علي إبراهـيم الدليمي - أبو دلـف.. قصة من أدب الحرب

عندما أتذكر بداية التحاقي للجيش أثناء الحرب، في احدى المراكز (المراتع) التدريبية – مصانع الأبطال – أتذكر المقاتل (أبو دلـف)، هكذا يلقبونه في منطقته، وقد نقل معه هذا اللقب عندما التحق للجيش مع أصدقاء منطقته، كان يفتخر عندما ينادونه به. كان يترأى لنا كأنه قادم من أقصى جنوب أفريقيا لغمق سمرة بشرته، وأنفه الأفنص، وشفتيه العريضتين، وشعره المجعد، كان في الليالي يغني لنا ما يحلو له من الطرب الريفي الأصيل، وأحياناً يقص علينا بعض القصص الشعبية القديمة.. وكانت طريقة ألقاء قصصه كأنه عجوز تقص على أحفادها الصغار، قصص السعلوة، والجن..!! وبين لحظة وأخرى يصنع لنا فاصلاً هزلياً بطريقته الخاصة ليدغدغ مشاعرنا، كأن يطلق نكته بلهجته الجنوبية المبالغ فيها عند القائه، أو يفتعل حركة هزلية موازية مع ملامح وجهه، تجعلنا نضع أيدينا على بطوننا خشية الأنفجار من الضحك!!. كان يزيل عنا تعب تدريب طوال يوم كامل، الذي كنا نصب فيه عرقاً غزيراً، رغم برودة الطقس، انه طيب القلب جداً.. كل افتعالاته وأحاديثه الهزلية هي بالفطرة التي نشأ عليها. في احدى الليالي.. طلب أبو دلف من أحد رفاقنا المستجدين سيكارة، فسأله: ـ أين سيكائرك يأبو دلف..؟! ـ تعرف ياأخي أن السيكائر لا تقف معي أبداً، فأني مدخن أصلي!!. ناوله سيكارة (روثمن)، أشعلها، وبدأ يتنفس وينفخ دخانها الى الأعلى، وأخذ يتبخـتر في طريقة تدخينها ومسكتها. سألته:- أي نوع من السيكائر تدخن..؟ ـ السيكائر الرخيصة الثمن، اذا كنت أشتريها، والنوعية الفاخرة عندما أطلبها من الأصدقاء. قهقهنا.. لم يسمعها غيرنا ، فالقاعة كانت مكتظة بالمقاتلين المستجدين، وضجيج أحاديثهم ولغطهم، يترأى للسامع بأنهم يتحدثون في لغات مختلفة!!. ـ قل لي يا أبو دلف ماذا كنت تشتغل في حياتك المدنية..؟ سألته. ـ أبيع النفط للناس، فلديه عربة وحصان. ـ وهل كنت مرتاح في شغلتك هذه؟ ـ ولِـمَ لا، والحمد لله، وإلا ماذا تريدني أن أعمل غيرها، أتريدني أن أشتغل مدير عام، وأنا لم أحصل حتى على شهادة محو الأمية؟!. ـ ألديك أخوان آخرين؟ ـ كلا، فأنا الوحيد لوالدتي، وتوفى والدي منذ صغر سني، ولم يترك لنا راتباً تقاعدياً، ولذا أعتمدت على نفسي وأشتغلت بهذه المهنة. ـ أين تسكن؟ في بغداد، في مدينة (………). ـ يزيدك الشرف لانتمائك الى هذه المدينة البطلة. ـ أشكرك. ـ أكنت تضحك النساء، عندما كنت تبيع لهن النفط..؟ ـ نعم.. بل إنهن يعـطفن عليَّ. ـ وهل عشقت واحدة منهن..؟ ـ لا أعتقد أن أحداهن تقع في حبي أو مستعدة أن تضيع عمرها مع بائع نفط قد لايوفر لها أبسط متطلبات العصر. ـ صدقني بعد فترة سيشاهدنك بملابسك العسكرية، وسيقعن في حبك رغماً عنهن. ـ وهل سأكون شخصاً آخر عندما ألبس الملابس العسكرية.. فشخصيتي وحالتي الأجتماعية، كما هي لا تتغير؟! ـ الرجال ليس بأشكالها ياأخي، بل بأفعالها، وستكون متميزاً، بطلاً، رجلاً قوياً، والنساء يرغبن بهذه الصفات لدى فارس أحلامهن. ـ قلت له أتعرف معنى الكنى التي أطلقت عليك؟. ـ لا.. ولكني مستأنس بها!.. أتعرفها أنت؟. ـ نعم، وسأحدثك عنها ما أعرفه وأتذكره: (أبو دُلَف، هو، القاسم بن عيسى بن ادريس العجلي، من بني عجل بن لجم، بطن من، بكر بن وائل، وهم قبيلة كان لها شأن عظيم قبل الاسلام وبعده، ولها أيام في الجاهلية مشهورة، وحسبها بيوم ذي قار مجداً تُطاول به وتفاخر، ذلك اليوم الذي قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام ” انه يوم أنتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا “، ولقد ظل هذا اليوم الخالد مفخرة لبكر بن وائل تُـدل به سائر القبائل وتمدحها به الشعراء وتذكرها به المـآثر أجمل الذكر.. وهكذا ورث أبو دلف هذا المجـد التليد القديم، ولقد عرف التأريخ أبا دلف قائداً شجاعاً من قواد المأمون، معروفاً بالكرم والبذل، وكان الى جانب ذلك، شاعراً ذا أدب ورواية، وقد ألف عدة كتب في الحرب وفي سياسة الدولة، وكان أبو دلف مثالاً رائعــاً للفتوة العربية، الذي جمع بين الدّين والدّنيا، شأن أمثاله من القادة العرب.. ذخيرة تعتدها الخلافة لأيام الشدائد..) هذا ما أوجزته لك وماتفهمه أنت ياصديقي أبو دلف، عسى أن تكون خير خلف لخير سلف، وتقتفي آثره. ـ ان شأء الله.. أشكرك، أشكرك. حاولت أن أكسر ذلك الحديث الجدي بحديث هزلي، لأرى من منا أقوى في الهزل. ـ قل لي ياأبو دلف لو أنتقلنا الى الجبهة، بعدما ننهي التدريب، فكيف ستواجه العدو، هل ستضحكهم مثلما الآن معنا هنا، لكي لا يقتلوك..؟! ضحك.. وهـز يده التي يمسك بها السيكارة بين أصابعه، وهي على وشك نهايتها، وكان يظن ان في سؤالي شيئاً من الجدية.. ألم أقل إنه طيب القلب ويعيش فطرته الانسانية، ثم أردف قائلاً: ـ ماذا تقول.. هل العدو لا يقتل الذي يضحكهم؟! .. بل قل لي أنت، أننا نذهب الى الجبهة لنتضاحك؟!. حاولت أن أداهـره بهزل: ـ ولكني لا أعتقد انك ستصمد أمام عدوك لحظة واحدة، لان طبيعتك لا تدل على ذلك!! ـ أنت قلت قبل قليل ان الرجال بأفعالها، وليس بـ … ـ نعم.. الرجال بافعالها، وهل أنت على عهدك؟ ـ الأيام ستكشف ذلك. يقاطع حديثنا صوت من أخر القاعة، وقد طغى على الضجيج بأكمله.. ـ هـا.. أين صوتك اليوم، ياأبو دلف..؟ أيد ذلك الصوت جميع الحاضرين في القاعة، كركر أبو دلف، وأردف بصوت عالي: ـ أعطوني سيكارة، وسأغني لكم طوال الليل. نهض صاحب ذلك الصوت في نهاية القاعة، وجاء نحو أبو دلف، وأعطاه سيكارة، ثم رجع الى مكانه. ـ كيف سأغني والضجيج يملأ القاعة؟.. قالها وكأنه يتدلل علينا..! ـ لا عليك.. أبدأ الغناء أنت وسيتوقف الجميع عن الكلام، قالها بعض منا. ـ حسناً.. دعوني أشعل السيكارة وأخذ نفساً منها أولاً.. وضع أبو دلف يده اليمنى على أذنه، بعدما أمسك باصابعه السيكارة.. وبدأ يغني، أغنية بلهجة ريفية جنوبية أصيلة، وأخذ يتمايل بجسده شمالاً ويميناً، ليؤكد بأنه قد قد أندمج مع أغنيته. سكت الجميع عن الكلام.. وأخذ الهدوء يخيم على جو القاعة، إلاّ من بعض الأصوات التي تنطلق بين الحين والأخر لتشجع أبو دلف على الأستمرار في الأغنية.. الله، الله، تسلم حنجرتك الذهبية يافنان.. أصعد بصوتك أكثر أعد، أعد.. الخ. وبعد ان أكمل أغنيته، صفق له الجميع، وعلا الصفير الهوائي، وتعالت كلمات التشجيع، نهض أبو دلف، من يطقه (فراشه)، وقال بلهجة وحركة هزلية: ـ بعد هذه الحفلة القيمة.. سيدق بعد قليل بـوق التعداد الصباحي، ونحن لحد الآن لم ننام، فتخلدوا الى النوم.. هيا، هيا.. تتدثر أبو دلف ببطانياته ونام بسرعة، وبدأ بعض أصدقاء منطقته أن يمنعوه من ذلك، فلم يفلحوا، فقد غـط في نوم عميق. وفي اليوم التالي، كانت سيارات نقل عديدة، كبيرة الحجم، تنتظر قرب ساحة العرضات (التدريب).. ـ انها نقلة.. انها نقلة !!.. صاح الجميع. وفعلاً كانت نقلة الى أحدى مدارس القتال.. وهناك أيضاً قضينا عدة أيام، بعدها أنتقلنا الى احدى الألوية البطلة في الجبهة، وهناك في خلفيات اللواء تم توزيعنا الى الأفواج، فقد أنتسبت أنا الى الفوج الثالث، بينما أنتسب أبو دلف الى الفوج الثاني، وتمنيت أن نكون في فوج واحد. كان الطقس وقتـذاك شديد البرودة جداً، كنت أرى أبو دلف ـ قبل أن نفترق الى الأفواج ـ يفرك يديه بقوة من شدة البرد القارس، ويحرك رجليه بتمارين رياضية، وكأنه يجري عملية احماء للدخول في مسابقة أولمبية، كانت الضحكة، كما هي لم يمسحها صقيع البرد، ولايرعبها صوت القذائف المتنوعة التي تساقطت بمحيطنا، هنا، وهناك. أنسحب أبو دلف، مع جماعته المستجدين، الذين أصبحوا منذ الآن، مقاتلين أبطال، بعدما أن دخلوا الى هذا اللواء.. لوح لي بيده مودعاً أياي.. ـ لا تنسى فالرجال بأفعالها.. قلت له.. تبسم، وأومأ لي برأسه ليدل على انه لم ينسَ. ومنذ تلك اللحظة، لم أره.. وبعد مـدة نقلت أنا الى احدى الوحدات القتـالية الأخرى، وأنقطعت أخبار أبو دلف عني، ولكن أخبار الــــــلواء الذي ينتسب اليه، لم تنقطع، فقد شارك بعد نقلي منه في معــــــــارك ضارية كثيرة، إلاّ انني على يقين كبير، أن أخبار أبو دلف مشرفة وجيدة.. لاني متأكد انه على عهده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى