عبد القادر رشيد الناصري - الدخان في الشعر..

كتب الأديب فتحي بسيوني دعبس في العدد (920) من الرسالة الزاهرة كلمة في البريد الأدبي تساءل فيها عن عدم تناول الشعراء المعاصرين الدخان في شعرهم مع أنه بلغ من سرعة الانتشار هذا المبلغ العظيم، ورجا في ختام كلمته رجال الشعر وأرباب القريض أن يجعلوا من الدخان ملاحن وأغاريد يخلدون بها هذا النوع من الترف المدني شأنهم في تخليدهم الخمر التي يقول فيها إمام هذا اللون من الشعر وأعني به الحسن بن هاني الملقب بأبي نواس

اثن على الخمر بآلائها ... وسمها أحسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهراً ... بلى وسلطها على مائها
والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها

وإظهارا للحقيقة وإجابة للصديق الفاضل أود أن أقدم لقراء الرسالة بعض الشعر العراقي المعاصر الذي قاله شعراء العراق في الدخان

فقد قال المرحوم الرصافي وهو من المعروفين لدى أدباء العربية في وصف السيكارة من قصيدة طويلة سماها (العادات قاهرات) أبيات إن تكن متينة في ديباجتها إلا أنها تعد بحق من خيرة القصائد التي قيلت في هذا المعنى. ومطلع هذه القصيدة

كل ابن آدم مقهور بعادات ... لهن ينقاد في كل الإرادات

ثم يسترسل حتى يأتي إلى ما نحن بصدده فيقول

لو لم تكن هذه العادات قاهرة ... لما أسيغت بحال بنت حانات
ولا رأيت (سكارات) يدخنها ... قوم بوقت انفراد واجتماعات
إن الدخان لثان في البلاء إذا ... ما عدت الخمر أولى في البليات

ولست أدري ما هو رأي شعرائنا الآن في البيت الأخير من قصيدة المرحوم الرصافي وأعني بهم شعراء الخمر ومنهم صديقنا جميل أحمد الكاظمي وفؤاد عباس وخيري الهنداوي في العراق. أما أنا فلست على رأي الرصافي طبعا ثم يواصل وصفه فيقول.

ورب بيضاء قيد الإصبع احترقت ... في الكف وهي احتراق في الحشاشات إن مر بين شفاه القوم أسودها ... ألقى اصفرارا على بيض الثنيات
وليتها كان هذا حظ شاربها ... بل قد تفت بكفيه المرارات
عوائد عمت الدنيا مصائبها ... وإنما أنا في تلك المصيبات
إن كلفتني السكارى شرب خمرتهم ... شربت لكن دخانا من سكاراتي
وقلت يا قوم تكفيكم مشاركتي ... إياكمو في التذاذ بالمضرات
إني لأمتص جمرا لف في ورق ... إذ تشربون لهيبا ملء كاسات
كلاهما حمق يفتر عن ضرر ... يسم من دمنا تلك الكريات
حسبي من الحمق المعتاد أهونه ... إن كان لا بد من هذى الحماقات

والقارئ يجد في الأبيات السابقة أن المرحوم الرصافي قد كذب على نفسه وعلى الناس لأنه رحمه الله كان لا تفارق الكأس، شفتيه وهو كما قال فيه صديقنا الأستاذ الزيات: (همه من الحياة شرب العرق ولعب الورق واستباحة الجمال) وقد حدثني الأستاذ الشاعر خيري الدين الهنداوي وهو صفي الرصافي وصديقه الحميم فقال:

إن صاحب الجلالة المرحوم فيصل الأول كان قد سمع بأن الهنداوي يشرب الخمر بإفراط وأن الناس قد نقلوا له - وأعني المقربين إلى جلالته آنذاك - أحاديث لا تسر؛ لذلك أرسل في طلبه، وحينما مثل بين يدي جلالته طلب منه هجر الخمر وإن لم يستطع فليشرب ولكن دون أن يعلم أحد به. . وما كان من الهنداوي إلا أن امتثل أمر جلالته ووعده بالطاعة وترك بنت الحان نهائيا، وخرج الهنداوي على هذا الأمر واعتكف في داره وهو ينظم قصيدة في هذا المعنى. وبعد يومين من نشر القصيدة جاءه المرحوم الرصافي وكان الوقت صباحا وبيده قنينة خمر وعندما استقر به الجلوس قال لصديقه الهنداوي أنت صاحب القصيدة التي تقول فيها لصاحب الجلالة إنك ستتوب عن شرب هذه الفضة، وأخرج له قنينة الخمر، فأجابه الهنداوي: طبعا، فما كان من المرحوم الرصافي إلا أن أفرغ في الكأس قسم منها وناولها الهنداوي وهو يقول:

والله لأفسدن عليك هذه التوبة.

وظل يداوره حتى شربا. وهذه القصة - وصاحبها حي يرزق - ما سقتها إلا للاستشهاد على كذب المرحوم في شعره وأعذب الشعر أكذبه كما قال غيره.

ثم يقول في القصيدة نفسها.

يا من يدخن مثلي كل آونة ... لمنى ألمك ولا ترض اعتذاراتي
إن العوائد كالأغلال تجمعنا ... على قلوب لنا منهن أشتات

ويختم الشاعر قصيدته بقوله:

لو لم يك الدهر سوقا راج باطلها ... ما راجت الخمر في سوق التجارات
ولا استمر دخان التبغ منتشرا ... بين الورى وهو مطلوب كأقوات
لو استطعت جعلت التبغ محتكرا ... فوق احتكار له أضعاف مرات
وزدت أضعاف أضعاف ضريبته ... حتى يبيعوه قيراطا ببدرات
فيستريح فقير القوم منه ولا ... يبلى به غير مثر ذي سفاهات

والقارئ الكريم يلاحظ في هذه الأبيات ركاكة في التعبير وذلك كما قلت سابقا أن القصيدة هذه ليست من الفن في شيء إلا النظم، وذلك لدخول ألفاظ عادية فيها ولكنها تعبر عن ابتلاء الشاعر بهذا البلاء الذي عم الورى. ولست أدري ماذا كان الرصافي يقول لو شاهد الآن الغانيات وهن يدخن في شوارع بغداد؟!

ثم أذكر بيتا للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي الذي قست عليه ظروف العيش في بغداد كما قسمت على غيره فشردته في دمشق وهذا شأن الحكومات أو الوزارات المتعاقبة على الحكم من تشريد الأدباء وإماتتهم جوعا كما فعلت بالرصافي، والكاظمي عبد المحسن الذي لولا كرم الأمة المصرية لمات عاريا، وهذا البيت منشور في مجموعته الشعرية الموسومة (أشعة ملونة) التي طبعتها جريدة الهاتف الزاهرة لصاحبها الأستاذ جعفر الخليلي على نفقتها الخاصة وهو

تخذتها أمة حتى غدوت لها ... عبداً، وها أنا أفنيها وتفنيني

وللأستاذ محمد صالح بحر العلوم شاعر الشعب رباعية جميلة في وصف السيكارة هي

ذات جسم مستخلص من نضار ... حجبت نفسها عن الأنظار
في خمار من اللجين، شربنا ... من شذاها خمراً بدون خمار
قبل (العود) رأسها فأحست ... باحتراق، واستسلمت بانكسار

وأذابت أنفاسها بدخان ... في فمي، ذوب جسمها في النار والأستاذ بحر العلوم شاعر واقعي يجيد التعبير عن آلام الشعب وله من الدواوين المطبوعة (العواطف) ومن الخطية (الشعب) و (المكشوف) و (الرباعيات) وسأتناول شعراء العراق المميزين في هذا العصر بالتحليل على صفحات الرسالة قريبا إن شاء الله

وقد عثرت على أبيات للشاعر العراقي محمد سعيد الحبوبي وهو من شعراء القرن التاسع عشر للميلاد وقد ولد كما يقول ديوانه في أواخر العقد الرابع وأوائل العقد الخامس من القرن الثالث عشر للهجرة، يصف بها (النارجيلة) أي (الشيشة) في لغة إخواننا المصريين الدارجة. . ولاتصالها بالدخان أثبتها هنا، وهي كما يراها القارئ رقيقة تتسم بالأصالة والعذوبة وهذا هو شأن شعره على المجموع وإن كان لا يخلو من التقليد شأن شعراء عصره. وقد كنت أرجو لو اتسع لي المجال مع الدكتور مهدي البصير الذي سبق أن تكلم عن الشاعر الحبوبي في سلسلة خطبه التي أذاعها من دار الإذاعة اللاسلكية ببغداد ثم جمعها في سفر باسم (نهضة العراق الأدبية)!

والآن نعود إلى أبيات الحبوبي فنعرضها وهي:

ونارجيلية تهدى يكف رشا ... حلو الدلال رشيق القد مياس
ظلت تعربد في كفيه شاربة ... من ريقه العذب لا من نهلة الكاس
حتى إذا جاد لي فها بثثت بها ... وجدي (عيانا) تراه أعين الناس
حيث الدخان إذا ما جال في كبدي ... موهت في نفخه تصعيد أنفاس
جاءت تزر فويق الماء مئزرها ... وفوق مفرقها لألاء مقباس
أعديتها داء برحائي معاكسة ... فالدفع في قلبها والنار في الراس

وقبل أن أختتم هذه الكلمة أود أن أذكر صديقنا الشاعر الأستاذ إبراهيم الوائلي بأن لشعراء الشيء الكثير في وصف الدخان لم اطلع عليه ولعله يتكرم فيذكر لنا شيئا منه إذ قد حدثني صديقي الأستاذ فؤاد عباس معاون عميد الإعدادية المركزية ببغداد وهو دائرة معارف كما يعرف الأدباء بأن لشعراء النجف الكثير في هذا المعنى. لذا يسرني أن أترك المجال للأستاذ الوائلي الآن. . ولعلي بهذه الكلمة أشبع رغبة الأستاذ دعبس في وصف الدخان

(بغداد)
عبد القادر رشيد الناصري


مجلة الرسالة - العدد 925
بتاريخ: 26 - 03 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى