المكّي الهمّامي - يَخْلُقُ مِيتَافِيزِيقَاهُ الْخَاصَّةَ... شعر

أَدْخُلُ غَابَةَ نَخْلِي الشَّخْصِيَّةَ،
وَحْدِي،
أَتَخَبَّأُ فِي لَيْلِ الْهِجْرَاتِ...
وَأَجْدَعُ أَنْفَ الْوَحْشَةِ بِالذِّكْرَى...


يَسْتَيْقِظُ فِي أَعْمَاقِي وَلَدٌ،
مَا زَالَ يَنُوءُ بِوِزْرِ طُفُولَتِهِ النُّورَانِيِّ.
وَيَكْتُبُ، مَسْحُورًا، بِيَدَيْهِ الآثِمَتَيْنِ،
نُبَوَّتَهُ الأُولَى...!
يَكْتُبُ فِي فِهْرِسْتِ الْعُزْلَةِ مَا لاَ يُسْمَى...!


كَانَ الْوَلَدُ الْفَذُّ غَرِيبًا، يَخْلُقُ مِيتَافِيزِيقَاهُ الْخَاصَّةَ، مِنْ أَعْشَابٍ مُتَوَحِّشَةٍ نَبَتَتْ فِي جُدْرَانٍ مُتَـهَدِّمَةٍ مُتَسَاقِطَةٍ. يَنْسجُ، مِنْ أَحْلَامِ سَرِيرَتِهِ، وَطَنًا أَرْحَبَ مِنْ كُلِّ الأَوْطَانِ. وَيَسْرُدُ أُسْطُورَتَهُ الذَّاتِيَّةَ دَوْمًا، وَيُكَرِّرُهَا كَالْعَنْقَاءِ الْمَفْتُونَةِ بِالْعَوْدِ الأَبَدِيِّ...


كَانَ يُصِيخُ السَّمْعَ إِلَى مَوْجَاتِ الْبَحْرِ تَنَهَّدُ فِي أَحْضَانِ الشُّطْآنِ بَعِيدًا، فِي أَزْمِنَةٍ بِكْرٍ غَائِرَةٍ فِي الْمَاضِي السَّرْمَدِ، لَيْسَ تَعِيهَا ذَاكِرَةٌ بِالضَّبْطِ. وَكَانَ يُحِبُّ الأَزْرَقَ، يَعْبُدُهُ. وَيَرَى، فِي نَوْبَاتِ الشَّوْقِ القُصْوَى، سَمَكَاتِ الْمَاءِ تَقَافَزُ لَامِعَةً فِي الْخُلْجَانِ. وَيَسْمَعُ، مَشْدُوهًا، صَرَّارَ الصَّيْفِ يُغَنِّي مُنْتَشِيًا فِي أَشْجَارِ اللَّوْزِ، وَقَدْ حَانَ قِطَافُ مَبَاهِجِهَا...


هَذَا الْوَلَدُ الْجِنُّ شَقِيٌّ بِفَرَادَتِهِ،
مَغْمُورٌ بِغُبَارِ الدَّهْشَةِ...
فِي قَلْبِهِ مَحْفُورٌ طَامُورُ الأَقْدَارِ،
وَمَسْطُورٌ فِيهِ مَصِيرُ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ،
إِذَا احْتَرَقَا وَجْدًا وَحَنِينَا...


كَانَ يُضِيءُ الدَّيْجُورَ الأَعْمَى بِلَآلِئِهِ، إِذْ يَكْتُبُهَا شَبِقًا بِالْخَلْقِ، وَمَفْتُونًا بِمَنَاسِكِهِ الْحُسْنَى. يَقْطِفُ مِنْ مِنْقَارِ الطَّيْرِ فَوَاتِحَ فَرْحَتِهِ فِي الأَفْجَارِ. وَيَرْشِفُ مِنْ نَهْرِ الأَكْوَانِ الْهَادِرِ، مُوسِيقَاهُ الْحُرَّةَ [تُولَدُ دَافِقَةً صَاخِبَةً مُتَلَجْلِجَةً، مِنْ رَحِمِ الأَرْضِ، وَمِنْ جَوْهَرِ عُنْصُرِهَا الْحَيِّ، وَمِنْ سِرِّ الأَسْرَارِ الْكَامِنِ فِيهَا...!]


الأَخْضَرُ فِي وَرَقَاتِ التِّينِ،
رِسَالَتُهُ الْمَخْطُوطَةُ فِيهَا أَطْوَارُ مَتَاهَتِهِ...
وَالأَحْمَرُ فِي بُسْتَانِ الْعِنَبِ الأُسْطُورِيِّ الْقَانِي،
خَيْبَتُهُ تَكْبَرُ فِي الأَكْوَانِ. وَتَزْدَادُ صَفَاءً،
إِذْ تَكْبَرُ، تَزْدَادُ شَبَابًا كَالْخَمْرَةِ فِي الأَزْمَانِ...
وَفِي أَبْيَضِ نَرْجِسِهِ،
تَتَجَلَّى أَقْمَارُ بَرَاءَتِهِ...


وَيَكَادُ يَرَى الأَنْسَاغَ تَصَاعَدُ ضَوْءًا،
فِي أَغْصَانِ الشَّجَرَاتِ، وَتَجْرِي فِيهَا
مَجْرَى الدَّمِّ. يَكَادُ يَشُمُّ عُرُوقَ النَّعْنَعِ،
فِي رَسْمٍ أَبْدَعَهُ بِأَصَابِعِهِ الْمَلْعُونَةِ دَوْمًا،
وَيَكَادُ تَوَهُّجُهُ يَبْرُقُ كَالْمِشْكَاةِ،
فَلَيْسَ يُرَى مِنْ هِيْئَتِهِ إِلاَّ لَهَبٌ يَأْكُلُ لَهَبَا...!


وَيَكَادُ، يَكَادُ، يَكَادُ، لِفَرْطِ الإِثْمِ يَصُوغُ مِنَ الأَطْيَانِ مَمَالِكَهُ الْكُبْرَى فِي الْوَهْمِ. وَيَزْرَعُ، مَزْهُوًّا، زَهْرَ الأَبَدِيَّةِ فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ. وَيَنْثُرُ يَاقُوتَ الْفَجْرِ عَلَى بَحْرِ الظُّلُمَاتِ السَّاجِي...!


الجنوب التونسيّ

المكّي الهمّامي
ديوان/ ذهب العزلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى