيبها على جسدي المتكور فوق الحصى الخشن الذي تحول بفعل الشمس إلى جمرات ملتهبة، قمتُ فزعاً وأنا أدور حولي ولا أثر لصخرة أو تمثال، فقط انشعاب الدرب إلى دربين: واحد يقود للعمار والآخر يقود إلى عمق المتاهة، ولا علامة تدل على أيهما أسلك، وكان عليَّ أن أختار. (من مخطوطة عنوانُها «العاشق الصحراوي».)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى