جابر عصفور - منهج الأهواني

لو سألت نفسي عن أكثر الأساتذة تأثيرا فكريا ومنهجيا عليّ من بين أساتذتي لقلت: إنه عبد العزيز الأهواني، عليه رحمة الله. لقد ورثت منه أولا الانتماء القومي فكرا وفلسفة. وقد كان أول عهدي بذلك عندما رأيته يرفض النظرية الإقليمية في دراسة الشعر العربي، وقوّض أصولها الفكرية التي تقول إن الطبيعة تلعب دورا رئيسيا في تحديد أدب كل إقليم وثقافته. وقد ذهب أتباع هذه النظرية إلى أن الطبيعة الجغرافية المنبسطة لمصر التي يزينها نهر النيل حددت طبيعة الإنتاج الأدبي والفكري لمصر التي لم تعرف من الأدب إلا أبسطه وأقربه إلى السمح السهل، ولا من الشعر إلا ما هو أشبه بنيلها العذب السلس على نحو ما نجد في شعر البهاء زهير. ولذلك لم تعرف مصر تعقيد بلاغة التفتازاني، وإنما عرفت بلاغة البهاء السبكي التي عمادها الذوق. وقد حاول المرحوم أمين الخولي في العشرينيات أن يصوغ أسس النظرية الإقليمية بكتابه “في الأدب المصري”. وقد ظل تلامذة الخولي ماضين على دربه إلى أن كتب عبد العزيز الأهواني كتابه “ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار” وخلاصته أن تقاليد الشعر لها من الأثر ما يؤكد أن تأثير التقليد لشعر التراث السابق أقوى من تأثير البيئة. ولقد آمنت بما قاله الأهواني إلى أن اكتمل وعيي المنهجي، فأدركت أن هناك علاقة جدلية بين البيئة والإبداع يتحكم فيها المبدع الأصيل الذي يتغلغل في المحلي ليصل إلى الإنسان العالمي.

ولكن إيماني القومي لم يتزحزح. وأظن أن الأهواني هو الذي هداني إلى قراءة كتابات ساطع الحصري الذي لا أزال اعتبره من أهم مؤسسي الفكر القومي. غير أن ما هو أهم من ذلك هو النزعة العقلانية السقراطية التي كان يشيعها الأهواني في كل من حوله. لقد كان يجمعنا في منزله كل ثلاثاء لكي نتناقش في الجديد من قضايا الأدب ومناهج النقد. وقد أخذت عنه نزعته العقلانية التي تحتكم إلى العقل وحده في تقبل الأفكار أو رفضها. أما نزعته السقراطية التي ورثتها عنه، فتتجسد في عدم قبول أي فكرة إلا بعد وضعها موضع المساءلة، وقد تعلمت من الأهواني أن طرح السؤال الحقيقي قد يكون أكثر أهمية من الإجابة، وأن أهم ما في مناهج البحث هو الجوهر الذي يبدأ وينتهي بالسؤال الذي لا يكف عن توليد الأسئلة.

وقد قادني ذلك إلى إدراك أن المساءلة المحايدة الحرة هي سر موضوعية المنهج. ولذلك وصلت إلى أن مفتاح السلامة المنهجية لأي بحث هي قدرة الباحث المزدوجة على أن يسائل موضوعه في الوقت الذي يسائل نفسه ومنهجه، لكي يتأكد من حياده المنهجي من ناحية، وموضوعية هذا الحياد من ناحية أخرى، وذلك بالمعنى المستخدم في العلوم الإنسانية، وهو المعنى الذي يقوم على مبدأ أن الباحث هو جزء من موضوع البحث. وهذا هو الفارق الجذري بين معنى الموضوعية في العلوم الطبيعية ومعناه في العلوم الإنسانية والاجتماعية.


جابر عصفور.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى