هيكتور هيو منرو (ساكي) - القاص - قصة قصيرة .. ترجمة: د. زياد الحكيم

كان الطقس حارا بعد الظهر. وكانت عربة السكك الحديدية حارة على نحو مماثل. وكانت المحطة التالية في تمبلكومب على مسافة ساعة تقريبا. وكان في العربة بنتان صغيرتان وصبي صغير. واحتلت عمة الاطفال مقعدا في احد اركان العربة، بينما احتل شاب لا تعرفه العمة ولا يعرفه الاطفال مقعدا ابعد في ركن مقابل. غير ان الصبي والبنتين احتلوا المقصورة وكأنهم يمتلكونها. كانت العمة والاطفال يتحدثون في ما بينهم في موضوعات محدودة، ولكن بمثابرة تذكر بذبابة ترفض ان تهدأ. وكان يبدو ان معظم ملاحظات العمة كانت تبدأ بكلمة "لا" وان كل ملاحظات الاطفال تقريبا تبدأ بكلمة "لماذا". اما الشاب فلم يقل كلمة واحدة بصوت مسموع.
- لا يا سيريل. لا.
كذلك هتفت العمة عندما راح الصبي الصغير ينفض وسادات المقعد ما اثار زوبعة من الغبار عند كل ضربة.
واضافت:
-تعال وانظر من النافذة.
اقترب الصبي في تثاقل من النافذة ثم سأل:
-لماذا يخرجون تلك الخراف من ذلك الحقل؟
اجابت العمة في صوت ضعيف:
-اعتقد انهم ينقلونها الى حقل اخر فيه عشب اكثر.
احتج الصبي قائلا:
-ولكن يوجد عشب كثير في ذلك الحقل. فليس هناك شيء الا العشب. يا عمتي هناك عشب كثير في ذلك الحقل.
اقترحت العمة في حمق:
-ربما يكون العشب افضل في الحقل الاخر.
فجاء سؤال سريع كان لا بد منه:
-لماذا العشب افضل؟
هتفت العمة:
-اوه. انظروا الى تلك الابقار.
في كل حقل على الطريق تقريبا كان هناك ابقار وثيران. ولكن العمة تحدثت وكأنها تريد شد الانتباه الى شيء نادر.
قال سيريل في تصميم:
-لماذا العشب في الحقل الاخر افضل؟
ازداد العبوس على وجه الشاب الى درجة التقطيب. كان رجلا قاسيا وصارما. كذلك فكرت العمة. كان من المتعذر عليها ان تأتي باي جواب يرضي الصبي بشأن العشب في الحقل الاخر.

واحدثت البنت الصغرى تحولا باستظهار "على الطريق الى ماندلي". ولم تكن تعرف الا السطر الاول من القصيدة، ولكنها افادت من معرفتها المحدودة الى اقصى حدود الفائدة. وكررت السطر الاول مرة بعد مرة بصوت مسموع وحالم وواثق. وبدا للشاب كما لو ان احدا راهن انها لا تستطيع استظهار السطر الاول الفي مرة بصوت عال دون توقف. وبغض النظر عمن كان صاحب الرهان الا انه كان من المرجح ان يخسره.
-تعالوا واستمعوا الى قصة.
كذلك قالت العمة عندما نظر الشاب اليها مرتين.
اقترب الاطفال في تكاسل من نهاية العربة حيث كانت العمة. وكان واضحا ان سمعتها كقاصة لم تكن سمعة طيبة في تقديرهم.
بصوت خفيض، قاطعته اسئلة كثيرة عالية من المستمعين، بدأت قصة خالية من المغامرة والامتاع عن بنت صغيرة طيبة اقامت صداقات مع الناس كلهم بفضل طيبتها وانقذها اخيرا من ثور مجنون عدد من المعجبين بشخصيتها واخلاقها.
قالت البنت الكبرى:
-اما كانوا لينقذوها لو لم تكن طيبة؟
كان هذا بالتحديد السؤال الذي اراد الشاب ان يطرحه.
اعترفت العمة بتردد:
-اجل ولكني لا اعتقد انهم كانوا ليهبوا بالسرعة نفسها لمساعدتها لو لم يكونوا يحبونها كثيرا.
قالت كبرى البنتين بقوة:
-هذه اغبى قصة سمعتها في حياتي.
وقال سيريل:
-لم استمع الى القصة بعد مقدمتها الاولى. انها قصة غبية جدا.
اما البنت الصغرى فلم تعلق باي تعليق حقيقي على القصة، ولكنها استأنفت منذ وقت طويل استظهار السطر الاولى من قصيدتها المفضلة.
قال الشاب فجأة من الركن الذي كان جالسا فيه:
-لا يبدو انك قاصة ناجحة.
اسرعت العمة الى الدفاع عن نفسها ضد هذا الانتقاد غير المتوقع.
قالت في شدة:
-انه لمن الصعب جدا ان تروي قصصا يفهمها الاطفال ويحبونها.
قال الشاب:
-لا اتفق معك.
قالت العمة:
-لعلك تريد ان تروي لهم قصة.
قالت البنت الكبرى:
-احك لنا قصة.
بدأ الشاب:
-ذات مرة كان هناك بنت اسمها بيرثا. وكانت بنتا بالغة الطيبة.
بدأ اهتمام الاطفال يخمد بعد ان اثير مؤقتا. فكل القصص يشبه بعضها بعضا الى حد رهيب بغض النظر عمن يرويها.
-كانت تعمل كل ما يطلب منها. وكانت صادقة دائما. وتحافظ على نظافة ثيابها. وتأكل الحلوى المصنوعة من الحليب كما لو كانت فطائر مربى. وتؤدي واجباتها المدرسية على نحو كامل. وكانت مهذبة في تصرفاتها.
قالت كبرى البنتين:
-هل كانت جميلة؟
قال الشاب:
-لم تكن بجمال اي منكم ولكنها كانت طيبة الى حد رهيب.
وسرت موجة استحسان للقصة. كانت عبارة "الى حد رهيب" لوصف الطيبة عبارة جديدة جديرة بالاستحسان. فقد بدا ان هذه العبارة ادخلت عنصرا من عناصر الحقيقة في القصة كان مفتقدا في قصص العمة عن الاطفال.
تابع الشاب:
-لقد كانت طيبة الى درجة انها فازت بعدة اوسمة للطيبة. وكانت تلبس هذه الاوسمة دائما. كانت تعلقها على ثيابها: وسام للطاعة، واخر للدقة في المواعيد، وثالث للسلوك الحسن. كانت اوسمة كبيرة من المعدن. وكان يضرب بعضها بعضا كلما سارت فتحدث ضجيجا. ولم يفز اي طفل او طفلة في البلدة التي تعيش فيها بيرثا بثلاثة اوسمة. ولذلك كان الجميع يعرفون انها طفلة بالغة الطيبة.
قال سيريل:
-فاضلة الى حد رهيب.
-كان الجميع يتحدثون عن طيبتها. وسمع بذلك امير البلاد. فقال انه يجيز لها ان تزور حديقته مرة كل اسبوع مكافأة لها على طيبتها. وكانت الحديقة في ضواحي المدينة. وكانت حديقة رائعة. ولم يكن يسمح لاي طفل بدخولها. ولذلك كان شرفا عظيما لبيرثا ان يسمح لها بدخولها.
قال سيريل:
-هل كان في الحديقة اي خراف؟
قال الشاب:
-لا. لم يكن فيها اي خراف.
جاء السؤال الذي لا بد منه بعد ذلك الجواب:
-لماذا لم يكن فيها خراف؟
وسمحت العمة لنفسها ان تبتسم. وكانت ابتسامة تنطوي على تهكم.
-لم يكن هناك خراف في الحديقة لان والدة الامير حلمت مرة ان ابنها سيقتله خروف او ساعة تسقط عليه. ولهذا السبب لم يحتفظ الامير بخروف في حديقته ولا بساعة في قصره.
وكبتت العمة شهقة اعجاب.
سأل سيريل:
-هل قتل الامير بسبب خروف او ساعة؟
قال الشاب بعدم اكتراث:
-انه لا يزال على قيد الحياة. ولذلك لا نستطيع التنبؤ ان كان الحلم سيتحقق. على اي حال، لم يكن يوجد خراف في الحديقة. ولكن كان فيها كثير من الخنازير الصغيرة التي تصول فيها وتجول.
-ما لونها؟
-سوداء برؤوس بيضاء، بيضاء ببقع سوداء، سوداء باكملها، وبعضها كان ابيض باكمله.
وصمت القاص ليسمح لصورة كاملة عن كنوز الحديقة بان تغوض في خيال الاطفال. بعد ذلك استأنف القصة.

-شعرت بيرثا ببعض الاسف لانها اكتشفت انه لم يكن في الحديقة اي ازهار. فقد وعدت عماتها والدموع في عينيها انها لن تقطف ايا من ازهار الامير. وكانت تريد ان تفي بوعدها.

-لماذا لم يكن هناك اي ازهار؟
قال الشاب بسرعة:
-لان الخنازير اكلتها جميعا. وكان الجنائنيون قد ابلغوا الامير بانه لا يمكن ان يكون في الحديقة خنازير وازهار. ولذلك قرر ان يكون في الحديقة خنازير دون ازهار.
كانت هناك همهمة استحسان لبراعة قرار الامير. فكثير من الناس كان يمكن ان يتخذوا قرارا معاكسا.
-كان هناك اشياء ممتعة كثيرة اخرى في الحديقة: بحيرات تسبح فيها اسماك ذهبية واسماك زرقاء واسماك خضراء. واشجار عليها ببغاوات وطيور تزقزق مترنمة باشجى انغام ذلك الزمان. راحت بيرثا تذرع الحديقة جيئة وذهابا مستمتعة بكل شيء حولها استمتاعا كبيرا. وكانت تفكر في قرارة نفسها: لو لم اكن طيبة لما سمحوا لي بان ادخل هذه الحديقة الجميلة واستمتع بما فيها. واصطدمت اوسمتها الثلاثة الواحد بالاخر بينما كانت تسير وساعدها ذلك على تذكر مدى طيبتها. في تلك اللحظة دخل ذئب ضخم مزمجز الى الحديقة ليرى ان كان بامكانه ان يصطاد خنزيرا صغيرا سمينا لعشائه.
تساءل الاطفال في اهتمام شديد:
-ما لونه؟
-كان لونه بلون الطين. وله لسان اسود وعينان رماديتان تشعان ضراوة تمتنع عن الوصف. وكان اول ما رآه في الحديقة بيرثا. كان ثوبها ابيض بلون الثلج. كان نظيفا بحيث يمكن رؤيته من مسافة بعيدة. رأت بيرثا الذئب وادركت انه يسير نحوها. وبدأت تتمنى لو لم يسمح لها بدخول الحديقة. وركضت باسرع ما امكنها الركض. وركض الذئب وراءها بقفزات واسعة. وافلحت في الوصول الى مجموعة من شجيرات الآس واختبات بينها. جاء الذئب يشتم الاغصان. واخرج لسانه الاسود من فمه. بينما راحت عيناه الرماديتان تشعان غضبا. اعترى بيرثا خوف عظيم. وراحت تفكر: لو لم اكن طيبة لكنت في امان في بلدي هذه اللحظة. ولكن رائحة الآس كانت من الكثافة بحيث كان من الممكن ان يبحث الذئب عن بيرثا وقتا طويلا دون ان يعثر عليها. فقال في نفسه: ان من الافضل ان يبحث في مكان اخر عن خنزير صغير. كانت بيرثا ترتجف كثيرا خوفا من الذئب الذي كان يزمجر ويشتم الاغصان بالقرب منها. وفيما هي ترتجف اصطدم وسام الطاعة بوسامي السلوك الحسن والدقة في المواعيد. كان الذئب على وشك ان يغادر المكان عندما سمع قعقعة الاوسمة. وتوقف واصاخ السمع. وقعقعت الاوسمة مرة اخرى بالقرب منه. فاندفع بين الشجيرات وعيناه الرماديتان تشعان ضراوة واحساسا بالنصر. فجر بيرثا الى الخارج وراح يلتهمها الى اخر قطعة. ولم يبق منها الا حذاؤها وبعض ملابسها واوسمة الطيبة الثلاثة.
-هل قتل اي من الخنازير الصغيرة؟
-لا. هربت جميعا.
قالت صغرى البنتين:
-كانت بداية القصة مملة. ولكن النهاية رائعة.
قالت كبرى البنتين بقوة:
-انها اجمل قصة سمعتها في حياتي.
قال سيريل:
-انها القصة الرائعة الوحيدة التي استمعت اليها في اي وقت من الاوقات.
وجاء رأي معارض من العمة:
-هذه قصة غير لائقة للاطفال البتة. انك دمرت بها نتائج سنوات من التعليم الحكيم.
قال الشاب وهو يجمع اشياءه استعدادا لمغادرة العربة:
-على اي حال استطعت ان اجعلهم هادئين عشر دقائق. وهواكثر مما استطعت انت ان تفعليه.
قال الشاب لنفسه وهو ينزل الى رصيف محطة تمبلكومب:
-ياللمرأة المسكينة. في الاشهر الستة القادمة سيلح عليها الاولاد علانية ان تروي لهم قصة غير لائقة.
--------------
[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى