بشرى الفاضل - جرير.. قصة قصيرة

باتت جريرة شتوياً فنحن لا ننام لكننا نبيت وشتاؤنا ثمانون جاغة أي إثنتان وخمسون ساعة بحساب البشر. كانت جريرة في خلوتها مع غصة هاء السكت حين دهمتها أحلام الجراد . وأحلامنا بخلاف أضغاث البشر تتحقق بعد جردات أحلامنا كالسيمفونيات تبدأ بجرادة فريدة تغني صولو ثم جرادتان في دويتو ثم ينطلق شجو الكورال السرب ثم أوركسترا الأسراب الكونية المصفاة الراقية. حيث صيغة منتهى الخضرة . كل جرادة تغني بواحد من الألف من التون بموسيقى لم يحلم بها موتسارت . و ما يلبث الحلم الحقيقي أن يدخل في غرضه ثم يبدأ الإنسحاب التدريجي في الحلم من الخضرة المتناهية إلي الخضرة أي كلام البشرية فالى الأزرق البرزخ فالصفرة ثم الصحو باللون الذي يكيل دائماً حماد. رأت جريرة أولاً جريراً يخاطبها مغمغماَ . هو يتكلم ببطء شديد وهي لا تكاد تفهم شيئاً بدا لها جرير غريباً في الحلم حتى أنها كادت تبكي وفتحت فمها لكي يبدأ النشيج لكن هاء السكت دهمتها فجأة. جريرة لم تسكت هذه المرة بل ملأت بالدهشة جوفها واستغرقت في ضحك كتوم حين أدركت أن هذا يتم أثناء الحلم . ضحكت جريرة في سرها وضحكت ثم ضحكت وضحكت حتى قادها شلال الضحك إلى صحوة مفاجئة لا تشبه تلك الصحوات البشرية غير البريئة. . ثم تذكرت أنها جائعة حد التصاق جنبي بطنها الرشيقة . ذلك ثم ما لبث أن سمعت حركة تدب بالقرب منها فالتفتت لترى عتابةً نشطة . كانت من قبيلة الجبورة . طارت جريرة نحوها كالسائرة دون أن تفرد جناحيها كأنها طائر متردد لم يتخذ قراراً بعد بالطيرا _ قولي لي يا شابة ألا توجد دوحة بالناحية هزت العتابة رأسها بالنفي لكنها قالت مستدركة ـ لا .اللهم إلا طندبة التطبيب. ونظرت الجبورة الى بطن جريرة الملتصقة ففزعت ثم تب تب عتبت قافزة نحو النهر وبعد ربع جاغة عادت تنوء بأحمالها من الجرجير والقت به أمام جريرة .طارت جريرة من الفرحة ثم جرت اليها جرجيرة وجرجيرة وجرجيرتين وعشر حتى استردت عافية سنين ورمقت الجبورة بامتنان وقالت مداعبة ـ هل اسم قبيلتكم جبورة أم قبورة فردت العتابة الكريمة _ــ جبورة والغريبة جراد الشمال يسمينا قبورة فهل هذا مهم؟ ومدت جريرة يدها ــ جريرة ــ عتبة يا ألف مرحب. وهكذا تعارفتا خلال شائق الإبتسام . العتاب والجراد في علاقة تاريخية ورفقة ممتدة الجذور . أصلاً العتاب جراد لكن يبدو كما لو أنه انتقصت منه حركة واحدة فلم تكتمل صورته إن كان الطيران يعني الكمال . ولذا يتحرك العتاب مثل حركة الممثلين من أيام شارلي شابلن. ويسخر فلاسفة الجرا د العتاب من ارتباط الكمال بالطيران ويستدلون بالبشر الذي لا يطير إلا مستعيناً بالحديد الهدار الذي يدمر الأكوان سعياَ وراء محاكاة الجراد. الرفقة بين العتاب والجراد أكثر من حميمة. العتاب يخدم الجراد بأفضل مما تخدم البشر الكلاب .البشر يستغلون الكلاب لكن الجراد يرد على خدمة العتاب في المسائل الاستراتيجية كالتنبيه بخطر القنبلة المبيدة أو شباك أكلة الجراد من الإنس المتوحشين والوحوش وغير ذلك وبما أن التاريخ الحميم مك -أكلت جريرة الجرجير بمتعة كأنه موليتة من واصل نومك في عز الخريف . ولمعت في خاطرها أثناء الازدراد صورة ريحانة آسرة العطر فتذكرت أيام مجدهما الغابر هي وجرير قبل شتات القنبلة المبيدة الأخيرة التي ذهبت بريح كتلة سربهم الأخاذ الملون قبل جوغات طويلة سابقة لنكوص جريرة لجرداء قرب واصل ببطن الجزيرة. تذكرت جريرة كل ذلك في جانيات معدودات ثم طفقت تغني باللوعة كلها وانطلق الحنين ــ تك . تكم. تك تك تكم. تك تكم. تكا تك تكم ثم أفردت جناحيها ودارت راقصة في فضاء القصبة وجارودي رغم غموض الأحداث. وشاق عتبة رقص جريرة البديع وأخذتها حركتها الرشيقة هناك في الأعالي فأيقنت أن ضيفتها عاشقة وسألتها وجريرة لا زالت تدور في بداية التسخين ـ إلى أين ونحن لم نتعارف بما فيه الكفاية؟ ومن علٍ سمعت صوت العاشقة يقول ـ هو مشوار ضروري . سأعود ونفتح قلبينا. شكراً لحزمة الوجبة الدسمة . وردت عليها عتبة ـ طيب تجدينني هناك ــوأشارت لأكمةــ عند طندبة التطبيب . وهذا الحي اسمه جرورة تذكري . لكن جريرة كانت قد طارت ولمع في مفاعل التسريع الدماغي لديها خاطرة خافتة من البعيد البعيد عن مذاق حسوة بشرية تذوقتها صدفة وثملت بها. وفي سرها قالت هذه الجرادة الحريرية الشاعرة العاشقة ـ آه وآه ثم آه من غموض الأكوان . ولو كانت جريرة نشأ ت في صحبة بعض بنات حي جرورة المتفتح لآمنت بال ري انكارنيشن وهذا أيضاً من أسرار الكون . طارت جريرة وطارت طارت وحلقت فوق سماء القصبة وهالها الحجم الهائل للحجارة والحركة شبه الجرادية للحديد الهدار الأرضي بأكثر من الجوي وللبشر المعذبين . كان الوقت أول الليل .دارت جريرة دورة كاملة حول المدينة متجهة نحو جارودي . واعجبها من علٍ السيف المجوهر بالنجوم ولأنها مبرمجة بحب جرير وحده فما كان في خلدها سوى الانطلاقة من جديد نحو بستان الخضرة الرهيب . طارت جريرة لكنها فقدت بوصلتها الى الساحة فرأت أنه من الأفضل المجيء اليها من ناحية الجزيرة وهكذا طارت فوق صوتياً الى هناك . وبعد جانيتين أو ثلاث لمحت جرادة أخرى تطير مسرعة رغم وزنها الزائد . كانت تبدو مع الضوء الخافت مثل خياراية. شيئاً فشبئاً اقتربت جريرة من الجسم الجرادي فتعرفت من خلال ابتسامتها على ـ هاي جريرة. لسة ما وصلتي ؟ تعجب جريرة الشاعرة من لغة الشابات الطالعات. متقنة في بيان أغراضها لكنها شالو وغير شاعرية .تتيقن جريرة أنها لغة ليست جينوين. ردت جريرة كما لو أن الأمر فزورة ــ وصلت ولم أصل . لم أقابل جريراً بعد . وغمغمت جرة في سرها ماذا لو حكيت لها عن تحرشات جرير بي أول ما وصلت للبستان ؟ لكن جرة عدلت عن فكرتها وقالت من تحت فمها متأوهة ــ أوه شابكانا جرير .. جرير . ثم توكلت وقالت ـ سأكلمك الآن بصدق . جرير يرافق ثلاث بعدك ببستان النعيم. ـ ها .. زفرت جريرة رفضها للخبر ثم ما لبث أن ملأ الغضب جوفها العامر بالمحبة وانقطع الحديث بينهما فطارت صامتة لا تدري ما تفعله تجاه تصريحات هذه الجريدة الغامضة. لكن جرة واصلت حديثها فقالت ــ أعلم أن الجميع يعتقد أنني منزلقة . لكن هيلاه وهيلاه ما انزلقت ولم أورد خبراً واحداً عن جراد الجزيرة لأتباع جبادة . أنا اجيء لهذه الجنة لأن العيشة سهلة وما خصني كان الرجال بيجوا عشان حورها أو ما يجوا ما خصاني وتعالي ياجريرة النسألك واصل ديك شن فيها بلا السجم؟ استمرت جرة تثرثر وتثرثر ناسجة خيوط مرافعتها أمام قضاة انتفاضة أسراب جراد وهمية لكن جريرة كانت في شبه غيبوبة تطير لأن هناك هواء رحيم يدفع بها الياً مثل طائرة معطوبة . وفي سرها قالت جريرة ـ هيلاه . يا جرير ..جرير هل ترى ما تقوله هذه الجرة وهل ما رأيته في الحلم صحيح؟ أين أنت الآن يا حبي . يا جرجاري في عالم مليىء بالأسمال . يا حصن الأوزان والقوافي والحلم بسربنا الأبدي . صدحت جريرة بذلك ثم دهمتها سنة من نعاس حتى كادت أن تهوي فالهواء الشفوق يدفعها نعم لكن من شروطه الوعي. وصاحت من أمامها جرة مرة أخرى ـ اسمعي يا جريرة أن أتفهم أنك لا تصدقينني . لكن وبما سأستعين بذكائك الذي يتحدث به الجميع في واصل وقدراتك التي أثنى عليها المعلم أبو الحصين كثيراً ,لأشرح لك ما جرى فبعد أقل من نصف جاغة نصل إلى البستان وستتحققين بنفسك من صحة ما أقول . البستان يحكمه جبادة وكما تعلمين فهو يحكم سائر الجراد من جابودي إلى كافة النواحي والإنقايات. جبادة يحكم حتى مناطق لم يرها ولم يسمع بها . سكتت جرة ثم واصلت إزاء صمت جريرة الذي كان يوحي بأنها تصغي ـ مش تقولي واصل القريبة دي . جبادة يحكم الجراد من قرب جامينا وجراد جنينة وجبل الجراد وجراد جابرة وجوبا والجبيلية وجبيت وجيلي وجبل أم علي وجابرية إلى عند جبلاية الجقر وجراد جـ.... وهنا قاطعتها جريرة المبرمجة ـ هل ما قلته عن جرير صحيح يا جرة؟ فردت جرة . هو لم ينس عشرتك. يذكرك دائماً . لكن يبدو أنه مشغول . لقد عينوه حامياً للصوتيات التي ترسل اشاراتها لسائر الجراد في جابودي وعواملها مما ذكرت. يرافق جرير ثلاث أخريات هن جغمة وجافلة والأخيرة نسيت إسمها. صمتت جرة . وطارت جريرة حانقة موازية لها بالدفع الآلي حائرة فلا تسمع من طيرانها إلا خفق الأجنحة. طارتا وطارتا وفي كل هذه المدة كانت كلمة واحدة مثبتة في دماغ جريرة شبه المعطل. كانت الكلمة تقول جرير وبدأ هسيس شعر جريرة الصافي يغني حيرتها نيابة عنها تك .تككم . تك تككم. تك تككم تككم تككم . وشيئاً فشيئاً دخلت الجرادتين في اللون الأصفر ثم الأزرق وفيه صاحت جرة ـ هيلاه . اقتربنا أخيراً من النعيم ثم لاح البستان الغريب .الخضرة التي في الأحلام . تلك الخضرة التامة التي كادت أن تنسي جريرة برمجتها الجريرية. قالت جريرة في سرها حين أحكي لجرير عن كذب هذه الجرة فما ترى سيصنع بها ؟ حلقت الجرادتان الجزيريتان وحلقتا معجبتان كل واحدة لأهدافها بالخضرة ونسيت جريرة غصة اللطمة التي تلقتها سابقاً حين زارت البستان لأول مرة . وطفقت تتخيل ما سيحل بعد ثوان حين يشرق جرير الفتى الوسيم الرشيق رفيق الصبا والشباب . وقادتها جرة لمسكن جرير وصاحت جرة ما أن اقتربتا من الفيلا ــ جرير ..جرير أنظر من قادمة اليك ؟ وخرجت جرادة من الفيلا. هي رفيقة جرير اليافعة الأخيرة فيما يبدو . ثم ما لبث أن غامت الدنيا حين خرج فتىً جرادياً ضخم الجسد والبنيان لا تكاد تعرف أوراكه من أوداجه . ولأن جرة تعرفه صاحت به ـ يا جرير أنظر فوقك .ألا ترى؟ هذه جريرة. ـ جرير؟ قالت جريرة قافزة هلعة . وعاودت النظر تحتها نحو جرير فأرعبها ترهله وتخمته غير المتناسقة مثل حكام الجراد الريفيين. ولم تجد فيه غير كائن يشبه الجرذ. وصاح جرير بلا انفعال ـ أهلاً جريرة. كنت سأعود قبل جوغتين وأحكي لك بالتفصيل سر غيابي ولكن ع أت كم ته تلعثم جرير. وما كان لائقاً من الجرادة اليافعةأن تضع جناحها فوق كتف جرير المترهل لكي تؤكد حيازتها له . كانت تلك حركة زائدة منها فهي لا تعرف جريرة . أما جريرة فقد أجرت عملية حاسوبية كونية في ثوانٍ فأدركت كل شيء. وتيقنت أن جريرها إنما أصبح في الذاكرة وقد ذهبت به السنون الغوابر . أما هذا الذي أمامها فهو ليس إلا كتلة لحم توجهت نحو الخضرة المعدلة وراثياً ترتع فيها وترتع كأن ليس هناك معذبون في واصل نومك وضواحيها التي هي ضواحي الضواحي . ترتع كتل اللحم القميئة هنا كلها ولا شك وتأكل مما يزرع الجراد العتاب دون حساب. أقبل جرير نحوها رافعاً قوادمه وهو يقول بصوت خال من التعبير ـ أهلاً لكنه فوجىء بصرخة جريرة الموجوعة الداوية ـ شييييل إيدك يا جرذ! ذلك ثم دارت جريرة دورة سريعة فارتفعت فوق أحزانها وفجيعتها إلى أعلى مثل عامودبة بشرية وحلقت معها غضبتها فلم تسمع رجاءات جرة التوفيقية المتوسلة. غابت الخضرة في سيكلوجيا الغضب وهكذا حين نظرت جريرة خلفها بغضب أيصرت البستان حقلاً من النيران ونبست لها نفسها فقالت ـ يا لها من جنة جهنمية. ذلك ثم طارت جريرة وطارت طارت وطارت إلى أن لاحت لها شجرة دليب وهناك حطت أحزانها وتأوهت علها ترتاح وكان يلفها طنين الكون. كان الوقت ليلاً لا زال ,غابت عنه جمرة الجراد القمراء فاشتبكت ظلمته بالظلمة التي حلت بروحها .وحلت بحلقها غصة فظنت أنها ستبكي لأول مرة في حياتها فجريرة لم تعرف الأنين لكن تلك الغصة كانت هاء السكت التي حلت بها وهي بين براثن الفاجعة فسكتت.



تصوييب
إسم المنطقة أوالناحية جارودي وليست جابودي أما اسم جابودي فهو لإحدى الشخصيات وسأصححها في الأصل
بشرى

* جرير.. قصة قصيرة للدكتور بشرى الفاضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى