أحمد رجب شلتوت - نظرية الصفحة البيضاء تحاول رسم ملامح الطبيعة البشرية

عالم النفس الأميركي ستيفن بنكر يوضح أن الجماعة تفكر وتشعر وتتصرف بطريقة مختلفة تماما عن تلك التي يفكر ويشعر ويتصرف بها الأفراد.
السبت 2018/12/15
steven.jpg

المخاوف التي يسردها ستيفن بنكر نابعة من علم النفس التطوّري وعلوم الأعصاب
يرى ستيفن بنكر، عالم النفس واللغويات الأميركي والأستاذ بجامعة هارفارد، أن الحياة الثقافية في الغرب ولعقود طويلة كانت محكومة، شأنها شأن معظم السياسات الغربية، بنظرة معيبة للطبيعة البشرية تكرس للهيمنة، وقد ناقش هذه الفكرة باستفاضة محاولا استجلاء عيوبها في كتابه ”الصفحة البيضاء، الإنكار الحديث للطبيعة البشرية“، الصادر مؤخرا عن دار الفرقد في دمشق، بترجمة محمد الجور.

تأتي عبارة صفحة بيضاء في العنوان كترجمة حرفية فضفاضة لمقولة اللوح الفارغ أو الممسوح، وهي التي استخدمها الفيلسوف جون لوك على سبيل الاستعارة، في محاولة لتفسير الفروق والاختلافات بين الإثنيات والجماعات العرقية، وبين الجنسين، وحتى بين الأفراد. كان جون لوك يسعى إلى نظريات ذات أفكار فطرية ترى أن الناس يولدون ومعهم مثلهم العليا، وكان يعارض بها سلطة الكنيسة وحق الملوك الإلهي، ومعليا من شأن التجربة، فالعقل البشري لا يمتلك سمات فطرية أصيلة، فهو عبارة عن صفحة بيضاء يتم ملؤها عن طريق المعرفة التي يكتسبها من خلال الإدراك والخبرة أي يكتسبها بالتجربة، لذا تنشأ الاختلافات بين الأفراد، ومن ثم الجماعات بسبب التفاوت في التجربة وليس لوجود فروقات في المكون الفطري.

وخلال القرن العشرين وضع مفهوم “الصفحة البيضاء” الأجندة البحثية للكثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويرتبط هذا المفهوم بفكرتين راسختين في الحياة الثقافية المعاصرة أولاهما: الهمجي النبيل، المستوحاة من اكتشاف المستعمرين الأوروبيين لأراضي شعوب فطرية في أفريقيا والأميركتين. وهي الفكرة القائلة بأن البشر في حالتهم الطبيعية أو البدائية لا ذوات لديهم، فهم مسالمون لا يعانون من المشكلات التي جلبتها الحضارة كالقلق والعنف.



blanche_0.jpg

الإنكار الحديث للطبيعة البشرية


أما الفكرة الثانية فهي “الشبح في الآلة”، ويتبنّاها المثنويّون الذين ينظرون إلى العقل البشري وكأنه شبح يتلبس الجسد، فيصبح بإمكانه اتّخاذ قراراته بصورة مستقلّة بشكل كامل عن الجسد البشري.

ويوضح ستيفن بنكر هذا الارتباط، ثم ينكر إمكانية تفسير ظاهرة اجتماعية بظاهرة سيكولوجية، فالجماعة تفكر وتشعر وتتصرف بطريقة مختلفة تماما عن تلك التي يفكر ويشعر ويتصرف بها الأفراد، ففي سعينا لتفسير الظواهر لو بدأنا بالفرد فلن نستطيع أن نفهم شيئا مما يحدث في الجماعة، فطبائع الأفراد مجرد مادة غير محددة يشكلها ويحولها العامل الاجتماعي.

إن المخاوف التي يسردها ستيفن بنكر عن النتائج الاجتماعية والسياسية التي يمكن حدوثها عن الاعتراف بطبيعة بشرية أصيلة، نابعة من علم النفس التطوّري وعلوم الأعصاب، فتتمثل في: الخوف من عدم تحقيق المساواة الاجتماعية “المطلقة”، فاختلاف البشر قد يبرر الاضطهاد والتمييز. ومن جهة أخرى قد تكون فكرة المساواة المهيمنة على الغرب غير قابلة أصلا للتحقيق. ويستعير الكاتب مقولة الروائي الروسي ألكسندر سولجستين “يولد البشر بقابليّات مختلفة؛ إن كانوا أحرارا فهم غير متساوين، وإن كانوا متساوين فهم غير أحرار”. كما لا يخفي المؤلف خوفه من عدم القدرة على تحقيق الكمال في النفس البشرية، فالبشر قد لا يمكنهم تحقيق المعايير الأخلاقية لمجتمع ما، عندئذ تصبح محاولة تحسين أوضاعهم السوسيو- اقتصادية غير ذات جدوى. هناك أيضا الخوف من الحتمية، فإن كان البشر نتاجا بيولوجيا فقط، فإنّ الإرادة الحرّة ستكون مجرّد وهم، فالبشر إن كانوا مجرد نتاج بيولوجي فلن يمكنهم إعطاء الحياة معنى أو هدفا يتجاوز الطبيعة البشرية.

والمغالطة الكبرى مبنية على الاعتقاد بأن الصفحة البيضاء لا تحتوي على شيء سوى المضامين الأخلاقية الجيدة، وفي مقابلها نظرية الطبيعة البشرية لا تحتوي إلا على الأشياء السيئة، ففي حالة الفروقات البشرية كما في حالة المشتركات الإنسانية تسير المخاطر في كلا الاتجاهين.

ينقل الكاتب عن العالم البيولوجي روبرت تريفرز قوله ”إن النظرية الاجتماعية الداروينية تكشف عن المنطق الكامن في العلاقات الاجتماعية التي عندما نفهمها أكثر تقوم بتفعيل فهمنا السياسي، كما تقدم دعما فكريا لعلم النفس، ليعطينا فهما أكثر عمقا للجذور الكثيرة لمعاناتنا”، ثم يعلق بأن تريفرز كان يعلم كذلك أن النظرية فعلت شيئا آخر، فقد قدمت أيضا تفسيرا علميا لمأساة الشرط البشري.

إن تكويننا المادي والمعرفي كان سببا في مآس كثيرة، فالسبب الذي يدفع بالعضويات إلى إيذاء بعضها البعض إما عن طريق الالتهام وإما التطفل وإما الإغواء وإما الإخافة سيدفع الأحفاد إلى التفوق على أسلافهم في ذات الأشياء السيئة، لكن الحقيقة أن مخلوقات كثيرة تتعاون وهذا أدى إلى تطور النزعة الغيرية، كما أن تبادل المصالح أوجد التكافلية والتبادلية، وهذا يفسر سبب نشوء المشاعر الاجتماعية والأخلاقية، فالثقة والمحبة تحرضان على المعروف، والامتنان والولاء يدفعان إلى رد المعروف، والخجل والشعور بالذنب يردعان عن إلحاق الأذى بالغير، لكن كل ذلك يظل جزئيا، فالمأساة البشرية تأتي من ذلك الفرق بين مشاعرنا تجاه القريب وتجاه الغريب، فالحب والتضامن نسبيان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى