رانيا مأمون - عبــور

تتكرر زياراتُه لي ويطرح عليّ نفس الأسئلة بنفسِ نبرة الحزن:
ـ ألم تصبحي طبيبةً كما وعدتني؟
أجيبُ أنا بذات الشعور الطاغي بالندم:
ـ للأسف، لا!
يقول لي:
ـ كنتُ أضع فيك أحلامي وظننتك ستحققينها.
أصمتُ لعدم قدرتي على الرَّد، أو ربما إحساس الخيبة الذي يتقطّر من كلماته يصيبني بالخرس.

■ ■ ■

رائحتك مدبوغة في شقوق الحائط ممتزجة بذرات التراب. تتسلل إليَّ وتغمر هواء الغرفة. أتلفّت لأعرف مصدرها. تغمرني، تحيط بي، أمدّ يدي كي أقبض بها في كفي، كي أمسّها لعلّي أمسّكَ من خلالها، لعلَّي أمسُّ كفَّكَ البضَّة، وجهك، يدك. أحسُّك قريباً. قريباً جداً. أحسُّك قربي، فيّ، داخلي. أشعرُ بأني إن مددتُ يدي ستصطدم بك.
رائحتُك تفتح مشارع الذكرى فتغزوني بغتةً مثل جيوش النَّمل تلسعني بقوة وفوضى على عيني، جلدي، مسامي، دمي، أذنيّ وهما تلتقطان ذبذبات صوتك الحاني. تغمرني الذكرى فأستشعر دفء حضنك ودفء السرير عندما أنام قربك في طفولتي بدلاً عن أمي.
عندما تأتي من مأموريتك التصق بك مثل الغراء. تحاول أمي أن تبعدني فلا أستجيب. تقول لي: غداً سيسافر. أقول لها: ولكنه سيعود.
الآن وبعد أن كبرتُ وبعد أن ذهبتَ أنت، بعد أن أسلمتني لهذا الفقد الذي يصعب التعايش معه، لن أستطيع أن أجيب نفس الإجابة أو أكون بذاتِ اليقين!
رائحتُك تملأ كل مساحات الفراغ. تخرجني من دوامة ذكرى لتقذفني في أخرى أوسع وأعمق وتضخِم فيّ إحساس وجودك قربي. تحتسي الشاي، بكوبك الكبير الذي ما زلنا نحتفظ به، وكم كنت تحب الشاي. بعده تستمع إلى الراديو مستلقياً على قفاك واضعاً رجلاً فوق أخرى، ثم تعبث في حقيبة ذكرياتك وتنادي عليَّ كي أقرأ هذه الورقة أو تلك. وأحياناً يخاتلني طيفك وأنت تتوضأ تهيؤاً للصلاة، وأستدعي الآن فرحتك عندما انتقلنا لهذا المنزل قرب المسجد حيث قوة الآذان تضرب داخل القلب وتهزّ البدن، قلتَ: أكثر ما يفرحني هو جواري للمسجد، أهناك جارٌ أفضل منه؟

■ ■ ■

اليومُ عيد. الكل يرفرف فرحاً. مؤذن الجامع يُكبِّر ويهلِّل والأطفال من بعده يكررون: الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر ولله الحمد.
أبناء اخوتي يدخلون ويخرجون فرحين بملابسهم الجديدة وحلوى العيد لا تفارق أفواههم.
يأتون إليّ ويضجّون:
إياد:
ـ أين العيدية؟ قلتِ ستعطينا عيدية.
براءة:
ـ اعطيها لنا بسرعة نريد الذهاب إلى المراجيح.
زياد:
ـ كم ستعطينا؟ أعطنا نقوداً كثيرة من فضلك.
حينها كنتُ أضع اللَّمسات الأخيرة في ترتيب البيت. أعدِّل من وضع الستائر، أشدّ الملاءات الجديدة، وأزيد الجمرات في المبخر حيث أعواد الصَّندل تكمِّل بهجة العيد وتهبها رائحتها.
اسمع أختي تنادي على أمي:
ـ أمّي.. أمي، تعالي وانظري لأبي يبدو أنه متعبٌ جداً.
تذهب أمي. تتلمسّه. تسأله لا يجيب.
تطلب منها أن تنادي على أخي كي يُحضِر جارنا الطبيب.
في ذلك اليوم حمَّمته أختي في الصباح وألبسته جلبابه الجديد، عطّرته وأخبرته بأن اليوم هو العيد. لا يبدو أنه أدرك ما تقول، أو عرف ما هو العيد.
كان غائباً عن الإدراك. تسأله لا يجيب أو حتى يعطي الإحساس بأنه سمعك. ينظر إليك فتخال أنه لا يراك بل يرى عَبرك، نظراته زائغة، تائهة في فضاء المكان. سقته الشاي الذي يحبه وأعادته إلى رقدته في السرير وغطته جيداً.

■ ■ ■

كنتُ طفلته الأثيرة، كان يحبني جداً. عندما يراني جالسةً بهدوء وحدي لا أتسامر مع بقية الأسرة يأتيني ويسألني:
ـ ما بكِ؟ لماذا تجلسين وحدك؟
ـ لا شيء، سوى أنني جالسة وحدي.
ـ اذهبي وتسامري مع إخوانك، لا أحب رؤيتك وحيدةً هكذا.
كان يخصّني بكل شيء يحضره: حلوى، نقود، قصب سُكّر، فول، تسالي، يخصني بالحنان، القرب منه، كل شيء وعندما يحتج أخوتي يتحجَّج بأني آخر العنقود.
بعد عودتي من المدرسة كنتُ أسأل أمي عن الغداء فيرد عليّ هو:
ـ ادخلي المطبخ، تناولي طعامك، هذا بيتك، هل تخجلين؟!
يعلن دوماً عن آماله الكبرى فيَّ: ابنتي هذه أريدها طبيبة. يناديني دائماً بالـ دكتورة وكنتُ أطرب لهذا النداء. وبعد كل هذا الحنان عجزتُ عن تحقيق رغبته!

■ ■ ■

في انتظار الطبيب كنتُ أجلس قرب رأسه وهو ممدَّد على السرير. ألاحظ حبيبات من العرق على جبينه ورأسه الأصلع. أمسحها بيدي مجردة من أيّ منديل. يندِّي جبينه مرة أخرى أمسحه مرةً أخرى. يستمر في النَّدى وأواصل أنا في المسح بيدي العارية.
عندما حضر الطبيب وجدنا نحيط به، أمي تدلك قدميه المتشنجتين، أختي على الطرف الآخر من السرير تمسك بيده، أخي واقفاً ليس ببعيد وأنا على رأسه ماسحة جبينه باستمرار. يعاينه بدّقة وبطء.
أمي تنتبه لنظرات أبي. ربما أدركتْ ما كان يحدث، بدأتْ تردد الشهادتين. الطبيب لم يطلب منها الصَّمت، بل واصل قياس الضغط وفتح عينيه وقراءة نبضه.
أرى شفاه أبي تتحرك وتردد بعد أمي الشهادتين بصوتٍ خفيض يكاد لا يُسمع. ثم يغيب الصوت وتتباطأ حركة الشفاه.
في لحظةٍ فاصلة ندّى الجبينُ بغزارة. توقفت الشفاه عن الحركة ورفع الطبيب رأسه وعلى وجهه تعبيرٌ آسف.
لجهلي لم أكن أُدرك حتى تلك اللَّحظة بأني أمسحُ أثر تعرُّق خروج الرَّوح، ولم أدرِ أنها خرجتْ.
ربما عبرتْ قربي، ربما اصطدمتْ بي أثناء عبورها، ربما ودَّعت، لوَّحت أو ابتسمتْ، لكني رغم قربي ما رأيتُها قطّْ.



* روائية وكاتبة سودانية صدر لها روايتان: «فلاش أخضر»، «ابن الشمس»، ومجموعة قصصية بعنوان «13 شهراً من إشراق الشمس».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى