ثقافة شعبية منقول - السرديّة المضادّة في السِّير الشعبية..

تشكّل فنّ "السيرة الشعبية" في منأى عن الثقافة الرسمية، ويُرجع المختصون بداياتها إلى زمن سابق على تدوينها، وهي في العموم نصوص سردية حكائية، تستحضر الأبطال، مثل عنترة بن شداد والزير سالم وأبي زيد الهلالي، في عصور لاحقة على عصورهم الحقيقية.

ثمة إجماع على أنّ السير ولدت كرّدة فعل على الهزائم، خصوصًا في ظل الحملات الصليبية، بينما يرى آخرون أنها ظهرت نتيجة الحاجة إلى شكل تعبيري جديد.

يقول الناقد عبد الله إبراهيم، في كتابه "السردية العربية بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي": "أبطال السيرة الشعبية عاشوا قبل الإسلام، لكنّ بعضهم استدعي للمساهمة في أحداث إسلامية، فعنترة يغزو الأندلس، وسيف [بن ذي يزن] يمهّد للإسلام".

تأثرت السير الشعبية بسيرة رسول الإسلام التي كتبها ابن إسحاق، واختصرها ابن هشام والتصقت به. بدأ هذا الفن متأثرًا بالسيرة النبوية، ولهذا انقسم إلى قسمين، قسم يستحضر شخصيات ذات حضور ديني، ويقدمه كبطل ينصر الدين، وقسم آخر هو الذي يستدعي أبطال الماضي ليجعلهم أبطالًا ملحميين.

كان هذه الملاحم الشعبية نوعًا من رد الفعل على هزائم جسيمة، ونوعًا من حماية الذات من خلال الفن، فـ"سيرة الظاهر بيبرس" انتشرت وذاعت بعد الغزو العثماني لمصر عام 1517، و"السيرة الهلالية" انتشرت بعد هزيمة الثورة العرابية والاحتلال الانجليّزي لمصر.

هناك جانب مهم يتعلّق بتخصّص رواة ومنشدين شعبيين في تقديم هذه الأعمال في الفضاءات العامة، وقد عرف المتخصصون بـ"سيرة عنترة" بالعناترة، فيما عرف المتخصصون بـ"سيرة بني هلال" الهلالية.

يرجّح الباحثون أن سيرة "الأميرة ذات الهمّة" كتبت في القرن التاسع الميلادي، وسيرة "عنترة بن شداد" في العاشر الميلادي، و"سيرة الملك سيف بن ذي يزن" بين القرنين الـ11 – 14الميلاديين.

سيرة عنترة

ترسم السيرة صورة عنترة منذ كان رضيعًا يمزّق الأقمطة، ثم يسقط الخيمة وهو في الثانية من عمره، ويقتل الكلب وهو في الرابعة، والذئب وهو في التاسعة، والأسد وهو فتى، حتى إذا ما وصل الى سن الفتوة يبدأ رحلة الخير، فيوحّد القبائل العربية مدفوعًا بحب عذري لعبلة.

يشير الباحث فؤاد حسنين أن شخصية عنترة تمثيل للرابطة السامية الحامية، إذ أنّه يجمع بين العرقين العربي والأفريقي.

تبدأ السيرة برسم تاريخ حافل بالحوادث التي وقعت في شبه الجزيرة العربية، ثم تتحدّث عن ولادة عنترة من زبيبة، الجارية السوداء، وشداد بن عبس.

بعد ذلك ننتقل إلى العراق، حيث يدور قتال بين عنترة والملك النعمان بن المنذر، لأنّ الفارس العبسي يريد مهر حبيبته عبلة، وهو عبارة عن ألف من النوق العصافير، التي لا توجد إلا في العراق.

تقدم كاتب السيرة عرضًا للقبائل العربية وعاداتها وتقاليدها وحروبها.

محور "سيرة عنترة" هو طلب أبي الفوارس المحموم للحرية التي افتقدها بسبب لونه، والتي كانت دافعًا حاسمًا ليحقق وجوده كفرد، وليقود بنفسه حرية مجامعه من تهديدات الأعداء الخارجية، التي تروم إلى تحويل الجميع إلى عبيد. يضاف إلى ذلك أنه شاعر، ما يجعله بحسب أحد الباحثين "واقع وتعبير معًا".

يقول عبد الحميد يونس: "استغرقت السيرة خمسة قرون أو تزيد، واستنفدت في تأليفها حتى تكاملت مرحلة أطول، وهي لذلك تشبه بؤرة العدسة في تجميع المعارف والخبرات والتعابير والروايات والأخبار، ولما كانت الشعوب ليست جزرًا منعزلة عن الجماعات الإنسانية الأخرى، فإن سيرة عنترة تعكس تراكم الثقافة العربية على مدى القرون، ولا تجد بأسًا من تمثل ثقافات أخرى من بلاد فارس ومن بيزنطة وروما ومن قلب أفريقيا".

سيرة الملك الظاهر بيبرس

يقول الكاتب والباحث فاروق خورشيد: "ليس الظاهر بيبرس بطلًا فردًا كما تعودنا أن نرى البطل الفرد في السيرة الشعبية بخاصة، وفي الأعمال الأدبية بعامة.. فسيرة الظاهر بيبرس تتميز عن غيرها من السير الشعبية بتعدّد الأبطال، وكثرة المواقف التي تسمح بظهور أكثر من بطل، وكأنما تحاول أن ترسم قطاعًا من المجتمع في هذه الحقبة الزمنية التي تدور أحداثها فيها متبلورةً حول بطل بذاته". فإلى جانب بيبرس، تظهر عدة شخصيات مثل المصري عثمان ابن الحبلة، والفلسطيني شيحة، وهو بدوي ينحدر من غزة، والشامي إبراهيم الحوراني. جمع الشخصيات من عدة بلدان لا يخلو من مرمى قومي.

تبدأ السيرة بشجار بين طفلين بسبب طيور الحمام، فيورطان والديهما الخليفة المقتدر بالله العباسي، ووزيره العلقمي، ويصل الخلاف إلى مكاتبة الوزير لقائد المغول لدخول بغداد انتقامًا من الخليفة، وذلك عن طريق رسالة يكتبها على رأس عبده جابر.

تتكوّن القصة المحورية لبيبرس من حلقات متشابكة، تدفعها وتحركها عوامل الغدر التي لا تتوقف، ما يكون حافزًا لبيبرس أن يتنطع لمهمة التصدي لكل هذه المؤامرات.

توقف الباحثون كثيرًا عن علاقة بيبرس بفرقة الحشاشين الإسماعيلية، التي يظهر فدائيوها (يسمون فداوية في النص) لإنقاذه من مختلف المواقف، رغم أن التاريخ يقول إن الظاهر بيبرس هو من كسر شوكة هذه الفرقة، وأنهى نفوذهم.

السيرة الهلالية.. أو تغريبة بني هلال

قدّر للسيرة الهلالية أن تعيش عمرًا أطول من غيرها، وأن تخلق رواةً ومنشدين يتوارثون إنشادها جيلًا فجيلًا.

تحكي السيرة تاريخ قبيلة بني هلال التي ارتحلت في رحلة جماعية إلى الغرب. قسمها المستشرقون على أساس تاريخي جغرافي، وجعلوها كالآتي:

الأول: بنو هلال في اليمن
الثاني: بنو هلال في نجد
الثالث: بنو هلال في الشمال الأفريقي.

أما الباحث عبد الحميد يونس فيفضل تقسيمها على أساس جيلي، يراه في ثلاثة أجيال، هي:

الجيل الأول: جيل الآباء الذي يبدأ بهلال وينتهي بسرحان ورزق وغانم.

الجيل الثاني: جيل الأبطال، وهم الحسن وأبو زيد ودياب. هذا الجيل هو المفصلي في السيرة.

الجيل الثالث: جيل الأبناء، أو الأيتام كما يسميه أصحاب السيرة، ويمثلهم بريقع وعلي أبو الهيجات.

الجانب الأهم في هو البطل المقدام أبي زيد، الذي نتابع سيرته منذ ولادته، فنرى أباه رزق المتزوّج من عشر نساء لم ينجب سوى ابنتين، وحدث أن أنجبت إحدى زوجاته طفلًا مشوّها، فاغتم وتزوّج للمرة الحادية عشرة من ابنة أحد شرفاء مكة، لذا تسمّى بخضرة الشريفة، التي حملت وأنجبت أبا زيد.

تروي لنا السيرة أن الهلاليات كم ينتظرن مجيء الطير كل عام، وتختار كل واحدة منهن طائرًا تتفاءل به، وتتمنى أن ترزق طفلًا على شاكلته، ومع انضمام خضرة إلى القبيلة تفعل ما تفعله النساء، فتعجب بطائر أسود، لم يكن إلا غرابًا، ظهر على شكل كتلة من اللهب في السماء، وانقضت على الطيور وقتلت أغلبها، فدعت خضرة ربها أن يكون ابنها على شاكلته. وحين تلد أبا زيد يتهما زوجها بالخيانة ويطردها، وهكذا تولد قصة فارس بني هلال.


* عن:
ركن الورّاقين (6): السرديّة المضادّة في السِّير الشعبية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى