أمين الزاوي - المعلم.. موت الأسطورة الحية

كلنا كان لنا معلم ذات يوم، جميعنا يملك صورة نائمة في ذهنه عن معلمه، وما سأرويه لكم عن معلمي الأول لن يختلف عما عرفتموه أنتم أيضا عن معلمكم، هي الصور التي تلاحقنا كظلنا، قد تختفي، تصغر أو تكبر ولكنها لا تلبث أن تعود.

قم للمعلم وفه التبجيلا = هكذا يقول خطابنا الأعمى

... مع أن معلمي كان ذا قامة قصيرة إلا أنني كنت أراه، وكذا كان يراه، دون شك، جميع من حولي، طويلا طويلا، أطول رجال القرية جميعهم، ربما العلم الكثير الذي كان في رأسه هو الذي كان يزيد في قامته نصف متر أو أكثر، لا يمكن أن يوجد معلم بقامة قصيرة، لأنه قادر على قطف النجوم من السماء بيديه واحدة واحدة دون ركوب سُلَّم!! كان لمعلمي اسم هو السي حميد. اسم جميل، أليس كذلك؟ كان معلمي يسكن القرية كما يسكنها الجميع، وأشهد أني دخلت بيوتا كثيرة أعرف أهلها ولا أعرفهم، ولكن دخول بيت معلمي كان من المستحيلات، لكم تمنيت أن أدخله وما دخلته يوما، لست أدري لماذا، فمنزل معلمي الأول كان فضاء مقدسا، ولم أتجرأ في يوم من الأيام الاقتراب من عتبته، حتى في أيام عطلة الصيف الطويلة التي كانت تبتدئ من نهاية جوان لتمتد حتى أول أكتوبر، حيث كان يغيب لمدة ما، لم أكن قادرا على المرور بالقرب من عتبة هذا المنزل الخالي. كان معلمي الأول أكثر رجال القرية وسامة، إذ لا يمكنني أن أتخيل رجلا آخر في قريتي أو في القرى المجاورة يضاهيه في الأناقة، ما كان يلبسه لا يلبسه أحد، لست أدري من أين ولا كيف كان يختار هندامه البسيط ولكنه الأجمل دائما، شعر مصفف بعناية بفرقة مائلة إلى اليمين قليلا، كنت لا تراه إلا بقميص أبيض ثلجي ناصع نظيف وربطة عنق بعقدة كلاسيكية صغيرة، بالمناسبة هو الوحيد الذي كان يعرف كي تعقد ربطة العنق، كان بعض رجال القرية من اليد العاملة المهاجرة في فرنسا يجيئونه الليلة التي تسبق يوم سفرهم ليربط لهم ربطات عنقهم، كانت يده ساحرة، أول نظارة رأيتها فوق أرنبة أنف إنسان كانت نظارة معلمي وكانت أرنبة أنفه التي لا تشبه أرنبة أخرى. ومنذ تلك الفترة ارتبطت بذهني صورة النظارة بوجه المعلم، كانت لنا مقهى في القرية يديرها رجل لا أعرفه إلا من خلف الكونتوار، هو الآخر كان على قدر من النظافة والأناقة، لكنها أقل من تلك التي يتمتع بها معلمي الأول. كنت أحب المقهى ولكني لم أتخط يوما عتبته لأنني حاولت مرة فواجهني صاحب المحل بجملة لا تزال ترن في أذني: اخرج وإلا سأخبر المعلم بأنك تقضي وقتك في المقهى. من يومها لم أدخل هذا المكان، ولا زلت حتى الآن لا أحب المقاهي وأعتبر الجلوس فيها ضياعا للوقت. لم تكن لي الجرأة على المشي في شارع يمشي فيه معلمي، وإذا ما حدث وأن صادفته فيه أغير الرصيف فورا أو أنسحب إلى شارع آخر، كان وجوده يثير فينا إحساسا بالخوف، لم يكن خوفا بل هو الرهبة والاحترام والتقدير. حاولت مرة أن أدخن سيجارة كما جميع الأطفال تسحرهم السيجارة، لكن أمي تشممت رائحة التبغ في فمي فأمسكتني بعنف من شعري قائلة بغضب: سأخبر أباك لينقل ذلك للمعلم، أُقْسِمُ، بأنه ومنذئذ إلى الآن لم أدخن سيجارة في حياتي. لم أكن أعرف كيف يتسوق معلمي ولا كيف يأكل ولا ماذا يأكل ولكني كنت متيقنا أنه يأكل أحسن منا جميعا ويتسوق من سوق غير السوق الذي منه يتسوق والدي، مع أنه لم يكن يغادر القرية أبدا، لم يكن بحاجة إلى مساعدة أحد بل جميع سكان القرية هم الذين كانوا بحاجة إلى مساعداته وكان لا يتخلف ولا يتردد.

اليوم مع أننا محاصرون بعشرات المدارس، التي لا تشبه المدارس في شيء، إنها بنايات من خرسانة مسلحة باردة تشبه في شكلها الحيوانات الخرافية، دون روح، لم تعد قاعة الدرس تلك الغرفة التي كانت تدهشنا بأرضيتها المصنوعة من رخام أو خزف بأشكال تشبه أشكال لعبة الدومينو وبلونين الأبيض والأسود، وما عادت النافذة نافذة توحي بأفق مختلف عن داخل سلطانُه المعلم، والطباشير لم يعد طباشيرا فقد فَقًد ألوانه التي كانت بيضاء وحمراء وصفراء وخضراء ووردية، والسبورة السوداء ما عادت سوداء وما عادت قادرة على الإبهار والإدهاش بتغيير كتابة التاريخ اليومي في الأعلى بخط جميل، بالعربية كان أو بالفرنسية، الخط الجميل توارى. والدفاتر المدرسية ذات 12 أو 24 أو 48 صفحة بجدول العمليات الحسابية الثلاثة مطبوعة على الصفحة الأخيرة من الغلاف اختفت لتحل محلها الآلات الحاسبة الصينية، ودفاتر الاختبار ذات الغلاف الجلدي الأحمر والتي كانت حين توزع علينا مرة كل ثلاثة أشهر تثير فيّ ألما في البطن، ما عاد لها ذلك المكان في الخزانة السحرية التي كنت أتمنى أن أطل على محتوياتها ذات يوم، كان الأمر مستحيلا، فوحده المعلم كان يخرج مفتاحا صغيرا من جيبه فيعالج القفل ويخرج الدفاتر وممحاة السبورة التي كنا نتداول عليها كل يوم، لكل واحد منا دوره في محو السبورة، كنت أفرح حين يجيء دوري، لأنني كنت أجد في غبار الطباشير نكهة خاصة. والكتب المدرسية التي كانت تثيرنا بنصوصها ورسومها وألوانها، بهتت، سقط منها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ولافونتين والبحتري وطه حسين ومي زيادة وجورجي زيدان وأبو القاسم الشابي وفيكتور هيغو وزولا والمنفلوطي... جميعهم غادروا الكتب المدرسية التي امتلأت بنصوص الوعيد والتهديد والأيديولوجيا باردة المفاصل، اليوم أقرأ عشرات التقارير التي تقول بأننا لنا ربع مليون معلم ولكني لا أشاهد واحدا من هذا الربع مليون، لم ألتق بواحد من هذا الجيش العرمرم، لقد فقد المعلم ربطة عنقه الجميلة على قميص أبيض وعوضه بأي شيء أو لا شيء واستبدل زوج حذائه الأسود الملمع بعناية بحذاء رياضي أو نعل مطاطي يجره في رجليه جرا، وأصبح هذا الذي يسمى معلما في حاجة لمساعدة الجميع ولم يعد الناس في حاجة إليه، وأظلمت القرى وسادت الفوضى

مع كل دخول مدرسي أو نهاية سنة دراسية أقول: لقد ماتت الأسطورة الحية، مات المعلم. فمن يا ترى يستطيع، ذات يوم، بعث هذه الفينيقس من رماده؟

امين الزاوي


امين الزاوي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى