محمد حيدار - الرحيــل عبــر تعاريــج الإثــارة.. قصة قصيرة

من دلائل إخفاقك أن تتبدي للآخرين فوق منطقية، هدوء الفضاء الخارجي للمدينة تتشرّبه الطائرة المقلة لك الآن، والعبور أطوار أحدثها أن تقفزي بمئات الأميال فوق حدودات واجمة خلف الإثارة، أن لا تعنيك طوارئ المدينة وأذكار ساداتها العائدين من رجع التصابي وتناسخ الكهولة.

مارستِ تهريب كل شيء؛ حتى أشيائك الضليعة في الفتنة، أتقنت لغة الجمرك، منطق الليل وطقس الفصول العابرة، ومبغى الإمتاع في أجنحة الكُساح الفطري، قبل عام لم تكوني سوى مهرِّبة من طراز بسيط يبهرك الوامض الليلي قرب حواجزلا تُركن مطاياها مع المغيب.

نحوه، نحو القعيد يصرفك خان الضفة السفلى كآخر موانئ الاقيانوس، وبك تتيه مروج السوق الانتقالي، والظرف الانتقالي والحب الانتقالي.

توهج طموحك يثخن في بقايا كلفة لم تعد سوى مفتعلة، كليا من ذاكرتك انمحت كلمة أحد الكبار حين قال: " كل الأشياء تحركت إلاّك" وقال. وقال، وأنت تنبذين الكبار حين يركبهم الكلام.

منذ أكثر من عام، كنت شبه وصيفة في القصر الذي انمحى رونقه بفعل غبار الخيل، يومهـا لم تدركـي قواعـد الإدلاء، كـان يسكنـك صهيـل فطـري مكبـوت، هـذا الصهيل ـ كما أيقنت آخرا ـ هو صهيل المغامرة، والمغامرة رحيل خلف الشبق والتوق عالي الطيران، ولطيران مطاردة متفاوتة الوجع.

أّجّلت سليقتك، صرت قابلة للتركيب من جديد، وجدانك لم يتحرك نحوه إلا إبان لقاء ما، وفي أعقاب الهزيج استأنف بصرك لعبة الشرود شطر اللامرئي، ليكبر الطموح ويكبر، وحين لامستْ أنامل سيد السوق وجنتك المتوهجة لم تحاصرك الدهشة كما في أزمنة الجموح المنسابة.

كله خدّك هوى نحو الأصابع العابثة ليلاحق فلول الدفء. المتمردة، وكعادتك لم تنتظري افتتاح الدعوة، بل من بهو الفندق انصرفتما كما لو أنك في لحظة نقاهة، وأطفأ الفجر أعقاب السجائر و قادك حنين مبهم بعد النشوة إلى حيث ينام أطفال ورجل مقعد ينتظر محصول التهريب.

ومن سوق (..) تلقى مكالمة على عجل، وأدرك أن الطائرة التي تقلك قد أقلعت منذ أحد أرباع الساعة.

ــ لـمَ تعوديـن ؟!

خواطـرك تتـردد.

ــ لم تنفلتين من الانطلاق ليعاودك الحلم ثانية وثالثة؟!

خواطـرك تتـردد.

السوق أنهت نوازع الانغلاق فيك، كل ما تقدمين لها نافذ، حتى و حتى، كبرى سيدات الأعمال هناك في بلاد الانغلاق الأكبر قالت لك: ــ الانفتاح كالانغلاق.

وتساءلــت:

ــ ولكــن؟!

ومؤكدة صاحت في وجهك:

ــ كلـي ومطلق.

وتراجعـت خواطـرك:

ــ ففيـم عودتك إذن؟!

هل كل الوجوه تحمل نسبة ما من ملامح التجني؟! الثغور يركبها القنوط، تذعن لقادم ما، لم يعد هناك من يتشمم أوراقك إلا هذا الأشيب المفتوح على بقايا اللمس والقبل والإبصار العكسي.

في نفسك لا زالت هناك فواصل يؤرقك استقرارها وقد اكتسبت ثقل المسلمات، حين قدومك يحرق الصوت المسافـة، تتصابـى الأرقام في مراجع عرّاف الثغر، والثغر رديف الثغــر وموجب نفاذه. ــ السوق قيمة الأشياء؛ كل الأشياء.

باغتك الرجل قبل أن يتحفظ إذعانا لصفة ما يتمظهر بها.

ــ والنــاس و.

أضاف واستسلم للسكون كسابق دأبه، عيناه ينغرز لفحهما في وجنتيك، يخشى اختفاءك ثانية وثالثة، تتوقفين يصرف بصره عن حقائب زينتك، وحده من بين من ترين يلحف قوامك في استدراجه، بينما الآخرون نشاوى بصرير المواد الموصى بحفظها خارج أحواز الضوء إلى إشعار آخر، والضوء في كل الحالات حارق ربما لرابطته الوراثية بالشمس.

وبادرك الذي يقف قريبا منـك بسؤال:

ــ متزوجة؟!

وأجفلك السؤال المنعكس على تذبـذب رموشك المجهدة بثقيل السهر والسهوم وبقايا السمر، قلت كما لو أنك تنفين تهمة آخذة في التركيب:

ــ من زوج عاطل

يكابد أولى مواطن الهوان.

وعدت إلى نفسك تحادثينها:

ــ في زمن ما قبل الزمان كان صياحه يلاحق زوايا حيّنا

تخافه العائدات الى منازلهن بعيد المغيب.

خارج الحصار كنت تخافين حصاره إلى أن تقدمت منه ذات ليلة مطمئنة إلى انسياق الزمن:

ــ جارتـي (ح) تتاجـر في سلع (..)

وتلمظ دون أن ينطق عكس دأبه، والصمت نطق بدوره إحالة على الفعل كما فهمت وأنت سريعة الفهم في الذي تكابدين.

وانكفأت إلى الخلف، بغتة بدا لك أن الأشيب يرفض دلالك ربما لتماديك فيه، هل لأنك تكرهينه بدون مقدمات؟ وهل في وسع واحدة

مثلك أن تكره أو أن تحب؟ الحاجة وحدها هي التي تحدد موقفك دائما، وحاجتك إلى الأشيب لا تزال قائمة فأمتعتك بين يديه وأوراقك لما تجتاز بعد شباك التآشير.

فلول انشراحك أخذت في التراجع لحظات التصاق مخيالك بإحدى ليالي تطوّافك عبر حواضر العـالم الأول.

ساعتها كانت الباخرة الحاملة لعلم ما تمخر العباب، تتشرّب نسيم الأفق البعيد، وبأسنتها التحتية تلاعب صغار الحيتان في إشفاق يراعي حق الحيوان ووصايا (بريجيت باردو).

ولمحتجز المشاعر ـ بما فيه الكفاية ـ ولفيضان الرعشة ثم لاحتياطي النبض اتسع مرقص الباخرة الليلي، كان بيضاويا دافئا، وكنت هناك تضعين يدك على خدك في حيرة، وعيناك تائهتان خلف القدود الراقصة وأدركت أن الرقص أنهك الجميع إلاّك، شاردة خلف كأس ما وعيناك

الواسعتان الغامضتا الخضرة ترسوان أخيرا عليه، مثلك هو الآخر لم يجرفه تيار الرقص.

مثقلا بصمت إعجاب غادر منتهى الرواق، رواق الرعشة وقبل أن يدنو منك بادر في جرؤة:

ــ لنرقـص سويـا.

خطاك بك تثاقلت في أول الأمر عكس يديك اللتين قفزتا نحوه بدون مقدمات كافية، ثم تبدد ظاهر امتناعك، وقبل أن تسأليه عن وجهته حدثك عن أشياء لا رابط لها؛ منتهى رحلته تطوافه عبر كوبنهاغن وأوسلو وزوريخ ووو وافتتاحيات من مغامراته، وبدا العرض مغريا وظل يهمك أن تعثري على مفتاح ما لفلاذي شخصيته، ورغم تفتّحه تمنّع عن الإدلاء، لكنه أربكك حين رد على سؤالـك:

!ــ أنـا ...........

وفي تشنّج تراجعت يداك عن احتضانه وصحت متأوهة:

!! ــ ........... ماذا تقول؟

قلت ذلك دفعة واحدة لهول المفاجأة، دكنتك الوافدة لاحظها فضحك:

ــ أعرف أن ذلـك قد يفاجئـك.

تيار الهمس انقطع لم يعد موصولا بسمعك، وهو يحاول ترميم شحنة اندفاعك من جديد قال لـك جادا:

ــ مـاذا دهـاك؟!

هو ذا السؤال الذي تكابدينه حتى قبل أن يصارحك به، الأكيد لديك أن توازن مزاجك لم يعد ذلك الذي اطمأننت إليه قبل أن تعرفي بعض حقيقة الرجل.

وثانية سمحت لشعور محايد بداخلك أن يتدفق، وفي شبه غير اكتراث قلت له:

ــ ومـاذا في ذلـك؟ كـن من شئـت

ــ أو لسـت بعـربيــة؟

ــ بلى.

كانت البشرى التي جرفته نتيجة إصرارك غير متوقعة، إلى أن زاحـم انتشاء خواطـره كلماتـه المندفعة في غيـر انتظام:

ــ ألا يهمـك كونـي ......؟!

وهززت كتفيك في غنج تتقنينه:

ــ اطمئن قلت لك كن من شئت.

ــ ولكنـك عربيـة؟!

ــ لا أحتاج إلى أن تذكرني بذلك مرة ثانيــة

ألا يحق لي أن أقضي ليلة سمر على ظهر

باخرة ؟!

وضحــــك:

ــ ومـع أي كــان؟

وبعنف انتهرتــــــه:

ــ إذا كنت قد تجاوزت الحـد في نظرك فلماذا أثرتني؟!

وفعلا تراجع الذي بات يخافـه فيك، لقاؤه أنساك أنك لا تزالين على سفر بحري، ليلتك تلك ـ بكل مقاييس المتعة التي تعرفينها ـ رائعـة وبادرته وقد شـارف اللقـاء علـى الانتهاء:

ــ لم تحدثني عن حقيقتك بما فيه الكفاية‍‍‍‍‍‌!

ــ وما الفائدة وقد انتهى كل شيء بيننا؟

ــ ولكنه انتهى بما تعــرف.

وتمتــم ضاحكا:

ــ كأي مواجهة تجمعنا بكم.

وغضضت بصرك منكسـرة:

ــ أعــــرف.

وثانية حاول ترضيتك:

ــ لقد أخبرتـك.

ــ فقط أريد أن أعرف أكثر.

ــ إنـه عرق يقوم على أشياء كثيرة.

وقلت في تجاهل مقصـود:

ــ لا أفهــــــم

ــ قد تفهمين يوما فكلكم لا تفهمون إلا بعد فوات الأوان

وحاصرته عيناك وهو يقرّ بروعتهما وقلـت:

ــ مـن تعـنـي؟!

وأشعل سيجارة وهو لا يزال منصرفا إلى إعادة تنظيم مظهره وقال:

ــ أعني من تنطبق عليهم كلمتــي.

وبعد أن غادر غرفة الباخرة في زهو، لملمت ثيابك في تصاغر وذلة وحاولت أن تقولي لنفسك في شبه تعزية، وأنت تتصفحين أوراقا نقدية ناولك إياها قبل خروجـه:

ــ ومـاذا في ذلـك؟!

لكن وقع كلماته كاد يفجر دماغك وقد أحدثت في نفسك صدمة وأي صدمة وأنت تسترجعينها في خوف:

ــ أنـا موساوي.

وتساءلت فزعـــة:

!!ـــ يهودي. إسرائيلي؟اا ماذا تقول؟

الأشيب اختلس سهومك حين أومـأ إليك بالاقتراب، وقد أعاد إليك حاضرك، إشارته تلك نقلتك من زمن إلى زمن، كانت أمتعتك قد أشر عليها منذ لا تدرين، وأوراق سفرك منظمة على طاولة أمامك، فتأبطت أشياءك منصرفة باتجاه مخرج أمامي للمطار على غرار من سبقوك، ليذكرك ذلك بانصرافك من الباخرة قبل أعــوام.

مدينة سعيدة (الجزائر) في عام 2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى