شهيرة أحمد - الحرب.. تسكن بين حرفين

بين حرفين، لا تسكن الحرب، كما يحلو للشعراء عادة أن يقولوا وهم يلعبون على موقعي الحاء والباء في نصوصهم، ولا يعدو لعبهم هذا كونه تعبيراً عن فارق شكلي بين الحب والحرب... مع ذلك فإن الراء وحدها تصنع كل هذه الفجائع الممتدة على جسد التاريخ البشري الناضح عفونة في معظم إجزائه إن لم يكن كلها... حين يشتعل أوار الحرب وتخرج عن طورها، تكبر وتتسع حتى تتسيد كل جغرافيا تقع تحت نيرانها، تطوي المسافات وتفرش الموت الأسود في أربعة أركان الأرض.

لا جنس للحرب لأنها خارج التجنيس والتوصيف... لا حجم للحرب سوى أنها الحرب... هي كائن بشع، يحيا على جماجم القتلى ويشيع الخراب أينما حلّ... في يمينها الألم وفي شمالها العذاب، وفي أحشائها من الخوف والرعب والأحزان ما لا يخطر على البال... ما إن تفتح الحرب جحيمها حتى يتراجع كل ما يمت بصلة إلى الكرامة الإنسانية والعقل إلى أغوار سحيقة وشديدة الوعورة في روح البشري مخلياً المكان للغرائز المتفجرة وشهوة الدم التي لا ترتوي، وكل ضروب المعاناة الملحمية، والعذابات التي لا تقوى على تجسيدها الكلمات والألوان مهما اجتهدت... فالحرب لا تعني فقط تراجعاً أكثر من حاد ومفجع في منسوب الإنسانية فقط بل تعني الغياب الكامل للبصيرة مقابل إعلاء الوهم والاحتفاء بالزبد، ونحن فيها عميان بلا أدلاء... إنها إعلان سافر وفاضح لهزيمة الوعي والثقافة والحضارة و...الحياة وتنصيب الموت سيداً وملكاً بلا منازع.

فتش عن السلطة
عن الحرب لا تسأل... لكن اسأل عن شهوة السلطة الكامنة وراءها، فهي كفيلة بأن تفسر هذه الأهوال التي تقنّعت في حقب التاريخ بمسميات شتى، وأسبغت عليها القيم المزيفة من كل شكل ولون، بينما لا تعدو في حقيقتها دفاعاً عن مصالح فئة معينة رأت حياتها في موت الآخرين، ونجاتها في خراب العالم... مع ذلك لا تذهب هذه المقالة إلى مناقشة أسباب الحرب أو مدى عدالتها أو المواقف المختلفة تجاهها، بل تسعى وراء إبراز الطريقة التي نظر بها المبدعون إليها، أو غالبيتهم على الأقل.
ولقد ألهبت الحرب خيال المبدعين، ودفعتهم بشاعتها التي تفوق الاحتمال إلى التمترس وراء الخير، فشحذوا الهمة لكي يقولوا لكل الناس وبكل أسلوب ممكن: الحرب بشعة فاتركوها، لكن لا الكلمات ولا الريشات ولا الأفكار النبيلة الثاوية في أرحام الروايات نجحت في إيقاف الحرب أو في أن تحولها إلى عقيم وتمنع تناسلها الذي يبدو أنه لن يتوقف عن الخصوبة وإتحافنا ببشاعات جديدة.
وللمبدعين في تناولهم لموضوعة الحرب مذاهب، لكن جلهم رافض لها ولجحيمها ولمناخاتها المسمومة... بكل الطرائق والمدارس والمذاهب الفنية ظهرت الحرب، بأكثر من لغة وأكثر من رمز، لكنها مع ذلك ظلت هي الحرب: جحيم لا نهائي وغول بشعة تقتات على البشر وتقول هل من مزيد؟. وهذا يفسر ما يقوله الفيلسوف الأغريقي هراقليط من أن الحرب هي “أم جميع الأشياء؛ فهي تجعل من بعضهم آلهة ومن الآخرين عبيداً أو أحرارا”. وهي بالنسبة إلى توسيدي “همّ لا يزول وغمّ لا نهاية له”. وليس في الأمر مبالغة ولا مجافاة للحقيقة إذا قلنا بأن معظم الصراعات بين المجتمعات عبر العصور، تقوم على الحروب، من أجل التحكم والسيطرة والاستحواذ على مقدرات العالم وثرواته، وهو ما أكده الفيلسوف أرسطو في “السياسة”، وما تلخصه مقولة ميكافيلي الشهيرة “تشن الحرب إما للفتح أو المجد”.
ونحن العرب لنا حصة وافرة من هذا الألم، لأننا نعيش في منطقة ملتهبة، تبدو حتى في حال أحسنا الظن إلى الآخر، لوحة كاريكاتورية رسمتها على مدار القرن العشرين سلسلة من الأحداث العبثية والحروب الفجاعية التي كان وقودها ـ دائماً ـ الناس الذين اكتووا بنارها وليس صنّاعها ولا جنرالات الدم الذين يذكون أوارها من دون أن يمسهم سوء. هؤلاء الذين تفننوا في إنجازها وأتحفونا بأنواع منها شوتْ في نارها البلاد والعباد كما تشوى قطع الصلصال في فرن ضخم. وإذا كان من الممكن فهم الثمن الباهظ التي تدفعه المجتمعات وهي تدافع عن وجودها الوطني وحريتها، وإذا كان ممكناً التفريق بين الحرب والمقاومة، على اعتبار أن الأولى رذيلة لا يختلف عليها اثنان، والثانية فضيلة صارت الآن من المختلف عليه (!)، فإن من الصعب جداً فهم لماذا يموت الناس في حروب أهلية بأنواعها (الطائفي والعرقي) أو في حروب بين دول جارة، أو في حروب على السلطة داخل البلد الواحد.
الأوروبيون يسمون ذلك “عنفا”، طبع المشرق العربي كله لعقود طويلة، ولا يستثنون منه مقاومة ولا من يقاومون، فيما يرى فيه المفكر السوري الدكتور برهان غليون “أصل خراب الشرق الأوسط وعذاب قاطنيه”، هؤلاء “الغلابة” الذين عاشوا تخمة في عدد الحروب التي شهدتها المنطقة في القرن الماضي، وبشكل أدق منذ زرع الكيان الصهيوني في خاصرة الأمة في فلسطين في عام 1948. وتفادياً لسوء الفهم، وهو متوقع في موضوع كهذا، لا بد من التمييز بين الحرب والمقاومة، فالثانية تفرض على الشعوب فرضاً حين تقع بين براثن الاستعمار لنيل حريتها، وهي ليست مدار هذه المقالة، والثانية عدوانية لا تعدو كونها محاولة للتسلط والسيطرة وتحقيق مصالح فئوية ضيقة، وهذه هي موضع الرفض والإدانة وهي موضوعنا.

لا فضيلة للحرب
وفي المصطلح وشجونه، تفرق الأدبيات والمدونات الخاصة بـ “أدب الحرب” بين الحرب والمقاومة، ويرى الناقد والقاص العراقي حمزة الحسن أن “الحرب قد تكون عادلة أو غير عادلة، بينما المقاومة دوما عادلة.. والحرب دوما جماعية بينما المقاومة قد تكون فردية أو جماعية.. ثم إن الحرب قد تكون غير مشروعة بينما المقاومة مشروعة دائماً لأنها تعبر عن محاولات الخلاص الفردي والجماعي في الحياة اليومية وفى التاريخ. وأدب المقاومة أخذ مناحي التعبير عن “الهوية والانتماء”، “الأرض والدفاع عنها”، وتبنى الجانب الأكثر تقدمية كما في تناول “المرأة”... وغيرها، ومنها أيضا “التجربة الحربية” وهو ما يعني أن كل منتج أدب الحرب هو أدب مقاومة، وليس العكس”. وبغض النظر عن أزمة المعنى وإشكالية المصطلح وما يثيره من إشكالات وحساسيات لدى البعض، وعن كثرة التعريفات وما خالطها من شطط حيناً أو مغالاة حيناً آخر فإن الحرب تمظهرت في اشكال الإبداع المختلفة علاوة على الحيز الذي احتلته تنظيراً وتفكيراً. وأعطتنا (وهذه ليست حسنة للحرب ولا فضيلة فالحروب لا فضائل لها البتة)، الكثير من الجمال الذي تجسد في الأعمال الإبداعية المختلفة (ملاحم، أساطير، أشعار، قصص، روايات، أعمال موسيقية، لوحات فنية) لكثرتها يصعب حصرها كلها، لكن هذه الكثرة ليست سوى الدليل الناصع على أن الحرب كانت، وهذا مما يؤسف له، رفيقة الإنسان و(ملهمته) منذ بدايته على الأرض، ومن يدري ربما تظل صاحبته إلى أن تقوم الساعة، أو يعود للإنسانية صوابها المفقود فتحدث المعجزة، وتقرر أن تتفاهم وتحل مشاكل عيشها بطريقة أخرى غير الحرب.
من هذا الكثير يمكن الإشارة الى روايات: “الحرب والسلام” لتولستوي، “وسام الشجاعة الأحمر” لستيفن غرين، “ذهب مع الريح” لمارغريت ميتشيل، “تحت النار” لهنري باربوس التي بدأت حركة أدبية مضادة للحرب ازدهرت بعد الحرب العالمية الأولى، ومن هنا تعتبر من أهم الروايات وأكثرها تأثيراً على هذا الصعيد، “عودة الجندي” لريبيكا ويست، “ثلاثة جنود” لجون دوس باسوز، “السيدة دالاوي” لفرجينيا وولف، “كل شيء هادئ في الجبهة الغربية” لإيريك ريمارك، “زواج الأحجار” للهولندي هاري موليش، “الحياة في القبر” لليوناني ستراتيس ميرفيليس، “وداعا أيها السلاح” و” لمن تقرع الأجراس” و”غداً تشرق الشمس” لأرنيست هيمنجواي، “موت بطل” لريتشارد ألنغتون، “جنرالات يموتون في السرير” لتشارلز بال هاريسون، وثلالثية بات باركر “الانبعاث” و”العين في الباب” و”شبح الطريق”، “تمرد قابيل” لهيرمان ووك، “من هنا وحتى الخلود” لجيمس جونز، “جسر على نهر كواي” لبيير بوليه، “العراة والموتى” لنورمان ميلر، “الاسود الصغيرة” لآروين شو، “قارب الحزن” لويليام وودراف، “الخيط الأحمر الرفيع” لجيمس جونز، “يوم من حياة أيفان دنيزوفيتش” لألكسندر سولنجستين، “ماش” لريتشارد هوكر، “الأميركي الهادئ” لغراهام غرين، “الأشياء التي يحملونها” لتيم أوبرين، “الحرب والسلم” للياباني شوساكو اندو، “المريض الإنجليزي” للسيريلانكي مايكل أونداتجي، وغيرها كثير مما لا يمكن حصره.
وعربياً تحضر روايات: “الجبل الصغير” لإلياس خوري، “بيروت بيروت” لصنع الله إبراهيم، “طواحين بيروت” لتوفيق يوسف عواد، “تلك الذكريات” لإميلي نصر الله، “مراسلات الحب الأعمى” لعبد الرحمن دلول، “وسادة الحجر” لفيوليت خوري، “كوابيس بيروت” لغادة السمان، “الظل والصدى” ليوسف حبشي الأشقر، “نزهة الملاك” و”سنة الأوتوماتيك” لحسن داوود، “ليرننغ انجلش” لرشيد الضعيف، “مطر حزيران” لجبور الدويهي، “أهل الهوى” لهدى بركات، “الاعترافات” لربيع جابر وكلها تتعرض للحرب الأهلية في لبنان التي شغلت الروائيين فكتب بعضهم (من داخلها) وغالبيتهم (من خارجها) ليؤكدوا انسلاخهم عنها ورفضهم لها. ومن اللافت أن هناك من استشرف وقوع الحرب الأهلية اللبنانية روائياً قبل تحققها واقعيا؛ ففي “أربعة أفراس حمر” (1962) ليوسف حبشي الأشقر، و”طواحين بيروت” (1973) لتوفيق يوسف عواد، و”بيروت 75” لغادة السمّان، ثمة حدس واسع بالبركان الآتي. بالإضافة إلى روايات: “القاروة” ليوسف المحيميد، “كم بدت السماء قريبة” لبتول الخضيري، “تلك الليلة” لعبد الله الجفري، “العودة الى الأيام الأولى” لابراهيم الخضير، “الرياض نوفمبر 90” لسعد الدوسري، “طلقة في صدر الشمال” لوليد الرجيب، وكلها عن الاجتياح العراقي للكويت.
أما الحرب العراقية وتوابعها وما كتب حولها وفيها وعنها من قصص وروايات فيحتاج إلى وقفة مستقلة، ليس فقط لكثرته وتوزعه بين منافي العراقيين، وإنما لتنوعه الشديد واختلاف روائييه وقصاصيه وشعرائه وفنانيه حول ما يجري في بلادهم، ما يستدعي من أي باحث منصف أن يلم بكل هذا النتاج قبل أن يقرر مقاربته أو الكتابة عنه لا سيما صحافياً نظراً للمساحة المحدودة. خاصة وأن بعض الكتاب العراقيين يرون أنه كتب ونشر من الروايات منذ العام 2003 ما يفوق نوعياً وعددياً معظم ما كُتب في التسعينيات، وحسب أحصائية أولية أعدها الناقد العراقي الدكتور نجم عبد الله كاظم ونشرها موقع الروائي، صدرت عشرات الروايات بعد عام 2003 لمعظم الروائيين العراقيين منهم: (لطفية الدليمي، ميسلون هادي، عبد الخالق الركابي، طه محمود الشبيب، عبد الستار البيضاني، حميد المختار، وارد بدر السالم، برهان الخطيب، شاكر نوري، نجم والي، علي بدر، بتول الخضيري، محسن الموسوي، بديعة أمين، فيصل عبد الحسن، محمود سعيد، سعد هادي، جمعة اللامي، شاكر الأنباري، عالية ممدوح، عالية طالب، حمزة الحسن، فاتح عبد السلام، جاسم المطير، عدنان المبارك، دنى طالب غالي، محسن الرملي، محمد شاكر السبع، سميرة المانع، هيفاء زنكنة، جاسم الرصيف، محمد الحمراني، هدية حسين، علي عبد العال، زهير الجزائري، خالد القشطيني، محمود سعيد، عبد الإله عبد القادر، صلاح النصراوي، جنان جاسم حلاوي، عبدالستار ناصر، سلام عبود، سنان إنطوان، سلام إبراهيم، عائد خصباك، سليم مطر، أحمد سعداوي، لؤي حمزة عباس، عزيز التميمي، اسعد الجبوري، فاضل العزاوي، صلاح صلاح، شوقي كريم، جمال حسين ، ابتسام عبد الله ، عبد الله صخي، حازم كمال الدين، سعد محمد رحيم، ابراهيم الغالبي، زهير الهيتي، حسين عبد الخضر، عبد الكريم العبيدي، فاروق يوسف، مرتضى كزار، نعيم عبد مهلهل، عواد علي، عبد الجبار ناصر، نزار عبد الستار،حسين سرمك حسن، حسن بلاسم، فرج ياسين، علي عبد الامير صالح، علي عبد الأمير عجام، علي خيون، جاسم عاصي، حنون مجيد، أسعد اللامي، رياض الأسدي، ذياب فهد الطائي، زيد الشهيد، عادل كامل، محمد الاحمد) وغيرهم... وترتيب الأسماء كما أورده الكاتب علي حسين عبيد.
وسواء كانت الحرب بادية في الرواية أو محتجبة وراء أحداثها فإنها تركت أثرها على الشخصيات. فإذا بها مفكّكة، لاعقلانيّة، ضجرة، غير منتمية، ناهيك عن بحثها المضني عن “هوية” في ظل العبث الذي يجري من حولها، وتساقط الكثير من الثوابت الأخلاقية والإنسانية.
وتنقل زينب مرعي عن الناقدة رفيف صيداوي قولها إن “الانطلاقة والتغيّرات الأسلوبية، التي عرفتها الرواية في زمن الحرب، تشير إلى أنّ الحرب كانت نقطة مفصليّة في عالم الرواية. في ذاك الزمن، انتهى الإيمان بالحقيقة، وانهارت الطموحات والأمل بإصلاح أوضاع الدولة التي كانت سائدة في الستينيات”.
وتضيف صيداوي: “بقيت مواضيع الحب، والحياة، والموت، والبحث عن الهوية... إلى جانب موضوع الحرب المستجدّ. هناك أيضاً القضية النسائيّة التي تناولتها مثلاً علوية صبح. لكن تأثير الحرب كان أقوى على طريقة السرد، فتغيّرت معها كثيراً. تشظّى الأسلوب والزمن في الرواية، وانتهى زمن البطل الإيجابي. صارت الرواية تركّز على البطل السلبي أو الإشكالي”.
بالنسبة إلى الناقد جورج دورليان، الحرب لم تكن نقطة مفصليّة في حياة الرواية اللبنانية، بل كانت تدور غالباً على أطراف الحبكة. نسمع أصوات قذائفها ونتبع بعض النازحين، لكنها ليست القصة الرئيسة.
ويلاحظ دورليان أن “الرواية اللبنانية بمعظمها “رواية ريف”، بالمعنى الإيجابي للمصطلح. البيروتيون لم يكتبوا الرواية، ولم تولد بعد قصص في بيروت، مكان الاختلاط. الروائيون اللبنانيون كتبوا قصصهم المستوحاة من مناطقهم ومجتمعاتهم”. وفي المحصلة، أتت الرواية اللبنانية برأي دورليان “شهادةً عنيفة ضدّ الحرب”، ورأى معظم الأدباء اللبنانيين أن هذه الحرب بعيدة عن قضاياهم، “لقد كانت بالنسبة إلى هؤلاء واقعاً مريراً دفعهم إلى إعادة النظر بالحقّ والحقيقة”.

دروس الحرب.. عبرها
الحرب تجربة مفصلية وحاسمة في حياة الكائن الفرد كما هي في حياة المجتمع، بل من أشد التجارب وطأة على الإنسان وأكثرها شراسة وتناقضاً ودرامية. فمن يذهب إليها لا يعود منها أبداً، وإن عاد بجسده، لأنه يصبح شخصاً آخر وفي أقل الأحوال لا يعود هو نفسه قبل التجربة. هذه واحدة من أهم الدروس أو العبر التي يمكن للمرء أن يستخلصها من قصص وروايات كثيرة تناولت موضوعة الحرب، ورسمت شخصيات تشوهت جسدياً أو نفسياً او الاثنين معاً. لتؤكد أن ثمة شيء يتشوه، ثمة شيء ينكسر في الروح جراء الحرب العابثة. أما الدرس الثاني فهو قدرة هذه الحياة الرهيبة على تخليق الجمال من قلب البشاعة، وهذه عبارة تختصر مضامين الأعمال الإبداعية ـ على اختلافٍ بينها ـ التي تناولت الحرب، سواء بمفهومها المباشر وما دار فيها من معارك وصراعات ميدانية أو بالإيحاء والرمز والدلالات وما تركته من أثر على حيوات الأفراد والمجتمعات، فقد ولدت هذه الأعمال من رحم المرارة والعذاب والحزن والكراهية لتصوغ الجمال الفني وتنتصر لقيم الخير والحق والسلام. وقد جاءت هذه الأعمال صادقة وحارة في دعوتها إلى السلام البشري بعد أن اكتوت بنيران الحرب وعاشت أهوالها وتمزقاتها الروحية والأسرية والمجتمعية. وأما الدرس الثالث فهو أن الحرب واحدة من المواضيع الدائمة في الإبداع. لكننا لا ننجح في فهمها إذا حاولنا تفسيرها من منظور أفكارنا وايديولوجياتنا الخاصّة. ومن يستقرئ تاريخ البشرية الإبداعي سيلاحظ أن الإبداع المحترم والمقدر كان مضادّا للحروب دائماً.
هذا في المضمون، أما في الفنيات فيفرق باحثون ونقاد بين نوعين مما يسمى “أدب الحرب”؛ الأول أدب هش لا يهتم بالظاهرة الفنية بقدر ما يهتم بالشعار السياسي والتحريض الأيديولوجي وبالطرح المباشر، وهم يرون فيه نوعاً من التسلق على أو الاحتماء بـ/ أو التوسل بقضية مهمة تداري الضعف الإبداعي. والثاني أدب يقف على النقيض ويجعل من منظومته الإشارية مركزاً لتوليد الفكر واكتشاف انطولوجيا خفية للصراع.. وهو بهذا المعنى قوة مزاحة تحرر الخطاب من جبرية المؤسسة، وتدفعه لكي يكون مرموزاً لوعي العالم جمالياً.
والحقيقة أن هذا الرأي لا يجانب الصواب، وما أنتج حول تلك التجربة خلال الثلاثة عقود الأخيرة من القرن الماضي يحتل مساحة غير قليلة في المكتبة العربية لا ينبغي، في تقديري، تجاوزها أو تجاهلها بحجة أن “أدب الحرب” هو نوع من الكتابة السلطوية، لهذه الأسباب:
1 - هناك الكثير من الروايات الجيدة التي تناولت موضوعة الحرب الأهلية اللبنانية أو الحرب العراقية الإيرانية، أو اجتياح العراق للكويت، أو ما شهدته الجزائر تقف في الصفوف المتقدمة من صفوف الإبداع الروائي.
2 - هذه المنطقة من العالم (الوطن العربي) تعيش أقسى مراحلها التاريخية، وهي بحاجة الى توثيق، فالكلمة باقية والجميع ذاهبون. والرواية من بين أشكال الإبداع الأدبي، بسبب خصائصها ومساحة السرد الواسعة فيها ومساحتها الزمانية والمكانية، تتيح مجالاً كبيرا للتعبير عن الأحداث الكبرى في حياة الأفراد والشعوب. وقراءتها نقدياً، بالتالي، قادرة على كشف الكثير من الخفي والمسكوت عنه في الرواية الرسمية للحرب.
3 - قلة الدراسات النقدية التي حاولت أن تؤرخ وتحلل تأثيرات الحروب على الرواية العربية المعاصرة.

لوحات الحرب
تشكيلياً، يمكن القول إن لدى البشرية ثروة من القيم النبيلة التي تتشارك فيها الأعمال التي جسدت بشاعة الحرب بكل أشكالها، وأعلنت هجاء عالياً لكل مفرزاتها ونتائجها، وعبر مساحات الألم والحزن والموت الأسود الذي ينتشر في تكوينات وألوان وتشكيلات تلك اللوحات ظلت تطل إنسانية معذبة ومصادرة رغبتها الوحيدة هي تمجيد السلام. خذ مثلاً “جرنيكا” بيكاسو وهي الأشهر على الإطلاق، وأعمال جيروم بوش، والمذابح التي رسمها الفنان الألماني بروجل، وأعمال سلفادور دالي عن الحرب خاصة لوحته “آكلو البشر”، ولوحات “جويا” ضد الحرب الأهلية الإسبانية، ولوحات بيراك، ولوحات “مانيه” في مناهضة الحروب. أكثر من ذلك، كانت الحروب سببا في ظهور مدرسة فنية هي الدادائية التي قامت كرد فعل على الحرب العالمية الأولى بكل عبثيتها وما تركته في العالم من خراب، ولقد جاء المنتوج الفني لفناني هذه المدرسة في مجمله عبثياً يصور فظاعات الحرب النفسية التي تركتها في النفوس وشعور اللامعنى الذي طغى على الفنانين بعد أن فقدت الحياة قيمتها وصار الإنسان مجرد ترس في آلة عمياء ضخمة زادها الحقد ولحمتها جماجم البشر.
وفي العصر الحالي يعجز المرء عن إحصاء الفنانين اللذين اشتهروا بمناهضتهم للحرب والعنف، وكرسوا فنهم لإيضاح رفضهم لها او الشفاء من أورامها وندوبها الغائرة. خذ، على سبيل المثال لا الحصر، الفنانة الأميركية جاني هولزر، ومواطنتها آملي برينس، ريتشارد سيرا، ايميلي جاسر (أميركية من أصل فلسطيني)، منى حاطوم (إنجليزية من أصل فلسطيني)، والفنان الانجليزي مارك وولينجر الذي فاز بجائزة “تيرنر” في العام 2007 وهي جائزة تقدم كل عام لأفضل الفنانين عن عمله الخاص برفض الحرب على العراق. والبوسنية ابراهيموف عن ما حدث من مجازر مروعة في البوسنة والهرسك. أما عربياً فقد حملت لوحات الفنانين العرب، في شتى اساليبهم وتوجهاتهم، لا سيما الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون والمصريون، إدانة واضحة للحرب ومفرزاتها وما خلفته وراءها من انكسارات وخيبات.
بالطبع، لا يخلو الأمر من فنانين كانوا مع الحرب، ونظروا إليها بوصفها فعلاً إيجابياً مثل الفنان “مارينيتي” مؤسس حركة المستقبلية في أوروبا عام 1911، الذي أيد العنف والحرب باعتبارها الوسيلة الوحيدة لإصلاح العالم!، والحمد لله أنه اتجاه غير شائع لدى الفنانين وإلا لكنا حصدنا دواهي فنية إلى جانب دواهي الحرب الواقعية.

جرنيكا.. أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات

عاصر الفنان الإسباني بابلو بيكاسو ثلاثة حروب: الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية والحرب الأسبانية الأهلية، وهذه الثالثة كانت منعطفاً حاداً في حياته إن على المستوى الفني أو السياسي. فبعد أن كان بعيداً كل البعد عن الحرب رافضاً أن يخوضها لصالح أي طرف (فنياً وواقعياً) جعلته المجزرة الوحشية التي تعرضت لها بلدة “جيرنيكا” يغرق حتى أذنيه في هجاء الحرب، فأعلن صرخة احتجاج بالغة القوة عبر لوحة منحها اسم القرية نفسها: جيرنيكا التي ستصبح أهم وأكثر الأعمال الفنية شهرة بين الأعمال التي رسمت الحرب وما تحمله للناس من وحشية وخراب وأهوال ما لهن عدد.
واذا كان بيكاسو صور أهوال الحرب الأهلية في إسبانيا (1936 ـ 1939) فإن رغبته في إدانة الحرب رافقته إلى الحرب العالمية الثانية حيث رسم تشوهاتها وأحزانها في لوحات أخرى لعل أكثرها صلة بموضوعنا لوحة “البيت المقبرة”. في هذه المرحلة من حياته الفنية كان بيكاسو يرى أن اللوحات “لا ترسم من أجل تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات’’.
وكان طبيعياً أن ينفعل الفنان الإسباني الكبير بابلوبيكاسو بهذا الحدث المروع، فقال كلمته وجسد موقفه في نحو (ثمانية أمتار X ثلاثة أمتار ونصف المتر) هي أبعاد اللوحة.
وعندما افتتح المعرض الدولي في باريس عام 1937م عرضت الجرنيكا لأول مرة واحتلت مكان الصدارة في الجناح الاسباني وسرعان ما أصبحت بؤرة الاهتمام ومثار التعليقات في الصحافة العالمية، وكتب عنها الشاعر الشهير ـ حينذاك مايكل ليريس قصيدة يقول في مطلعها: إنها ـ أي الجرنيكا ـ جرس إنذار؟ إن كل ما تحبه.. إن كل ما نحبه يوشك أن ينزوي ويندثر، تحت أقدام الغزاة!.
ومن الطرافة أن هتلر حين شاهد اللوحة سأل بيكاسو: “لماذا تلك المشاهد البشعة التي تتناولها اللوحة”، فأجابه: “أنتم من تقومون بتلك البشاعة”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى