زينب حفني - بيت خالي.. قصة قصيرة

استيقظتُ من نومي على لكزات خفيفة في خاصرتي، فتحتُ عينيَّ بتثاقل، لمحتُ من خلف غشاوة النوم هيئة أمي واقفة أمامي، الدموع تملأ صفحة وجهها. لملمتُ شتات ذهني الخامل، سألتها بجزع.. ماذا هنالك؟! قالت وهي تواصل بكاءها.. خالك توفي في ساعة متأخرة ليلة الأمس. حاولت في تكاسل الانسحاب من طراوة الفراش، مخدّر النوم ما زال يسري في أوصالي، لاح أمامي طيف خالي، ترحمّتُ عليه، تحولقت، تعالى فجأة رنين الهاتف مخترقا جدار الصمت الحزين، تجاهلتُ نداءه، تواصل الرنين بإلحاح، استسلمتُ في النهاية له، اخترق سمعي صوت أختي الكبرى.. حياة. خالنا توفي
-أعلم
-هل أمرُّ عليك؟!
-أجل، أفضّلُ الذهاب معك عوضا عن السائق. أف! كم أكره حضور مراسم العزاء
-يرتفع صوتها، قائلة بحدة.. لكنه خالك!!
-لا داعي لموشحات النصائح في هذا الصباح. أنتِ تعلمين مقدار حبي لخالي. أنا أكره روائح الأحزان
أحسستُ برعشة كآبة تسري في مفاصلي وأنا أدهس بقدميَّ عتبة البيت العتيق. الزاخرة أرجائه برائحة الموت. تصعقني رهبته، صوت المقرئ ينبعث من جهاز التسجيل " .. يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية..". تجول عيناي في أرجاء المكان، الأثاث القديم، الحجرات الواسعة، العالية الأسقف، الجدران المتصدعة، السلالم المتآكلة، "شيش الرواشين" المتساقط من لطمات الرطوبة، كل شيء يئن من سياط الزمن، التي تركت بصماتها على جميع الأشياء. نفثتُ زفرة طويلة، لاحت مني التفاتة صوب زوجة خالي المتشحة بالسواد، تعجّبت، سبحان الله، كم تُعجّل أوجاع السنين بشيخوخة الإنسان! كأنها امرأة تجاوزت السبعين وهي ما زالت في الستين! كانت أمي قد سبقتنا إلى مجلس العزاء، أخذت مكانها بجانب زوجة خالي، يتشاركان مصابهما، يتقاسمان آلامهما. خالي كان شقيق أمي الوحيد، أعرف مقدار حبهما لبعضهما، لم أرهما يوما متخاصمين، كان يأتي كثيرا لزيارتنا، يبثُّ همومه لأمي، رغم أنها كانت تصغره بسنوات ليست بالقليلة. أسدلتُ جفنيَّ، تخيلتُ هيئته، ابتسامته التي تنم عن صفاء سريرته، حكاياته الشيقة، كان وميض الرضا يطلُّ دوما من مساحتي عينيه، يسكن في أحد الأحياء الشعبية في مدينة جدة، عند مدخل سوق العلوي، في منزل قديم تعكس واجهته فقر صاحبه، ورثه عن جدي، تنازلت أمي له عن نصيبها فيه، أنجب ابنة واحدة، حاولت زوجته أن تنجب غيرها، لم يرد الله، رضخ لعطيّة الرحمن برضاء كامل.
كانت "صفية" ابنة خالي، في عمري تقريبا، فائقة الجمال، أخذته عن والدتها اليمنية الأصل، كانت لها عينان واسعتان، عسليتا اللون، ووجه مستدير، دقيق الملامح، ببشرة ورديّة، ناعمة الملمس، وجسد عاجي، متناسق قالبه. كانت تنتابني أحيانا لسعات غيرة منها، لكنها كانت قريبة لنفسي، أحرص على قضاء نهاية الأسبوع في بيتهم. زوجة خالي سيدة صارمة، ذات أنوثة أخّاذة، عقليتها مدبرة، استطاعت التأقلم مع أوضاع خالي المادية الضيقة، أتذكّر كيف كانت تدخل علينا بعد أن نغطّ َ في النوم، تقوم بإغلاق جهاز "التكييف"، تُدير المروحة العمودية، تُقظني حرارة الغرفة، أهرب إلى السطح، تصفعني نسمات الليل النديّة، أُشخّصُ بصري نحو النجوم، أتأملها بإعجاب، أحسُّ بوقع أقدام مجهولة، أهرع من المكان. أعود إلى الغرفة المثقلة بالرطوبة والحرارة العالية، أنفاس صفية تُداعب أرنبة لأنفي، أدير رأسي صوب الجهة الأخرى، أغوص من جديد في بحيرة النوم. كانت زوجة خالي تحب تربية الطيور، أفرح أنا وصفية برؤية طقوس الذبح، كنّا نقف من بعيد، نراقبها وهي تُمسك برأس الطير بيدها، وباليد الأخرى تنحر ببلادة رقبة الطير بالسكين، اندفاع الدم يُقززني، أخفي وجهي براحتي يديَّ، يتملكني الفضول، أعاود الفرجة بعينين واجفتين.
عندما تفتّقت معالم أنوثتنا، قرر أهلنا وجوب ارتداء العباءة، بكيتُ لشعوري بأنها ستُعيق حركتي، لاحظتُ أيامها أن الفرحة تعلو وجه صفية، سألتها بدهشة عن سببها!! أجابتني بنشوة.. بلهاء.. لبس العباءة، اعتراف صريح بقبولنا في عالم الكبار. بعد عيد ميلادنا الخامس عشر، أخذت أحاديثنا منحى آخر، وصارت تحوي أسرارا من نوع مغاير، كنّا نُغافل زوجة خالي، نهرع إلى سطح البيت، نتسلّق صوره العالي لنرى "صدّيق" ابن الجيران، الذي كان بيت أهله مواجها لبيت خالي، كانت صفية مغرمة به، وكان هو الآخر متيّما بها، لم يكن صغيرا بل شابا في الثالثة والعشرين، مهووسا بكتابة الرسائل الغراميّة، بارعا في رص معاني الحب، يكتبها بلغة جميلة، يبثُّ فيها أشواقه، كان يربطها بحجر صغير، يقذفها ناحيتنا. ذات مرة قابلته صفية خلسة، بعد تخطيط مُحكم أعدّه ثلاثتنا، رجعت وضربات قلبها تتسارع دقاته، وجهها يشعُّ بالسعادة، سألتها يوما بلهفة.. قُصّي عليَّ ما جرى بينكما. أسدلت أهدابها إلى الأرض، أجابتني بمكر طفولي وبشفتين مرتعشتين.. لم يحدث شيء!!
عندما كنّا نصغي لكلمات الأغاني العاطفيّة، أو نتابع مشاهد ساخنة بأحد الأفلام على جهاز الفيديو، تدهمنا بغتة فلول رغباتنا، تعلو وجهينا حمرة من الخجل، نندس في الفراش، نولي ظهرينا لبعضنا، تصمُّ كل منّا أذنيها في عمد عن سماع فحيح الأخرى، المنبعث من تحت الغطاء، إلى أن نطفئ سعير غريزتنا في صمت لذيذ. سألتني مرة على استحياء.. ألا تحلمين برجل؟! أجبتها بصوت خفيض.. نعم. في بعض الأحيان، كنّا نُمارس لعبة الوقوف أمام المرآة، نتخايل بأجسادنا أمام المرآة، تُظهر كل منّا مفاتنها الأنثوية، تستفزُّ غيرتي.. أنظري. لقد حباني الله بأروع جسد، تملكه فتاة على وجه الأرض. في إحدى المرات، أرادت "صفية" إلقاء رسالة إلى "صدّيق"، قالت لي.. أمسكي السلم جيدا. غرقنا لحظتها في هستيريا متواصلة من الضحك. لا أدري كيف أختلَّ توازنها، قفز جسدها خارج السور، ترنّحت في الفضاء، كانت عيناها عالقتين ناحية "صدّيق"، ذراعاها يحاولان السباحة في الفراغ، بريقهما الفزعان يستنجدان به، في لحظة خاطفة هوت أمام ناظريَّ، ارتطم جسدها بقوة على أرض الشارع. كان البيت مكونا من ثلاث طوابق، لسوء الحظ وقعت "صفية" على رقعة صلبة، عاشت بعد الحادثة ثلاثة أيام في غيبوبة تامة، ثم قضت نحبها. دخلتُ سنة كاملة في قوقعة الاكتئاب، طيفها يسبح في صحوي ونومي، صوتها يرنُّ صداها في أذنيَّ، كنتُ من حين لآخر أزور خالي، نظراته تُحيطني بالحب المغلّف بصهد الظمأ والشوق.
بعد وفاة "صفية" بسنوات قليلة، تقدّم "صدّيق" لخطبتي، رفضته بلا أدنى تردد، ظلّت أنفاس صفية تُكبّل ذكرياتي، تُحاصرني هيئتها بين فينة وأخرى. اذكر ذلك اليوم، الذي رأيتُ فيه أنوارا معلقة تُزيّن مدخل الشارع المحاذي لبيت خالي، عرفت أن هذه الزينة لحفل زواج "صدّيق". بكيتُ كما لم أبكِ في حياتي، شعرتُ بروح صفية تأسر أفكاري، تخيلتها تتبختر في ثوبها الأبيض، صدّيق يحيط خصرها بذراعيه، رنة ضحكتها تُزلزل أحزاني. يوم تخرجي من الجامعة بكى خالي، احتواني بين ذراعيه قائلا.. لو كانت صفيّة حيّة لتقاسمتما فرحتكما معا.
اجترار الذكريات يُصدّع رأسي، أمزّق شريط صورها بضراوة، أرسو بفكري على أرض واقعي، أتوقّف عن الخوض في هلوسة الأمس البعيد، أهمس لأختي.. أريد القيام. ترشقني بسهام نظراتها المحتجة.. لا بد أن تقومي بواجب العزاء، لا تنسي أنه خالك. ماذا تريدين أن يقول الناس عنّا!! تدور واحدة من قريباتنا ب "دلة" القهوة، هيئة الفناجين الصغيرة، المرصوصة فوق بعضها البعض، تُحرّك رياح تشاؤمي، لاحت لي كالرؤوس المقطوعة، توقفت المرأة أمامي، سألتني بإشارة من يدها إن كنتُ أرغب في فنجان من القهوة!! رفعت سبابتي بالرفض، تأففت، لم اعد أحتمل الجلوس في هذا الجو الخانق، المعبأ بالانكسار، وجه الماضي يُكشّر عن أنيابه، يغرسها في حواسي، أكفه تصفعني، هودج الذكريات يهزَُ أوجاعي، روح صفية تدنو صوبي، صوتها يُخربش أعماقي، يناديني.. حياة، تعالي نلعب. أنتِ غشاشة، هذا دوري في اللعب. انظري يا حياة، ما رأيك في ثوبي الجديد؟! أتدرين يا حياة.. عندما أتزوّج، سأنجب عشرة أبناء. لا أريد أن يُعاني أبنائي من الوحدة. أريد أسرة كبيرة. هل سيخطبني صدّيق، أم ما زلتُ صغيرة على الزواج؟! تُعاود الضحك، دوي ضحكاتها يزلزل كياني، يُمزّق دواخلي، يملأني أسى، أنتفض من مقعدي، أمرق وسط النظرات المحتجة، أمي تناديني، أختي تُكرر نداءها، أتلفّع بوشاحي، الهواء الساخن يلطم قسمات وجهي، وقفتُ أمام بيت خالي، رفعتُ عينيَّ، ألقيتُ نظرة سريعة على مبناه المسن، لاح لي طيف خالي واقفا عند أحد "الرواشين" ملوحا لي بالوداع كعادته دوما حين آتي لزيارته، عيناه تنضحان بالصفاء، بجانبه تقف صفية، بوجهها الطفولي النضر، وقد أسندت رأسها على منكبه، دمعت عيناي، أمرتُ السائق بالتحرّك، أيقنتُ بأنني لن أخطو عتبة هذا البيت مرة أخرى.
من المجموعة القصصية ( هناك أشياء تغيب)
صدرت الطبعة الأولى 2000م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى