رسائل الأدباء رسالتان بين عبد القادر وساط و أحمد بوزفور

بلينا وماتبلى النجوم الطوالع

○صديقي العزيز أحمد بوزفور
تحدثنا سابقا عن شكوى الناس من الزمان. وأذكر بالمناسبة ما رواه أبوالفرج الأصبهاني، في كتاب الأغاني، عن السيدة عائشة. فقد كانت تُعجب ببيت الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة:
ذَهَبَ الذين يُعاشُ في أكْنافهمْ = وبقيتُ في خَلْفٍ كجلْد الأجْرَبِ
وكانت تقول كلما ذكرَتْه:
- وَيْحَ لَبيد بن ربيعة، كيف لو أدركَ هذا الزمان؟
ثم استمر الناس، قرونا بعد زمن السيدة عائشة، يقولون كلما ذكروا هذا البيت: ويح لبيد بن ربيعة، كيف لو أدرك زماننا هذا؟!
وهذا البيت من قصيدة بائية، حافلة بالأبيات الجديرة بالإعجاب، ومنها قوله:
إنّ الرّزيّةَ لا رَزيّةَ مثْلها = فُقْدانُ كلِّ أخٍ كضوء الكوكبِ
ويشير الشاعر هنا إلى موت أخيه أربَد، الذي أصابته صاعقة فقتلته.
وقد كان لموت أربد أثر عميق في نفس أخيه الشاعر لبيد بن ربيعة، الذي رثاه بشعر رائع كان يُعجب به القدماء غاية الإعجاب، وخصوصاً تلك العينية التي يقول في مطلعها:
بَلِينا و ما تَبْلى النجومُ الطّوالعُ = وتَبْقى الجبالُ بَعْدنا والمَصانعُ
وفيها يقول:
فلا جَزَعٌ إنْ فَرّقَ الدهرُ بيننا = فكُلُّ امرئ يوماً لهُ الدهرُ فاجعُ
وما الناسُ إلا كالديار و أهْلِها = بها يومَ حَلُّوها وغَدْواً بَلاقعُ
وما المرء إلا كالشهاب وضوئهِ = يَحُورُ رماداً بعْدَ إذْ هوَ ساطعُ
أليسَ ورائي إنْ تراختْ منيّتي = لُزوم العصا تُحنى عليها الأصابعُ؟
ومنها قوله:
لَعَمْرُكَ ما تَدري الضَّواربُ بالعصا = ولازاجراتُ الطير ما الله صانعُ
أعاذلَ ما يُدْريك إلا تَظَنّياً = إذا ارتحلَ الفتْيانُ مَنْ هو راجعُ
وقد وفدَ لبيد على الرسول عليه السلام وأسلم. ويُروى عن الرسول أنه قال: أشعرُ كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد( ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ.)
كما تروي الكتب أن لبيدا هاجر إلى الكوفة أيام عمر بن الخطاب، وأنه امتنع عن قول الشعر بعد إسلامه فلم يقل إلا بيتا واحدا هو :
الحمد لله إذْ لم يأتني أجلي = حتى لبستُ من الإسلام سرْبالا
وعن شعره يقول الأصمعي : "شعر لبيد كأنه طيلسان طبَريّ"، يعني أنه وإن كان جيد الصنعة، فليست له طلاوة!
أما أبو عمرو بن العلاء، فكان يقول عنه: "ما أحدٌ أحبّ إليّ شعراً من لبيد بن ربيعة، لذِكْره الله عز وجل ولإسلامه ولذكره الدين والخير، ولكن شعره رحى بزْر!"
وأما شيخ المعرة فقد جعله، في رسالة الغفران، شابا يتنزه في الجنة وفي يده محجنُ ياقوت! ويصف لبيد حاله هناك في جنة الخُلد بقوله:
- أنا بحمد الله في عيش قَصَّرَ أنْ يصفَه الواصفون، ولديّ نواصفُ وناصفون، لا هرَم ولا برَم.
وقد طلب منه الشيخ ابن القارح، عند لقائهما في الجنة، أن ينشده معلقته الميمية، فأجابه:
- هيهات! لقد تركتُ الشعرَ في الدار الخادعة ولن أعود إليه في الدار الآخرة...

***********************

○من احمد بوزفور الى عبد القادر وساط

نعم ياصديقي. أنا من عشاق شعر لبيد. والناس يعرفون معلقته، ولكن كثيرا منهم يجهلون عيون شعره الأخرى، ومنها عينيته الخالدة في رثاء أخيه أربد التي نوهتَ بها. ويعجبني هذا الوفاء النبيل من لبيد- الذي أسلم وحسن إسلامه ، حتى لقد أضرب عن قول الشعر بعد الإسلام، وقال عن سورة البقرة: " أبدلَني الله هذه في الإسلام مكان الشعر" - لأخيه الكافر الذي أحرقته الصاعقة،وهو منصرف عن النبي عليه السلام، بعد أن كان وصاحبه الشاعر الفارس عامر بن الطفيل ينويان به الغدر. ويقول بعض المفسرين إن الآية ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) نزلت فيه .إنه وفاء شبيه بوفاء الخنساء لأخيها صخر. فقد سُئلتْ تلك الشاعرة الحزينة يوماً: " لماذا تبكين حطب جهنم ؟" فأجابت: " ذلك أدعى لأن أبكيه."
ويعجبني في لبيد أنه اعتاد عادة غريبة، لم أجدها عند أحد غيره، فقد كان نذرَ أن لا تهب الصَّبا إلا نَحرَ وأطعم الناس. ويحكون أن الوليد بن عقبة ــ وكان أميرا على الكوفة، حيث كان يقيم لبيد ـــ خطب الناسَ وقد هبتْ ريحُ الصبا، وعرف أن لبيدا مُقْترٌ مملق، لا يستطيع الوفاء بنذره ، فقال :" إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل، فأعينوا أخاكم..."
ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة، وبعث إليه الناس، بل إنه أرسل إليه قصيدة يمدحه فيها ( تصور معي أميرا يمدح شاعرا ) ويقول:
أرى الجزار يشحذ شفرتيه = إذا هبت رياح أبي عقيل
أغرّ الوجه أبيض عامريٌّ = طويل الباع كالسيف الصقيل
هذا الشاعر الفارس الكريم، عاشق الرياح، عاش طويلا حتى قال ذلك البيت الشهير:
ولقد سئمت من الحياة وطولها = وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ
وتأمل معي - صديقي العزيز - هذه العبارة الفريدة (هذا الناس): ألا توحي بملل الشيوخ وسأم المعمرين من كل شيء ومن كل أحد، حتى صار الناس كل الناس واحدا وواحدا ثقيلا أو تافها تناسبه كلمة (هذا)؟
وبعدُ فإني لأترحم، في آخر هذا الكتاب، على أستاذي الكبير وصديقي العزيز الشاعر الراحل سي أحمد المجاطي، الذي كان يحب لبيدا ويحببه لنا، وقد اختار لابنه اسْمَ (لبيد)، وأظنه المغربي الوحيد الذي يحمل هذا الاسم. رحم الله سي أحمد المجاطي، الذي علمنا أن نحب الشعر وعلمنا كيف نحبه، وأعطانا من وقته وراحته وثقافته وقلبه الكبير ما به نعيش اليوم ونقيم أوَدَنا الأدبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى