هيكتور هيو منرو - غابرييل إرنست – قصة قصيرة .. ترجمة: د. زياد الحكيم

قال الفنان كانينغهام في السيارة التي كانت تقله الى المحطة: "هناك حيوان متوحش في مزرعتك." وكانت تلك هي الملاحظة الوحيدة التي ابداها اثناء الرحلة الى المحطة. ولكن صمته لم يكن يلاحظ لان (فان تشيل) لم يتوقف عن الكلام طوال الوقت.

قال فان تشيل: "ثعلب شارد او ثعلبان. وبعض حيوانات القندلس. ليس في الامر اكثر من ذلك." ولم يقل الفنان شيئا.

قال فان تشيل في ما بعد عندما كانا على رصيف المحطة: "ماذا عنيت بالحيوان المتوحش؟"

قال كانينغهام: لا شيء. انه خيالي. لقد جاء القطار."

بعد ظهر ذلك اليوم خرج فان تشيل في جولة من جولاته الكثيرة في مزرعته. كان في مكتبه الكثير من الازهار البرية الجافة. وكان يعرف اسماء عدد كبير من هذه الازهار البرية. ولذلك كانت عمته ترى مبررا كافيا لوصفه بعالم الطبيعة العظيم. وعلى اي حال، كان يحب السير في البراري حبا عظيما. وكان من دأبه ان يلاحظ كل شيء في طريقه ليس للمساعدة في تقدم العلوم ولكن لايجاد موضوعات للحديث فيما بعد. فعندما بدأت ازهار الاجراس تتفتح ابلغ كل من رآه بذلك. صحيح ان من يحدثهم يعرفون ان الوقت قد حان لهذه الازهار ان تتفتح، ولكنهم على الاقل يحسون انه ودود كل الود معهم.

ما وقعت عينا فان تشيل عليه في ذلك المشوار يختلف اختلافا بينا عما كان يراه في العادة. فعلى صخرة ملساء تطل على بحيرة عميقة تحيط بها اشجار البلوط كان صبي في السادسة عشرة من عمره يجفف اطرافه المبللة في الشمس على نحو مترف. التصق شعره المبلل برأسه اثر غطسة حديثة. والتفت بعينيه البنيتين ورمق فان تشيل بنظرة تشبه نظرة نمر كسول مترقب. كان ذلك شبحا غير متوقع. ووجد فان تشيل نفسه في عملية جديدة من التفكير قبل ان يفوه بكلمة. من اين جاء هذا الصبي الذي يبدو عليه انه متوحش؟ ان زوجة الطحان فقدت طفلا قبل حوالي شهرين افترض ان النهر جرفه. ولكن الطفل كان طفلا صغيرا وليس صبيا نصف ناضج.

قال: "ماذا تفعل هنا؟"

رد الصبي: "كما ترى. جالس في الشمس."

-"اين تعيش؟"

-"هنا في هذه الغابات."

قال فان تشيل: "لا يمكن ان تعيش في الغابات."

قال الصبي بشيء من التعالي: "انها غابات جميلة."

-"ولكن اين تنام في الليل؟"

-"لا انام في الليل لاني اكون منشغلا جدا."

بدأ فان تشيل يشعر بالانزعاج وكأنه كان يحاول ان يحل مشكلة مستعصية على الحل.

-"ماذا تأكل؟"

-"اللحم." لفظ الصبي الكلمة بهدوء مبرزا كل حرف فيها وكأنه كان يأكل اللحم فعلا في تلك اللحظة.

-"اللحم؟ لحم ماذا؟"

-"اذا كان ذلك يهمك فأنا آكل الارانب والبط البري والطيور بانواعها والخراف في موسمها. والاطفال اذا كان بامكاني ان اقبض عليهم. ولكنهم في العادة يكونون خلف ابواب موصدة في الليل عندما اكون منشغلا بالصيد. وكانت آخر مرة تذوقت فيها لحم طفل قبل شهرين."

تجاهل فان تشيل الملاحظة الاخيرة وحاول ان يجذب الصبي الى الحديث.

-"انك لا تعرف ما تعني عندما تقول انك تتغذى على الارانب فليس من السهل القبض على الارانب على هذه الهضاب."

قال الصبي في غموض: "في الليل انا اصطاد على اربع قوائم."

قال فان تشيل: "احسب انك تقصد انك تصطاد بواسطة كلب."

واستلقى الصبي على ظهره وراح يضحك ضحكة خافتة غريبة هي ما بين القهقهة والزمجرة. وقال: "لا احسب ان الكلاب تريد ان تكون بصحبتي في الليل على وجه الخصوص."

بدأ فان تشيل يشعر ان هناك شيئا غريبا في الطريقة التي ينظر بها الصبي ويتكلم. وقال في حزم: "لا استطيع ان اسمح لك بان تبقى في الغابات. اذا لم تنصرف من هنا فاني سوف ارغمك على ذلك."

قال الصبي: "اعتقد انك يجب ان تفضل ان ابقى هنا على ان اكون في منزلك."

لا شك ان مجرد التفكير في ان يكون هذه الحيوان العاري في منزل فان تشيل المرتب والمنظم يبعث على الذعر.

وفي لمحة عين غطس الصبي في البركة وبعد ذلك بلحظة ظهر بجسمه المبلل اللامع على مقربة من المكان الذي كان يقف فيه فان تشيل. ولو كان حيوان ذئب الماء قد قام بالحركة لما وجد فان تشيل الامر غريبا. اما وقد قام بالحركة صبي فإن فان تشيل وجد الامر مفزعا حقا. وانزلقت قدمه عندما تحرك حركة غير ارادية الى الوراء. ووجد نفسه منبسطا على بطنه بشكل كامل تقريبا على ضفة البحيرة المعشوشبة الزلقة. بينما كانت هاتان العينان اللتان تشبهان عيني نمر غير بعيدتين منه. وبحركة تكاد تكون غرزية رفع يده الى عنقه. وضحك الصبي ضحكة هي اقرب الى الزمجرة منها الى القهقهة. وبحركة خاطفة كحركاته غطس في الماء واختفى بين الطحالب والسراخس.

وقف فان تشيل على قدميه وقال في نفسه: "كم هو حيوان متوحش ليس له نظير!" ثم تذكر الملاحظة التي ذكرها كانينغهام عندما قال: هناك حيوان متوحش في مزرعتك."

وفي طريق عودته الى البيت راح فان تشيل يحاول ان يتذكر احداثا وقعت في المنطقة يمكن ان يكون لها علاقة بهذا الحيوان الصغير المدهش.

لقد تأثرت هواية الصيد في الغابات في الاونة الاخيرة. ويشكو الاهالي من ضياع الطيور من المزارع. واصبحت الارانب نادرة بلا سبب واضح. وتلقى شكوى بان الخراف تسرق من المراعي. هل من الممكن ان هذا الصبي المتوحش يصطاد في الارياف بصحبة كلب ذكي؟ لقد قال الصبي انه يصطاد على اربع قوائم في الليل. ولكنه المح الى انه ما من كلب يريد ان يكون بصحبته في الليل على وجه الخصوص. ما من ريب في ان الامر باعث على الحيرة والارتباك. وفيما كان فان تشيل يتذكر ما وقع من احداث في الشهر السابق او الشهرين السابقين توقف عن السير وعن التفكير توقفا مفاجئا. فالطفل الذي ضاع قبل شهرين قيل انه وقع في البحيرة وجرفته المياه ولكن امه قالت انها سمعت زمجرة قادمة من الضفة المقابلة من البحيرة بينما كانت تقف على جانب من الهضبة التي يقع عليها البيت. لا، ليس الامر ممكنا. ولكنه تمنى لو ان الصبي المتوحش لم يذكر تلك الملاحظة التي قال فيها انه اكل لحم طفل قبل شهرين. ان مثل هذه الامور يجب ان لا تذكر حتى من باب الدعابة.

ولم يشعر فان تشيل بميل الى الحديث عما شاهده في الغابة في ذلك اليوم على عكس ما كان يشعر في المألوف من عادته. كان يشغل منصب مستشار ابرشية وقاضي صلح. وكان ذلك على نحو ما ينسجم مع شخصيته التي تشكك في كل شيء. كان من الممكن ايضا ان يتسلم فاتورة كبيرة باضرار كبيرة نتيجة الاغارة على الخراف والطيور. وعلى مائدة العشاء كان فان تشيل صامتا على غير عادته.

قالت عمته: "اين ذهب صوتك؟ قد يخيل الى من يراك انك رأيت ذئبا."

اعتقد فان تشيل ان ملاحظة العمة ملاحظة خرقاء وفاته ان يفهم معنى المصطلح القديم. فلو رأى ذئبا في مرزعته لكان ذلك سببا لحديث له اول وليس له آخر.

على مائدة الافطا ر في صباح اليوم التالي احس فان تشيل بان الانزعاج مما حدث في اليوم السابق لم يفارقه. وقرر ان يسافر بالقطار الى المدينة المجاورة بحثا عن كانينغهام ليستفسر منه عما يمكن ان يكون قد رآه وجعله يقول ان في الغابة حيوانا مفترسا. وعندما توصل الى هذا القرار استعاد شيئا من مرحه وراح يهمهم بلحن في الطريق الى الغرفة التي يدخن فيها. وعندما دخل الى الغرفة تحول اللحن الى شهقة وابتهال. فعلى الاريكة العثمانية في الغرفة كان يتمدد صبي الغابة في شيء من الاسترخاء المبالغ فيه. كان اكثر جفافا من المرة الاولى التي رآه فيها فان تشيل. وما عدا ذلك لم يتغير شيء في مظهره.

قال فان تشيل في غضب: "كيف تجرؤ ان تدخل الى هذا المكان؟"

قال الصبي بهدوء: "قلت اني يجب ان لا ابقى في الغابة."

-"ولكني لم اقل انك يجب ان تأتي الى هنا. ماذا لو رأتك عمتي؟"

واخفى فان تشيل ضيفه الثقيل بجريدة (مورننغ بوست) لمنع وقوع كارثة لو ان العمة رأته. في تلك اللحظة دخلت العمة الى الغرفة.

قال فان تشيل في لهجة يائسة: "هذا صبي مسكين ضل طريقه وفقد ذاكرته فهو لا يعرف من هو ولا من اين جاء." وكان يسترق النظر الى الصبي ليرى ان كان سيضيف شيئا بدافع الصدق الذي تتميز به طبيعته المتوحشة.

اهتمت العمة اهتماما كبيرة، وقالت: "ربما كان اسمه مطرزا على ملابسه الداخلية."

قال فان تشيل: "يبدو انه فقد ذلك ايضا." وراح يحرك الصحيفة بحركات عصبية متوترة ليعيدها الى مكانها.

واحبت العمة الصبي المشرد العاري كما لو كان قطة دافئة ضالة او كلبا صغيرا شريدا. وقالت: "يجب ان نعمل كل ما في استطاعتنا من اجله." وفي خلال فترة قصيرة جدا احضرت للصبي ملابس انيقة وحذاء. وبعد ان لبس الصبي واصبح انيقا ونظيفا بدا في عين العمة جميلا. ولكنه بقي في نظر فان تشيل صبيا شريرا.

قالت العمة: "يجب ان نختار له اسما الى ان نعرف حقيقة امره. غابرييل ارنست. اعتقد ان هذا اسم مناسب نطلقه عليه."

وافق فان تشيل ولكن ظلت شكوكه قوية في ان الصبي ليس بالصبي الطيب العادي. وتعززت شكوكه بفرار الكلب والقطة من البيت بمجرد دخول الصبي. وظل الكلب والقطة في آخر المزرعة يئنان ويرتجفان. اما طير الكناري الذي كان يحب الثرثرة مثل فان تشيل نفسه فقد راح يطلق اصواتا تنم عن خوف وتوجس. وقرر فان تشيل ان يستشير كانينغهام في الحال.

ركب السيارة متوجها الى المحطة. اما العمة فقد وضعت ترتيبات ليساعدها غابرييل ارنست في تسلية اطفال مدرسة يوم الاحد مساء ذلك اليوم.

في البداية لم يكن كانينغهام يميل كثيرا الى الحديث. وقال: "لقد ماتت امي وهي مجنونة. ولذلك فانت تفهم اني لا اريد ان اتحدث عن اي شيء خيالي يمكن ان اراه او اعتقد اني رأيته."

اصر فان تشيل قائلا: "ولكن ما الذي رأيته؟"

-"ما ظننت اني رأيته كان غريبا جدا بحيث ان العقلاء من الناس لن يصدقوا انه ممكن الحدوث. كنت واقفا اخر مساء كنت معك، نصف مختبىء، وراء بوابة المزرعة اراقب غروب الشمس. وفجأة رأيت صبيا عاريا طننت انه كان يستحم في بركة مجاورة. كان هو ايضا يراقب غروب الشمس من على الهضبة. كانت وقفته توحي بانه وحش بري من الاساطير الوثنية. ومرت في خاطري على الفور فكرة ان استعمله – موديل – لاحدى لوحاتي. ورفعت يدي اليه وحييته. ولكن في تلك اللحظة غابت الشمس وزال اللون البرتقالي والزهري وتحول المشهد الى مشهد بارد رمادي اللون. وفي اللحظة نفسها حدث شيء رهيب. لقد اختفى الصبي."

سأل فان تشيل في كثير من الحماسة: "ماذا؟ اختفى هكذا في الهواء ولم يترك اثرا؟"

قال الفنان: "لا. و هنا الشيء المفزع حقا. فعلى ذلك الجانب من الهضبة حيث كان الصبي يقف قبل لحظة وقف ذئب عملاق يميل لونه الى السواد وتلتمع انيابه وعيناه الصفراوان المتوحشتان. كان بامكانك ان تفكر. . ."

ولكن فان تشيل لم يتوقف ليستمع الى اي شيء عديم الجدوى كالتفكير. فاندفع الى المحطة باسرع ما امكنه ذلك. واستبعد فكرة ان يرسل لعمته برقية تقول: غابرييل ارنست هو ذئب. واعتقد ان مثل هذه البرقية ربما تسيء فهمها عمته فتعتقد انها لغز اراد ان يقول فيه شيئا يستعصي على الفهم. وكان يدفعه امل وحيد وهو ان يصل الى بيته قبل غروب الشمس. وعندما وصل كانت العمة ترفع بعض الكعك والمربى عن المائدة.

صاح قائلا: " اين غابرييل ارنست؟"

قالت العمة: "اخذ الصبي توب الى بيته. لقد تأخر الوقت وقلت في نفسي ان من دواعي السلامة ان لا يذهب الصبي وحده. انه غروب بديع. اليس كذلك؟"

ولكن فان تشيل لم يتوقف للحديث عن جمال الغروب مع العمة بالرغم من انه كان يراه. ففي سرعة لم يكن معتادا عليها انطلق الى بيت عائلة الصبي توب عبر طريق ضيق. كانت الشمس الحمراء لا تزال ترسل ضوءا خافتا على خط الافق. وكان المنعطف التالي يسمح له ان يكون على مرأى من الصبيين اللذين كان يطاردهما. وفجأة انعدم اللون البرتقالي واكتست الاشياء تحت خط الافق بلون رمادي. سمع فان تشيل شهقة هلع وتوقف عن الركض.

ومنذ ذلك الحين لم ير احد الصبي توب او غابرييل ارنست. ولكن عثر على ملابس الاخير في الطريق. ولذلك افترض ان توب سقط في الماء وان غابرييل ارنست خلع ملابسه وقفز في الماء لانقاذه. شهد فان تشيل وعدد من العمال الذين كانوا هناك في ذلك الوقت انهم سمعوا صيحات عالية يطلقها صبي قرب المكان الذي عثر فيه على الملابس. وقبلت والدة الصبي توب التي كان لها احد عشر صبيا آخر قدر ابنها بهدوء. ولكن عمة فان تشيل حزنت حزنا عميقا على فقدان الصبي الذي كانت قد عثرت عليه. وبناء على طلبها علقت لوحة نحاسية تذكارية في كنيسة الابرشية كتب عليها : غابرييل ارنست: صبي مجهول ضحى بحياته بشجاعة من اجل صبي آخر.

كان من عادة فان تشيل ان ينصاع لمشيئة عمته في كل شيء. ولكنه عارض بشدة اللوحة التذكارية التي علقت في الكنيسة تكريما لغابرييل ارنست.
[email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى