هالة أحمد زكى - أدب الرحلة فى الزمان والمكان.. الرحالة الثلاثة..

الحياة رحلة قصيرة، فهى يوم أو بعض يوم.. تلك رحلات لها مذاق خاص ورغم أنها فى الأصل رحلة يقطعها كل منا، فإن رحلات هؤلاء الثلاثة الذين استطاعوا أن يجعلوا من رحلاتهم علما ينتفع به وتأريخا لما حدث فى زمانهم من قصص جديرة بالقراءة أولهم ابن بطوطة الرحالة الشهير الذى نحتفل بميلاده العاشر بعد السبعمائة، وهو المعروف بأمير الرحالة والأب الروحى لحكايات المدن والأمكنة.
أما الثانى فهو الدكتور حسين فوزى السندباد المصرى أروع من كتب فى أدب الرحلات وان لم يحصل على حقه فى تعرف الناس عليه رغم كونه رحالة فى الزمان صاحب وجهة نظر وطنية مصرية لا يعرفها إلا من أحب هذا الوطن. أما الفارس الثالث فهو أنيس منصور الكاتب الموسوعى الذى كتب فى السياسة والفكر والثقافة وطرق كل الأبواب ليبقى ما يحسب له ضمن ما كتبه فى أدب الرحلات.
وهكذا تكونت هذه الرؤية المستوحاة من هؤلاء الفرسان الثلاثة الذين أبدعوا فيما حكوا ورحلوا فى الزمان والمكان والذين عرفنا منهم معنى أدب الرحلات.

« وصلتُ إلى مدينة مصر، أم البلاد وقرارة فرعون ذى الاوتاد، المتناهية فى كثرة العمارة، المتباهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر. ومحط رحل الضعيف والقادر. وبها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه ووضيع ونبيل، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف.

تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة سكانها واسكانها. شبابها يجد على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد. وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهدت بها مرة فرجة، بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين كل أهل سوق سوقهم.»

تستوقفنا هذه الكلمات التى تبدو وكأنها جزء من حدوتة قديمة، وإن كانت فى الحقيقة تنتمى إلى كتاب من القرن الرابع عشر الميلادى اسمه « تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». الكتاب قديم ومع هذا فهو مازال متداولا بين الناس. أما ولماذا لم نتعرف عليه من الوهلة الأولى , فلأن أسمه العجيب اندثر مع مرور السنين ولم يبق الا وصفه بأسم « رحلات ابن بطوطة».

وابن بطوطة نفسه هو الشيخ الناسك أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد ابن إبراهيم اللواتى الطنجى والذى لا يعرفه الناس الا بأسم ولقب ابن بطوطة أشهر رحالة فى التاريخ والذى نتذكره اليوم فى مناسبة مرور سبعمائة وعشر سنوات على ميلاده. فهو من مواليد الرابع والعشرين ـ وقيل الخامس والعشرين ـ من فبراير عام 1304.

أما سبب شهرته فهو ما قيل عن رحلاته التى تعدت المائة وأربعين ألف كيلو مترا فى أعوام قاربت الثلاثين رأى خلالها ما رأى فى هذه الدنيا من عجائب حتى انها لم تقف عند حدود المعلوم والمألوف فى علم العباد فدفعته رغبته فى المعرفة لقصد كل أطراف البلاد.

أولى الحكايات:

وأولى رحلاته وعزمه» الخروج من طنجة مسقط رأسى ـ والكلمة له ـ فكان فى يوم الخميس الثانى من شهر الله رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة معتمدا حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. منفردا عن رفيق آنس بصحبته وراكب أكون فى جملته، فحزمت أمرى على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطنى مفارقة الطيور للوكور.» «وكان والدى بقيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصبا ولقيت كما لقيا ـ من الفراق نصبا وسنى يومئذ اثنان وعشرون سنة»، حيث إن مولده وكما يقول ابن جزى كاتب خواطره كان عام سبعمائة وثلاث هجريا.

وتبدأ رحلة الحاج المعتمر وإن كان فى البداية يؤرخ لما يحدث حوله بذكره للحاكم الامام أبى سعيد، ليصبح هذا التاريخ المصاحب للحكام مقصودا فى خطواته الأولى. فهو يذكر حاكم تلمسان وأمير بجاية وحاكم تونس إلى جانب اعلام البلاد والقضاة. ولا يبدو هذا غريبا أو غير منطقى لابن بطوطة فهو فى الاصل ابن لهذه الطبقة اللصيقة بالعلم وكرسى السلطان. فوالده ينتمى لطبقة القضاة ولهذا كانت عيناه تلتقطان المشاهد الأقرب إلى تكوينه . أما حياته الخاصة فتناولها عند زواجه بفتاة فى أول رحلته ثم فراقه لها بسبب خلاف بينه وبين صهره، ثم زواجه بأخرى قبل الوصول إلى أبواب الاسكندرية .أما الحمى والاغماء ودوار البحر فقد كانوا مجرد أصدقاء عابرين، فالحياة بعيدا عن الأهل والأحباب علمته الا يفزع الا مما يستحق الخوف والجزع .

وفى مصر المحروسة يتوقف كثيرا عند الاسكندرية ودمياط والصعيد والنيل والاهرامات وقبر العارف بالله أبى الحسن الشاذلى الذى توقع موته فى حميثرا وهو فى طريقه للحج حتى تنتهى الرحلة فى مصر عند مدينة عيذاب حيث يتعذر عليه ركوب البحر نتيجة اقتتال الترك فيقرر الانتقال إلى بر الشام. وفى الشام يشاهد بيت المقدس وقبة الصخرة، ويصف مدينة عكا حيث قبر النبى صالح عليه السلام ، وصيدا التى يحمل منها التين والزبيب والزيت إلى مصر، وطبرية حيث مسجد الانبياء وقبر شعيب وسليمان عليهما السلام، ليقصد منها الجب الذى ألقى فيه يوسف، وهو فى صحن مسجد صغير. . ويصل ابن بطوطة إلى الروضة الشريفة صلوات الله وسلامه على ساكنها, وشكلها عجيب :فهى مدورة بالرخام البديع النحت وقد علاها المسك والطيب.

فى بلاد العرب والعجم:

ولكن هل كانت هذه هى وجهته الوحيدة؟ فمن يذق طعم السياحة لابد وأن يغوى أقدامه الطريق ليبحث عن البلاد والعباد. وفى بلاد فارس يشهد ابن بطوطة الخلاف بين السنة والشيعة ويندهش من ثقة سلطان شيراز فى أهل اصفهان وحجبه هذه الثقة عن أهل بلده شيراز لما عرف عنهم من تهور شديد. ويعود فيصف حمامات بغداد وأسواق ومحال الموصل. ويذهب إلى اليمن ومنها إلى إفريقيا حيث تتوالى العجائب فيرى طبخ الأرز بالسمن والموز بالحليب، وفاكهة الجمون الشديدة الحلاوة التى يأكلها الزنج. وفى بر تركيا المعروف بأرض الروم يجدهم ابن بطوطة أجمل الناس صورة وأكثر خلق الله شفقة. ويذكر لطف أهل انطاليا و يحكى قصة مولانا جلال الدين الرومى قطب الشعر الصوفى.

ويصل ابن بطوطة إلى بلاد الروس ويلاحظ أن النساء أعلى شأنا من الرجال هناك ويفد إلى بلاد البلغار ليقطع أرض الظلمة التى تسير فيها الكلاب وهى تجر العربات.ويذكر ابن بطوطة جمال كنيسة آيا صوفيا بالقسطنطينية وينتقل منها إلى خوارزم صاحبة أفضل فاكهة، ثم ترمذ موطن الامام الترمذى وطوس بلد الامام الغزالى فى آسيا الوسطى ، ويروى ابن بطوطة بكثير من التأثر حرق المرأة لنفسها فى الهند عقب وفاة زوجها وبعد استئذان السلطان. وهو ما يعد شرفا لهذه الزوجة التى لا تخاف الحرق فتلبس افضل حليها وأثوابها حتى تحين الساعة فيذهبوا بها إلى صهريج منخفض يصب فيه زيت الحلجلان ليصبح وكأنه جهنم ثم يقوم خمسة عشر رجلا برمى الحطب عليها حتى لا تتحرك بعد أن ترمى بنفسها فى النار وهى تعقد ذراعيها على رأسها. ثم يصف رحلته إلى الاندلس ومنها إلى بلاد إفريقيا والسودان، وبعد كل هذا الرحيل، لم يجد فى النهاية ابن بطوطة الا مدينة فاس ليعود ويعيش فى كنف سلطانها وتنتهى رحلته المسماة بتحفة النظار فى غرائب الامصار وعجائب الاسفار فى الثالث من ذى الحجة فى موسم حج آخر ولكن بعدها بما يقارب الثلاثين عاما أى فى عام سبعمائة ست وخمسين هجريا لينهى حكيه بقوله تعالى «السلام على عباده الذين اصطفى».

وهكذا فقد كانت أربع حجات وقيل فى بعض الكتب أنها قد وصلت إلى ست، ورحلات قدرت فى كثير من الكتب بالثلاث الكبرى من بلاد إلى بلاد ,انهى محمد بن جزى كتابتها بأمر من السلطان أبى عنان فى القرن الرابع عشر قبل اثنين وعشرين عاما من مفارقة ابن بطوطة الحياة فى مدينته ومسقط رأسه طنجة. صحيح أن كثيرا من التفاصيل تتزاحم فيما بينها لتكون صورة غريبة لهذه الدنيا ولعادات وتقاليد البشر من بين صالح وطالح وآكل للحم وكاره له وبين عابد وفاسد الا أن هذا العالم الذى حكى عنه ابن بطوطة والذى أجتهد على نفس طريقه رحالة آخرين قبله مثل ابن جبير الاندلسى وبعده مثل الادريسى الا أن هذه الحياة النابضة والرحلة الطويلة لم تتسن الا لأبن بطوطة الذى لم يكن يحلم يوما أن يعيش فى عالم بهذا الاتساع. وهذه هبة خاصة لا يحصل عليها الا العارفون والسالكون على طريق الحقيقة.


د. هالة أحمد زكى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى