طالب عمران ـ زوار من كوكب بعيد

تأمل قبة السماء والنجوم فأحس بسيل من المشاعر يتدفق في شرايينه... تمدد على ظهره فوق البساط المفروش بعناية على سطح البناء الشامخ نحو الجو... وعقد يديه تحت رأسه واستسلم لشروده ينتقل عبر هذه الرحاب اللامتناهية.. داهمته مشاعر من القلق وهو يفسر شروده عن واقعه بالرغبة في الهرب والانفلات من هذا الكوكب الذي يعج بالتناقضات.. أحس ان قوة خفية تشده نحو عالم آخر رغب بالولوج في اعماقه يستكشف مجاهله، ويبحث عن نقطة ضوء تعطيه اشارة البدء بالتفاؤل.

نسمة رطبة دغدغت اطرافة العارية فارتعش وتقلصت اصابعه المتشابكة... وشده نجم بعيد في اطراف المجرة إلى رحابه يسبح بين الأثير بسرعات خيالية متخذا من خياله سفينة بحث، انعتقت من جاذبية العالم الضيق كالحجر وانفلتت في الفضاء البعيد تبحث عن كائنات لم تتلوث مشاعرها الرقيقة بالشر والبغضاء.. كم هو بعيد ذلك النجم؟... قد تبعد أرضنا عنه عشرات من السنين الضوئية لعله محاط بكواكب عديدة تدور في أفلاك خاصة حوله لعل بعضها يعج بأنواع غريبة من الحياة، ما الذي يمنع وجود مثل هذه الحياة في اماكن أخرى في الكون؟.. ‏

أحدث معطيات العلم ومكتسباته تؤكد وجود هذه الحياة في كواكب عديدة وبأشكال مختلفة.. ‏

أزيز خفيف تناهى اليه وهو في رقدته.. لم يلق اليه بالا، كأنما لذ له هذا الشرود العذب في التحليق عبر نوافذ الكون المفتوحة.. ‏

* اسعدت مساء أيها الصديق... ‏

فاجأه الصوت الرقيق فالتفت يتأملها.. غادة حيفاء ترتدي بذلة من قطعة واحدة كبذلات العاملات.. نهض يرحب بها. ‏

* لم يكن بودي تعكير خلوتك.. ولكن حادثا طرأ على حوامة البحث الخاصة بالمعهد العالي لعلوم الفضاء اضطررنا للجوء اليك. فشهرتك في الهندسة التكنولوجية لا تعادلها شهرة في عالم آخر... ‏

بأسرع ما تمكن ارتدى هندام الخروج. بينما اكملت الفتاة: ‏

* الحوامة معطلة قريبا من هنا.. في الساحة المجاورة لحيكم.. ‏

هبط مع الصبية وقد انتابته احاسيس غامضة عن هذا الحدث الطارئ الذي عطل عليه احلامه بالهروب من هذا العالم، كان ما في عيني الصبية من عذوبة قد قطع خيوط التردد في اعماقه.. هبط السلالم وما ان اصبحا في الشارع حتى استقبلهما كهل بشوش الوجه ذو لحية كثيفة يختلط بياضها بسوادها وقد اعتمر قبعة رمادية ولباسا قرمزي اللون من قطعة واحدة.. كثوب الفتاة... ‏

في فسحة مهجورة من الأرض لمح مركبة غريبة بيضوية الشكل تستند على ثلاث قواعد وتتحرك في اعلاها شواخص طويلة بحركة متواترة لم يتمكن من العثور على أي شبه بينها وبين أية حوامة فوق هذا الكوكب.. قال في نفسه: ‏

«لعله اختراع حديث العهد. .لأوطن نفسي على سبر اغواره لعلني احظى بفائدة علمية». ‏

قالت الفتاة: ‏

*العطل في جهاز الاستقبال الضوئي هنا في قمرة قائد الحوامة ثم اشارت بيدها إلى غرفة ضيقة مكعبة الشكل طول ضلعها أقل من مترين عجت جدرانها بأجهزة وشاشات صغيرة تتذبذب عليها خطوط المنحنيات الجيبية. ‏

قالت الفتاة: ‏

أدار الكهل قرصا صغيرا على أحد الجدران فانبعث ضجيج من محرك هدر فرج الغرفة رجاً.. وقال بصوت خفيف «هذا هو العطل، ضجيج غير مفهوم لمحرك مبني على الصمت». ‏

جلس على المقعد المزود بأجهزة وأقراص دائرية كبيرة، وقد ذهل لما رآه من تطورتكنولوجي.. وما ان جلس وعبث بأحد الأزراز حتى بدأ خدر خفيف يدب إلى جفنيه فبدأت ذاكرته تنتعش وأحس انه يغيب في حلم عذب يتمدد عبر سحابة بيضاء.. بدأ يجللها الشفق... ‏

لم يتمكن من استجلاء ملامح الأشياء المنتشرة حوله في البداية، إلا أن ذاكرته بدأت تنتعش. أحس ان قوته غير محدودة.. انبسطت امامه مساحات شاسعة وتشابكت الذكريات والصور.. ملامح البشر تظهر له من تحت عدسة ميكروسكوب هائل الحجم.. مصادفة توقف امام امرأة جميلة تسير في شارع مكتظ الشجر.. حفيف ملابسها الحريرية يتناهى إلى سمعه.. طاف على سطح جسدها، تمكن من الايغال في ذاكرتها.. قرأ ما تفكر به كأنه يقرأ في كتاب مفتوح.. كان تفكيرها ينحصر بقصر ضخم مليء بالخدم والحشم والأسرة المريحة والرياش الفاخرة. انفلت مسرعا يعانق المناظر الخلابة الممتدة حوله. طالعته مدينة مفروشة على سفح جبل أجرد اشرأبت مآذنها وقبابها تعانق السحب.. تأمل أهالي المدينة في غدوهم ورواحهم.. حركاتهم المقرونة باللامبالاة.. عيونهم الذابلة واذا بهم فجأة يحدقون في الجو بأبصار شاخصة استغرب الأمر لاسيما ان اعدادهم تضاعفت بحيث كونوا مجموعات صعدت على الأسطح والمناطق المرتفعة.. تأمل الجو بقواه غير المرئية.. كان الفجر يهل والشمس لم تظهر بعد، والشفق الدموي يغطي الأفق جهة الشرق.. بدأت تصله اصوات ناعمة ونغمات موسيقية عذبة.. الجماهير تتدفق إلى الشوارع والموسيقا تزداد عذوبة ونغما فجأة طالعه في الجو منظر غريب فجر في ذهنه أحاسيس من الدهشة والتعجب مركبة فضاء ضخمة تقف في أعالي الجو.. وأشرطة ملونة تتمايل مع النسيم.. وحولها تدور عربات صغيرة بأفلاك دائرية مختلفة القرب والبعد.. تناهى إلى سمعه صوت ضخم كأنه ينبعث من مكبر للصوت.. ‏

ها قد أتينا إليكم يا سكان المدينة القديمة للمرة الثانية خلال (50) عاما من اعوام كوكبكم، نحن من كوكب الشفق في الطرف الآخر للمجرة.. رغبتنا في المجيء في زيارة خاطفة لتحذيركم من ظواهر غريبة امتدت جذورها في مجتمعاتكم وهي المؤشر الواضح على كارثة كبرى ستعم هذا الكوكب.. ‏

الأفضل لكم ان تتبينوا ما حولكم: الاتجاه الحقيقي للعدالة والاتجاه الزائف لها.. نغمة البغضاء والكراهية والانانية والعدوان المسيطرة على اذهان القلة الحاكمة لكم... فقد اندثر كوكب من كواكب مجموعتنا النجمية بظواهر مشابهة إذ تحكمت القلة بأرواح الكثرة.. وفرضت اضطهادا شديدا وأجهزة مرعبة لحفظ الأمن كان من جرائها ان هبت الأغلبية في حرب على الظلم.. ولكن بعد فوات الاوان... إذ ان ما توصلت إليه الأقلية من اختراعات فاق الحدود كانت النتيجة ان انفجر الكوكب برمته... ‏

*وماذا لفت نظركم عندنا؟ ‏

* مدينتكم هذه ذات المعالم القديمة والجمال المدهش ينتشر في شوارعها الناس وقد اصفرت وجوههم ونحلت اجسادهم ووهنت نظراتهم... الجوع يقرأ في عيون الأطفال وفي ملامحهم.. وهذه اولى ظواهر اضطراب الوضع المعيشي للناس... الغلاف الجوي يصبح فوضويا وغير منظم، وبفضل صناعاتكم وتقنياتكم الملوثة وهذا ما يهدد مستقبل الحياة على كوكبكم. ‏

انحدر الشاب المقنع بقناع سميك بعربته الصغيرة، هابطا من السفينة في احدى الساحات الخالية من الناس.. فتجمع الصغار حوله وبدؤوا يتأملونه بحذر.. وفجأة اعتلى رجل متين البنية احد السقوف القريبة من الساحة وصعد بصره في الجموع التي احتشدت حوله وهتف بصوته الرنان... ‏

«انه لأمر غريب حقا ان نظل ساكتين، خلال هذه المدة الطويلة ننتظر العدالة ان تأتي إلينا دون ان نناضل في سبيلها...» ‏

وتقدم مسرعا إلى الشاب المقنع من كوكب الشفق وقال: ضع يدك في يدي لنعيد العدالة إلى هذا الكوكب البائس.. ‏

أجابه المقنع بهدوء: ‏

* استفد من أخطائك ووجه الناس بالوعي.. واقتلع جذور التخلف.. الاصلاح لوحده لا يفيد.. ‏

غادر المكان بتخيلاته وبدأ ينحسر عن نور المدينة البائس أحس انه في سبيل فقدان الوعي.. وفجأة وجد نفسه ممددا فوق السطح وقد تخشبت يداه المتشابكتان تحت رأسه وتقلصت رجلاه من البرودة المتسللة في جنح الليل.. نظر إلى ساعته فوجد ان الصباح قريب. فعاد يحدق النظر في النجم البعيد.. وقد اختلطت في ذهنه المشاعر.. ‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى