أمير تاج السر - الصبّاغ

كانت الثانية عشر والنصف ظهرا في أحد أيام شهر يوليو الحارة والرطبة من العام الماضي ، حين توقفت بعربتي أمام مجمع تجاري صغير يقع في الطريق العام، المؤدي إلى المستشفى الذي أعمل فيه .. كنت أقصد محل البقالة أو ( السوبرماركت ) ، وفي ذهني تتراقص زجاجة مثلجة من الكوكاكولا ..إنها زاد الصيف الذي نحتاجه بشدة ، كلما يبس الحلق ، أو نز الجلد عرقا من لسع الحر و الرطوبة ..خطوت خطوتين باتجاه البقالة ، وإذا بيد رطبة توضع على كتفي ، وجسد قديم يحتضنني ، وصوت أشيب يخرج متعثرا:

- هل تذكرتني ؟ أنا جان بور .

قلت: نعم .. وكنت صادقا في ذلك ..فالأسيوي الذي تجاوز الخامسة والسبعين .. كان حاضرا في ذاكرتي .. واحدا من أولئك المرضى المسنين الذين يمرون على عياداتنا بصفة شبه يومية، شاكين، ومضطربين، وخائفين من موت يتصورونه وشيكا ، ومزودين بعكاكيز الدواء والتطمين التي نصرفها لهم، ويتوكأون عليها في سيرهم البطئ. كان مريضا عاديا جدا، مثله مثل مئات آخرين، وربما لا يتذكره أحد على الإطلاق .. لكن شغفي بالكتابة والأسماء والشخصيات، منحني ذاكرة مفتوحة ، و مضيافة ، وتحتفي بالجميع بلا استثناء .

في تلك اللحظة أمسكني الرجل من يدي بشدة .. جرني إلى كافتيريا صغيرة كانت ملاصقة لمحل البقالة، وتقدم وجبات سريعة .. كان يقسم بشدة أن يستضيفني في غداء متعجل في تلك الكافتيريا، احتفالا بمناسبة عثوره علي مصادفة، وتحت ضغط من إلحاحه الغريب وافقت، وأنا أنظر إلى ساعتي في قلق، خوفا من أن يسرقني الوقت ولدي مناوبة في الواحدة. شملتنا الكافتيريا بجوها البارد، ورائحة عمالها وطعامها، وضجيج ماكينة ( الآيس-كريم ) التي كانت تعمل بكفاءة مشاركة في تثليج ذلك الصيف الحار والرطب. كان الغداء عاديا ومتوقعا في مكان كهذا .. سندوتشين من همبيرجر شبه محروق، وكوبا من برتقال مر .. وصوت الرجل يمتد:

- هل لا زلت تعمل في الصبغ ؟

إذن فقد كان ذلك الإحتفاء ، وذلك الإلحاح الغريب في تلك الدعوة لا يخصني بالتأكيد، ولكن يخص صباغا تربطه بالعجوز صداقة قديمة، أراد تجديدها حين عثر عليه مصادفة. .كنت قد أكلت كثيرا من لقم الاحتفاء، شربت عدة جرعات من البرتقال المر، وكان تراجعي في تلك اللحظة، وإخباره بالخطآ، كفيلا بإجهاض نشوته، وهو يكرم صديقا. قلت: لا .. تركت تلك المهنة، والآن أعمل بالتجارة .

أنا أيضا أعمل بالتجارة .

قال الرجل واسترخى على مقعده البلاستيك، مشعلا سيجارة من ماركة مالبرو، لا بد قد أضافت تلفا جديدا إلى أعوامه .. شد نفسا طويلا وأضاف:

- وابنك حسون، ذلك الشقي .. هل كبر ؟

بالقطع لم أكن أبا ( حسون )، ولم يكن في عائلتي، ولا قبيلتي ولا أصدقائي ولا جيراني، واحدا بهذا الإسم. كنت بديلا غير متقن، متورطا في صداقة ليست لي، ومهنة لم أمتهنها في يوم من الأيام .. و احتفاء فقير لا بد ستقتلني حموضته في الدقائق القادمة. تحسست حبوب ( الموكسال ) في جيبي واطمأننت:

- نعم .. لقد كبر .

كانت الواحدة تقترب ، ومعها يقترب موعد الدوام الرسمي لمناوبتي .. شكرت الرجل على عجل، وأعطيته رقما لهاتف محمول كنت أملكه ولا أستخدمه إلا نادرا، كان مصرا على استضافتي في منزله، وسأل عن وسيلة إتصال . لمحته من خلف الزجاج الرطب يدفع ثمن الاحتفاء ، ويخطو بتلك الخطوات المسنة إلى رطوبة الصيف .

بعد عدة أيام جاء ( جان بور ) إلى عيادتي التي تعود على زيارتها .. كان يحمل ملفا ضخما غطته عشرات العقاقير المكافحة ضد مرض السكر، وارتفاع ضغط الدم، والكوليسترول ، والتهاب المفاصل، ورعشة الأطراف الناتجة من الشيخوخة والآثار الجانبية للدواء. سلم علي سلام مريض لطبيب .. وجلس على مقعد الكشف يشكو أعراضه، من دون أن يخطر على باله أو ينتبه إلى أنه يجلس أمام ذات ( الصباغ ) الذي استضافه منذ عدة أيام، في كافتيريا فقيرة على الطريق العام .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى