مي عاشور - رسالة إلى صديق بعيد

عزيزي وانغ:

قد نكون في مكانين بعيدين، تشرق الشمس عندي ، بينما تغيب عندك؛ ولكننا على الأقل نتنفس نفس الهواء. كُنت أمس في حجرة مكتبي ، ووجدت بين مجموعة من الأوراق ، صورتنا وتلك الورقة التي تركتها لي قبل مغاردتك من القاهرة، مكتوب فيها عنوانك واسمك. حاولت البحث عنك عبر شبكات التواصل الاجتماعي الصينية ولكنني فشلت في العثور عليك؛ ربما لأنك كتبت اسمك بالحروف اللاتينية ، وليس بالرموز الصينية، فحينها كنت طالبة في الصف الأول، وكانت الرموز تخيفتي إلى حد الارتباك عند قراءتها. حاولت الإتصال بك ، ولكن لم استطع الوصول إليكَ، فقد مر 14 عامًا على لقاءنا الأول .

الوقت يمضي بسرعة تفوق الخيال؛ أشبه بتسرب مياه بداخل أصيص زرع، تَحسبها ممتلئة ،ولكن سرعان ما يتسرب الماء من بين حبيبات الطين الموجودة بها. أتمنى أن تصلك رسالتي هذه؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي ستعيد تواصلي معك مجدداً. لا أدري إن كان قد تغير عنوانك أم لا ، لكن أحاول أن أرسل لكَ هذه الرسالة ، لعلها تجد إليكَ سبيلاً.

سافرت إلى الصين بعد عودتك إليها بشهور، كنت أتممت العشرين من عمري، وكانت المرة الأولى التي أسافر فيها خارج حدود مصر، وكذلك التي أسافر فيها وحدي. مزيج من القلق والحماسة كانا يملأن قلبي حينذاك. رأيت بلاد أخرى، لا تشبه غيرها ، كأنه كوكب أخر وعالم جديد. كنت مبهورة بهذا الكم من البشر الذي يسير بنظام مُحكم. كانت هذه السفرة أشبه بحلم، لكن حلم ملموس ومسموع، مازال محفوراً في ذاكرتي حتى الآن، ويتجسد أمام عيني من حين إلى حين. سافرت مرات بعدها ولكن دائمًا للمرات الأولى مكانة خاصة في القلوب.

كُنت أنتَ في السنة الأخيرة بقسم اللغة العربية ، بينما أنا كنت في الصف الأول في قسم اللغة الصينية بجامعة القاهرة، لم أكن أعرف سوى كلمات صينية بسيطة جداً ، وربما هذه هي المرة الأولى التي أفصح لكَ عن هذا السر؛ لم أكن أحب الصينية في البداية، رأيتها لغة معقدة منذ المحاضرة الأولى ، وحينما وقعت عيني على الرموز شعرت أنني مستحيل أن استمر في هذه الدراسة الصعبة، ولكنني كُنت متسرعة، لم يكن لخوفي أساس، لم تكن سوى رهبة من خوض تجربة جديدة، اللغة الصينية عَلمتني المثابرة والدأب والتحدي وعدم الاستسلام بسهولة، وكذلك تعلمت عدم الحكم على الأشياء من ظاهرها.

مرت السنون سريعًا، وكل يوم مر، تأثرت فيه أكثر بالثقافة الصينية، كانت تبهرني الألوان والموسيقى، كانت تبدو لي كتداخل خيوط حريرية متناسقة الألوان ، شيء يعكس حضارة عميقة وأصيلة. كلانا ابناء حضارتين عريقتين يا وانغ، ولذلك بيننا أمور مشتركة كثيرة جداً : ففي القاهرة نهر النيل ، وفي الصين النهر الأصفر، وهناك سور الصين وعندنا الأهرامات ، وسحر الخط العربي منقوش في المساجد هنا ، وروعة الكتابة الصينية مرسومة بفن على المباني العتيقة في الصين، وكذلك احترام الروابط الأسرية في كلتا البلدين. لذلك ربما انجذبت إلى حضارة الصين بشكل سريع، رأيت شيء يشبهني رغم الاختلاف.

كُنت أتابع التلفزيون الصين المركزي باستمرار، أحاول أن أتقرب أكثر إلى الثقافة الصينية وأفهمها، وكذلك كنت أحاول التعرف على أصدقاء صينيين جدد، تعرفت على فتاتين فيما بعد، وصارتا صديقتاي المقربتين، كنا نتجول في شوارع القاهرة سويًا ، وبعدما تخرجت وجاءت فرصة أخرى للذهاب إلى الصين، قابلتهما في بكين. إن صداقتي بالصينيين حسنت جداً من لغتي الصينية في ذلك الوقت، وقربتني أيضًا من الشعب الصيني، وجعلتني أتعرف على العديد من العادات والتقاليد الصينية.

وهكذا مرت سنوات الجامعة في لمح البصر ، وإلى اليوم أحن إليها بشدة، ربما هي من أفضل الأيام في حياتي. أتمنى لو تعود. حينما يسير المرء في درب ما ، تتحول حياته بأسرها إلى هذا المسار، ولو حادت عنه لا تحيد. وأنا أقول لكَ يا وانغ أن حياتي تغيرت بدارستي للغة الصينية، أصبحت أطل من نافذة أكثر إتساعًا على العالم، رأيت من خلالها ثقافات مختلفة تمامًا ، وكذلك قابلت آناس من بلاد عديدة.

والآن أنا وقعت في الحب يا وانغ ….. نعم وقعت في حب الأدب الصيني ، وصارت ترجمته من طقوسي اليومية، بل ومن طقوسي اليومية المفضلة، وعملي الذي لا أعرف سواه الآن . كل صباح، يستيقظ الجميع للذهاب إلى أعمالهم، بينما استفيق أنا لترجمة نص جديد أو لكتابة مقال حول الصين. الأدب الصيني جعلني أقرب إلى الصين ، بل وجعلني أعيد اكتشاف نفسي والعالم من حولي، وأفهم قيمة أن يبذل المرء مجهوداً في تَعلم شيء؛ لأنه قطعًا سيأتي اليوم الذي تتغير حياته كلها بسبب ما تعلمه. أنتَ أيضًا درست الأدب العربي، وتعلم كم أنه عميق وثري، كنت تهتم بالكثير من القصائد والنصوص الأدبية العربية، وتسألني عن الكتب التي يمكنني أن أرشحها لكَ لقراءتها، وكذلك أنا أيضًا سألتك كثيراً حول الأدب الصيني. كنت أقول لكَ أنني أريد أن التقي بك في المستقبل، ولكن في مؤتمر ما، عن الترجمة أو حتى الكتابة مثلاً، نناقش فيه كل من الثقافة والأدب العربي والصيني. سبق وقلتَ لي أن الأدب هو نبض الشعوب، وكذلك قلت إذا نقل كل منا أدب الأخر ، سنساهم في التقارب والتفاهم بين البلدين، وأتذكر أنني قلت لكَ حينذاك أن العلاقات بين الشعوب لا تكون فقط دبلوماسية أو تاريخية، ولكن هناك علاقة أبدية؛ وهي تلك التي تقوم على الصداقة بين الشعوب. ومصر والصين تربطهما صداقة منذ أمد بعيد. وربما صداقتنا هي نموذجًا مصغراً لهذا.

أعترف لكَ بشيء يا وانغ، أتعلم أن علاقتي بالصين علاقة قدرية؟، أتعرف حينما يأتي القدر ليغير مسار حياتك بأسرها؟! . فأنا منذ أن درست اللغة الصينية ، تغير مجرى حياتي كلها؛ كأن فُتح أمامي دربًا جديدًا في هذه الحياة، وأصبح دربي الذي سأسلكه إلى الأبد بخطى واثقة غير منقطعة، وبخطى غير سريعة ولكنها ثابتة.

اشتعل في قلبي شغف دائم التوهج لايخمد أبداً ، لم تعد علاقتي بالصين مرتبطة بالقراءة والترجمة، أو لأنها مجال دراستي وحسب ، ولكن مؤخراً قررت أن أصير كاتبة، قررت أن أصور وأدون كل ما استطيع نقله عن الصين. التجربة الصينية أكثر التجارب تأثيراً في حياتي يا وانغ، حينما أقول التجربة الصينية، أعني بيها تجربتي مع الصين واللغة الصينية،وكل ما ممرت به في العقد الأخير وكان مرتبطا بهما. فأنا والصين حكاية لا تنتهي.

لم تتح لي فرصة الدراسة في الصين، ولكن فيما بعد أتيحت لي فرصة لرؤية الصين لمرات ومرات، ذهبت إلى مدن ومقاطعات مختلفة ، وتذوقت الأطعمة المتنوعة ، ورأيت ألوان متباينة من الثقافة الصينية التي طالما سحرتني. ومؤخراً التقيت بعدد لا بأس به من الكتاب الصينيين، وهذا ربما لأن الحظ حالفني ، واستطعت من خلالهم التعرف على ملامح المثقف الصيني ، فكيف يمكن أن يكون الكتاب الصينيين بهذا التواضع وهذا القدر من الخلق والثقافة والعلم. يا وانغ، درست في جامعة القاهرة وتلقيت تعليما ممتازاً، وأسسني أستاذي في الترجمة تأسيسًا بدونه لما استطعت الترجمة أبداً. ولكن أتدري كيف منحني الكتاب الصينيون فرصة أن أكون مترجمة؟، حينما ذهبت إليهم وأنا مترجمة صغيرة ، وسألتهم لو يسمحوا لي بترجمة أعمالهم، فمنحوني هذا الشرف. فمن يعطون لكَ فرصة، يفتحون لكً طاقات نور في السماء.

لا أحد ينكر المسافات أو مرور السنين، ولكن هناك بشر وتجارب قادرين على الوقوف أمام تيارهم الجارف. فأمامهم لا تكون المسافات مسافات ، بل مجرد التواجد في أماكن مختلفة. وكذلك لا يصير مرور السنين وقتًا طويلاً مضى من العمر ، بل مجرد أيام تعاقبت أو فجوة زمنية صغيرة حدثت، وبتجدد اللقاء تتلاشى ولا تعد شيء يُذكر.

إلى أن نلتقي مجدداً،

عاشت صداقتنا وامتدت بطول سور الصين ونهر النيل ،

مي

القاهرة

النص الفائز بالمركز الثالث في مسابقة أنا والصين ٢٠١٨


مي عاشور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى