شاكر عبدالحميد - قصص صفاء النجار ترصد المرأة وإحباطاتها

في مجموعة تتضمن خمس عشرة قصة قصيرة بعنوان «الحور العين تفصص البسلة» (روافد)، ترصد الكاتبة المصرية صفاء النجار تحولات البشر والحيوانات والأشياء - الحقيقية والمتخيلة - وكذلك حالات العنف المادي والمعنوي. ثمة نوع من التعاطف مع عالم النساء وما يحدث لهنّ من إهمال أو عدوان أو إقصاء، إضافة إلى الصراعات التي تدور بين الآباء والأبناء أو بين الأجيال القديمة والجديدة، مع ولع خاص بعالم الميديا والصورة والسينما. تكشف هذه القصص حب الكاتبة للموسيقى والغناء، وتميزها بحسّ ساخر تجاه العالم وأحداثه.

تصوّر المجموعة بقصصها التي تتفاوت في عمقها وتماسكها، حالة الاضطراب العقلي الذي يصيب النساء لأسباب كثيرة أوّلها الإحباطات الاجتماعية. في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، ترسم الكاتبة صورة فتاة انقسمت إلى شخصيتين، إحداهما متريثة منضبطة السلوك والأخرى مندفعة جامحة. تحاول كل واحدة منهما أن تسيطر على الأخرى أو أن تخضعها لقانونها. وما بين الحقيقة والتوهم والخيال؛ تتزوج، ثم تنجب بنتاً فتقتلها وهي في عمر أربعين يوماً، تحت وطأة مزيج من اكتئاب ما بعد الولادة والفصام.

وفي قصة «فيلم لأمي»؛ نجد ذلك التكرار الخاص بالحكايات المتعلقة بقتل الأبناء، وفيها إشارات إلى أسطورتي إيزيس وإليكترا، وتداخل بين عوالم الحكي المرتبطة بالواقع وعوالم السينما والخيال والأحلام، إذ يرد ذكر مارلين ديتريتش وكلارك غيبل وجيمس دين ومارلون براندو، ويتداخل سرد حكايات من الذاكرة مع عوالم مستمدة من بعض الأفلام. في قصة «الحالمون بالخلود والمولعون بالجمال» أيضاً نوع من محاولة الاستكشاف لعوالم هؤلاء الحالمين بالخلود، والذين يستغرقون في تلك الأحلام المرتبطة بعالم الغناء والموسيقى والألحان؛ ونوع من الشجن الممتزج بالحلم والأمل في عالم أفضل لدى الجميع. ويحدث أمر مماثل في قصة «اكتشاف»، عن عالم السينما والكومبارس والأحلام المحبطة، وهنا نوع من الإيماء إلى قوة الموسيقى والفن وسحرهما وإشارات إلى تلك الرقة الخالصة التي قد تقتل صاحبها عندما يفقد سيطرته على نفسه ويندمج في حالة تشبه الجذب أو «الغشية» الصوفية في عوالم الفن والغناء، هكذا تتفكك أوصاله وتذوب أعضاؤه وقد تصبح أثراً بعد عين. وهنا إيماءة أيضاً إلى تلك المتعة التي من قوتها قد تقتل من يصل إليها.

يتواصل الحكي في هذه المجموعة عما يفتقده الناس في عالمنا، وبخاصة النساء. ففى قصة «نبوءة» نقرأ عن تلك المرأة/ الفتاة التي تعاني من رجل «لم يفهم أبداً حبها له»؛ كان عاقلاً جداً و «منضبطاً جداً أكثر من توقيت غرينتش، وكانت هي سريعة الغضب». بعد خلاف ما بينهما تترك البيت غاضبة لكنه لا يهتم وتقف قليلاً متوقعة أن يخرج وراءها وإنما من دون جدوى، تتراكم في داخلها تدريجاً مشاعر الوحدة والحزن لتغدو هذه المشاعر كائنات حية تتحدث وتغضب وتأكل وتشرب وتنام ويتراجع ظهور تلك المرأة في القصة ويزداد حضور هذين الشعورين تعود إلى بيتها وهو في لا مبالاته لم يزل سادراً وفي عدم اكتراثه لم يزل مستغرقًا، كان مندمجاً في التجول بين قنوات التلفزيون بالريموت كنترول ويزداد شعورها بالقهر ويبدأ الحزن في التهام روحها ومشاعرها وأيضاً ساقيها وذراعيها وبقية جسدها. هكذا يحدث تآكل في الروح بسبب التجاهل ما يلبث أن يتحول إلى حالة من الأكل الفعلي للأعضاء وتصبح للمشاعر أنياب.

هكذا تقوم صفاء النجار هنا بتجسيد المشاعر الإنسانية وتحويلها إلى صور بشرية أو حيوانية ممسوخة أو متوحشة تلتهم كل شيء. ويتجسد أيضاً في قصص المجموعة غياب الرقة في العلاقات الإنسانية والحضور الخاص لمشاعر التبلد والتجاهل والإهمال كما في قصة «سيجارة وأربعة أصابع»، حيث يتحول البشر وبخاصة النساء إلى سلعة تباع وتشترى. يحدث هذا في أماكن العمل الرسمية وفي العلاقات الجنسية، وفي عوالم الميديا والتلفزيون حيث يتحول الناس إلى كائنات مصطنعة تفتقد الشعور بالوجود الحقيقي. ثمة أدوار محددة مرسومة لهم لا يحيدون عنها فإن حادوا تم طردهم من «جنتهم».

هكذا يقع الإنسان ضحية العنف أو حتى القتل المادي والرمزي في بعض القصص، كما أنه قد يتحول هو ذاته إلى إنسان أحادي الخلية، ذي بُعد واحد مسطح، بلا عمق ولا حرية ولا اهتمامات حقيقية كما في قصة «ألاميبا». لكن هذا الإنسان يظل دائماً ?يبحث عن الرقة ويحاول أن يكتشف تلك المحبة الباطنية الموجودة في ذاته، لذاته وللآخرين، وأن يصل إلى نوع من الرضا عن الذات، أو الاكتفاء بالذات والاستغناء عن الآخرين، من خلال الفن، أو من خلال الحب، من خلال الانتظار لشيء ما قد يأتي وقد لا يأتي، بل من خلال التفكير أيضاً في شيء ما كان قد أتى فعلاً كما في قصة «في انتظار ما قد أتى». هنا تتداخل عوالم الصور بعوالم الأحلام والعلاقات الملتبسة والبنية المفككة والعوالم الغريبة والهلاوس. ويتواصل ظهور عمليات الاستكشاف للانفعالات ومشاعر الصبر والانتظار والرضا والرقة والإيمان في قصص أخرى، بحيث نجد تلك الانتقالات بين الأمل والحلم من ناحية، واليأس والكابوس من ناحية أخرى، مع وجود حالة من الانتظار المتواصلة؛ أو الأحلام التي تتحقق بعد فوات الآوان، كما في قصة «الأيام التي لا تطيب»، التي تجسد حالات من عدم التحقق والاكتمال إلى حد التعاطف مع شجرة والتوحد معها، مع إسقاط لمشاعر الذات عليها، في نزعة إحيائية صوب حب لم يكتمل، أو قطار لم يتم اللحاق به. مع تداخل حالات اليقظة والنوم يلوح في المجموعة الانتظار المفعم بالأمل، على رغم طغيان مظاهر القسوة والعنف.

* عن الحياة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى