جمال محمد ابراهيم - صدى الصهيل

كان لقائي بها محض صدفة ، رتبتها أقدار عشوائية .. ضمتنا جلسة دافئة في شقة صديقي مصطفى، ذات ليلة من ليالي نيروبي المضمخة بروائح الشاي ونكهة النعناع . كانت أنثى في لون النحاس البراق . ذهبية الخدود، عمانية الأبدان ، نجدية المقل .. قالت لي جدها من أطراف ممبسا، عربي الملامح ، جذوره هو الآخر تمتد إلى سنوات بعمق سواحل جزيرة العرب.
يا لغنجها و دلالها . إنها محظية عربية ضاعت من امريء القيس ، هذا الذي ضيع كل شيء . قلت لنفسي : فلتكن هذه الفاتنة المجنونة بطلة لقصتي .. فقد لا أجد أنسب منها ..أفريقية ، نصفها ضائع في الجزيرة العربية ونصفها الآخر منسي في فضاء الغابات . أما بطلها ، فهو الآخر مشطور ، نصفه ألأول غابة و نصفه الثاني صحارى الشمال ، يلتقيان حيث يكون النيل حلما في أحشاء الأرض ، عند بحيرة فيكتوريا ، يخرج ثعبانا لينا ، أنثى تتمايل ،مثل النيل تماما .. هذه البنت المزعجة . انتفضت من مجلسها ، وراحت في غيبوبة راقصة مع لحن أفريقي صاخب ، ملاء أرجاء المكان و ارتجت له جنبات الصالة .. تكاد الشقة الصغيرة من فرط دقات الطبول أن تنفجر . أما هذه الصبية .. آه ، ما كنت أريدها أن تكون هكذا ، بركانا هائجا ، يرتج جسمها انفعالا ، تتدافع يداها في تمايل و تثني ، تشد إليها دقات الطبل شدا ، وتكاد مسام جسدها تتفتح عناقا و توحدا ..
حاصرها تصفيق الحاضرين في الشقة الصغيرة ، و تضاعفت الضجة ...آه من هذه الصبية .. . كنت أريدها فكرة تعربد في أوراقي ، لا جسدا يفوح بالرغبة و الفسق ، تتربص به أعين حرقتها الفحولة و الاشتياق ...
هل كان لا بد أن أخطو خطوة لإنقاذ بطلة قصتي من هذه المحاصرة المحمومة ؟ هرعت إلى جهاز الموسيقى ، أسكته في إصرار ، برغم ضجيج الاحتجاج .. سقطت ليلاي في خيلاء على أريكة قريبة ، و اتكأت على كتف صديقي مصطفى ، لكنها ظلت تحدق باتجاهي في نظرة خالية من أي معنى . هدأت تماما الآن ، كأنما خرج الشيطان من جسدها بعد هذا الرقص العنيف . أحسست بزهو وهمي ، إذ خيل إلي أنني نجحت في كبح جماح بطلتي . هي الآن عجينة طيعة - قلت لنفسي- لي الآن أن أقوم بتشكيلها كيفما أشاء..
قلت لها بلا مقدمات : كفاك رقصا ..أنت فكرتي و مشروع روايتي التي وضعت خطوطها منذ أزمان سحيقة ، و لن تفلتي مني هذه المرة ..
رمقتني بنظرة فاحصة ، خالية من الإندهاش ، مليئة بالترقب و الإستفسار ، لكأنها كانت تنتظر مني هذه المواجهة الفجائية . أما مصطفى ، فقد تملكه ضيق بين ، إذ أن أحلاما كانت تراوده ، يرى الآن ، أن مخططاتي ستذروها أدراج الرياح .. أو أنني ، في تقديره ، أتدخل فيما لا يعنيني، بل أنا ضيف ثقيل الظل، لا يحق له التدخل بين ذكر وأنثاه . قال مصطفى كلمات تتأجج نارا : إني أراك تتمادى و تتقتحم أراضي الغير ..هلا احتفظت بمشاريعك الفكرية لنفسك . لقد أفسدت علينا السهرة ..!
كنت أعرف أن بطلة روايتي ، تدرك أن شيئا ما يمتد بيني و بينها . لم أكن في حاجة هذه المرة لإنقاذها ، إذ قامت من مجلسها ، متحدية كل الأعين المشدودة إليها ، وأخذتني من يدي و اندفعنا الى خارج الصالة .. ثم إلى الشارع العريض..حينما خرجنا إلى فضاء المساء ، إحتوتنا لفحة من نسيم استوائي جفف الندى العالق بجبينها ..
- ولكن صديقي مصطفى لن يغفر لك ما تفعلين..!
- ليذهب إلى أي جحيم يختار ..إني اخترت أن أذهب معك ..هل أنت من ممبسا ؟ سألت في عفوية ، و امتدت يدها اليمنى، ممسكة بأصابعي في مودة ملأتني تيها ...
- كلا ..أنا من الخرطوم...
- أوه.. تقصد من السودان ؟ أنا اسمي ليلى أومارو ...
و لمعت عيناها ببريق أخاذ ، ثم واصلت مستفسرة..
- لا بد ، إذن ، أن يكون جدك من العرب الذين نزحوا الى سواحل او مداخل افريقيا..
كيف وقع المؤلف هكذا في دائرة التحقيق ؟ هل أبوح لها بأني قادم من وراء المدارات و صقيع الشمس و براري الأكاسيا ووديان الجدب و تخوم النخيل الجاف قبالة النيل القادم ، متئدا فوق الجسد المخضر بالليونة و الخصب ؟ هل أقول لها أني تجشمت مشوارا بداء من وراء أسوار السلطنة الزرقاء ، مرورا بتيه بني أمية .. منذ ائتلاف النهر مع الجبل ، انصهارا في بؤرة الزمن السحيق ..؟
نعم يا بطلتي ..الخيل هنالك راكض في كثبان نجد، و أنا صدى الصهيل في الغابات...
اجتزنا شارع كينياتا العريض ، عرض ميادين السباق ، و أقترحت عليها أن نلجأ إلى باحة فندق هيلتون نيروبي ، هروبا من الزحام و الأعين المتطفلة و حملقة البغايا المتسكعات ..
قالت : على الأقل لن يتعرف أحد علي هنا ..لا ريتشارد و لا موكابي اليوغندي و لا صديقك مصطفى ...!
* * * *
طلبت لها كأسا ممتلئا بالجعة .. وانطلق لسانها بعد ذلك . لقد كنت أتطلع لمعرفة كل التفاصيل التاريخية عن بطلتي .. حكت لي عن أمها أمينة ، و عن أبيها أومارو ، و رحلة البحث عن الذات و الإنتماء ، منذ نزوح الأجداد إلى سواحل القارة السوداء .. حكت لي عن خلافها مع شقيقها ، وعراكها معه ، ثم هروبها إلى نيروبي ..
- جئت إلى هذه المدنة أبحث عن تاريخي و ذاتي ... لم أسلم من أمثال ريتشارد ولا موكابي ولا مصطفى صديقك ، وكل قبيل المشاكسين الذين تعج بهم شوارع و حانات نيروبي ..كان الخواء يحاصرني أنى اتجهت..
- يا لك من متمردة مجنونة ..!
- لا أعرف في حقيقة الأمر مم أهرب ، أو إلى أين أتجه .. لكن لم أنس العجوز أومارو ، لحظة ...
و أخرجت من جيب سترتها مظروفا عليه طابع بريدي و عنوان في ممبسا ...
* * * *
دلفت إلى حجرتي ، ولملمت أوراقي أراجعها من جديد .. فالبطلة التي أخترت ، بدأت تتسرب من بين أصابعي ، كلما هممت بالتحكم في مسارها .. مزقت الذي كتبته عنها في الأيام الماضية ، إذ لم أر فيما كتبت حبكة و لا بدءا ولا انتهاء...!
ما كنت أريد لها أن تلتقي بنمازج بشرية ، لا تضيف أبعادا جديدة لتركيبتها المعقدة ، رجال مثل موكابي و ريتشارد و مصطفى .. هم كالصخور الصماء ، لا تجرفهم مياه النهر المندفع ، ولا تحتويهم أمواجه المتلاطمة ، بل تمسهم نعومة الماء مسا ، ولا تلامس شيئا من دواخلهم ، أو تذيب "الأنا" القابعة هنالك في قلب الصخر ، تنداح دوائر ، دوائر ، تتسع كلما أوغلت حراب الإنسان الأول الصدئة في جسد الماء الطافح بالأنوثة النفاذة ...حتى ينفلق الصباح...
* * * *
قالت لي : أريدها معركة فاصلة معك ..!
و علا صدى الصهيل . خرجت إليها ، مغسولا ، إلا من ورقة التوت .. رأيت صحرائي الممتدة حول الغيب ، تتكور شجرا له سيقان ، يبلغ طولها حتى سماء الحاضر .. وأنا ممتلئا بالندى ، غابة صرت ، وتكوينا من صحراء . وامتدت يدي إليها . كيف لا أراها و هي متلفعة بأوراق الشاي و بهارات الشرق و قرنفل الساحل ..؟ من موكابي هذا ..؟ أي نبت شوكي تعلق بليلاي ؟ لا هو من رمل الصحارى ، ولا هو من عبق الغابات ..! و من يكون مصطفى ، هذ ا الذي لا يرقى لأن يكون بطلا شهما ..؟ إنه طالب ماجستير في جامعة نيروبي و طالب أشياء أخرى ، تدخل فيها علاقاته الأبنوسية الخاسرة ... لذا أسقطته من حسابات روايتي . و أسفت أيما أسف ، إذ رأيت ليلاي و قد تعثرت خطاها في طريق مصطفى .. لقد كان خروجها معي تلك الليلة ، حدثا مأساويا ، كما يراه مصطفى ، أما هي فقد أدركت أن علاقتها به، هي ملهاة لا يتعدى عمرها ، سويعات الرغبة في سرير طلابي خشن ، ضمهما في السكن الجامعي عند أطراف نيروبي . كان إحساسها بالامتنان عارما ، حين خرجنا من شقة مصطفى تلك الليلة ، بينما كان غاية مسعاي و قتها ، أن أطوعها بطلة لقصة أرقتني أياما طويلة ...
هاهي الآن ، ممتلئة عنفوانا و تحد ، و بعد لقاءات محمومة جمعتنا ، تريدها معركة ، و تريدني غريما لها ...
* * * *

- قررت أن أقاطع أومارو ، و لن أكتب له رسالة بعد الآن....!
فاجأتني بحديثها عن أبيها على هذا النحو.. و نحن نلج فندق نيو ستانلي ، الصغير في قلب المدينة النابض بالحياة و الصخب ..
- و أرجو أن لا تطلب مني تفسيرا.. أضافت في ثقة . بدت لي رصينة الآن ، و لكن بريق عينيها النجديتين يشي بأن المعركة أكبر مما تصورت . لست أنا الغريم الوحيد ، إذن ، هنالك أومارو .. هنالك ممبسا بأكملها ..!
كنت أحس أنها تضيق الخناق علي ، بطريقة ما .. بعد الضحك و اللهو والرقص العنيف في علبة الفندق ، شملنا هدوء عاصف . لم تعد تتحمل ، وسقطت على كتفي في استسلام طفولي .. وهمست :
- هاأنذا قد قطعت صلاتي بممبسا .. هل أنت قادر على الارتباط بي ..؟
كان همسها أقرب إلى ضجيج الإنفجارات والزوابع .. هاهي تتأملني و كأنها تحملق في مرايا التاريخ .. تريدني أن أنسلخ عن غاباتي و صحاري ، و أتحدر نهرا كاسرا مقطوع الأصل لألتقيها ، بل لأصير بطلا في رواية الخسران هذي.. التي و ضعت أنا خطوطها من ذاكرة القمقم .. لكنها الآن فاجأتني وقد استوت ماردا جبارا ، سد علي منافذ السماء ، و زلزل الأرض من تحت قدمي .. وأفلتت شخوصي من بيت أصابعي .. تسلل موكابي من عرينه متربصا بي ، و أطلق مصطفى ساقيه يعدو ورائي .. و هاهي ليلاي تلهث من تحتي . لم يعد في من زخم الغابات شيء ، ولا من أحلام الصحارى . جردتني ليلاي من أسلحتي ، و لم يبق إلا أن تجهز علي في آخر المطاف . إنها معركتها الفاصلة كما قالت ، و لن يزعها وازع . تريد أن تعلقني ، كما علقت نفسها في الفضاء الواقع بين غابات الرمل و صحارى الأشجار ، هروبا مني ، فرارا إلي...
* * * *
خرجنا من الفندق الصغير و سؤالها ملقى على كتفي ، دون جواب . فاجأني وجه موكابي مبتسما قبالتي ، و كأنه كان في انتظارنا ، أو كنا معه على موعد . مد موكابي يده و أخذ ليلاي من خصرها ، و اتسع الفضاء الواقع بين غابات الرمل و صحارى الأشجار ، اتساعا كبيرا . تسمرت قدماي حيث كنت ، ودارت ليلاي حول نفسها . رأيت عينيها النجديتين تتوسلان بلا بريق ، رأيت ماردا ينكمش إلى قمقمه ، وسماءا تفلت من أرضها .
وعبق المكان برائحة الشاي و العنبر و القرنفل و نكهة النعناع من جديد .. ثم خفت .


جمال محمد إبراهيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى