يحيى فضل الله - إبرة

حين زغردت (البقيع) زغرودتها الأولى، هي زغردت ثلاث مرات، الأولى مشروخة ومرتجفة بعض الشيء لكنها كانت مسموعة لدرجة أن شوارع الحلّة وأزقتها امتلأت بالنساء المهرولات صوب بيت (البقيع) بالقرب من الدونكي، وحين دخلت (البقيع) في زغرودتها الثانية؛ هرب زوجها (عبد العزيز) إلى داخل الغرفة دون أن يمسح عن أصابعه آثار مُلاح الخضرة، بينما الجيران القريبون يمارسون تفاصيل فضولهم في الحوش، وكانت الطاحونة تنثر الدقيق خارج القفة لأن (آدم) الطحان هرول بين الزغرودة الأولى والثانية بعد أن لاحظ أن المكان خالٍ من الزبائن، وحين نظر زوجها من شباك الغرفة؛ كانت (البقيع) قد تهيأت لزغرودتها الثالثة والأخيرة، بينما همست (رقية) جارتها في أذن (كلتوم) المشّاطة: «يا اختي ما كان أخير ليها الزار؟».
وزغردت (البقيع) زغرودتها الأخيرة، وتمايلت مع الزغرودة الطويلة والمتقطعة، بمعيار ما يتناسب مع حركة عنقها الراقصة، وصفقت بيديها وقالت: «راجلي عبد العزيز حيعرس وأنا قبلانا»!
وجرّت (كلتوم) المشَّاطة (رقيَّة) من يدها متجهة نحو الباب: «ياختي ها، نمشي نكمل ليك المشاط ده»!
كان (عبد العزيز) زوجها داخل الغرفة يتابع تفاصيل خروج كل هؤلاء البشر الذين جمعتهم (البقيع) بالزغاريد من خلال الشباك، منتظراً أن يخلو الحوش من كل الحلّة كي يفكر في موضوع آخر، وكانت (البقيع) توزِّع ابتساماتها علي الجميع، وقد تم ترتيب جلسة قهوة تحت الراكوبة، وأطفال يتراكضون في الحوش، وسماسرة السوق بضجتهم العالية حول الربح والخسارة، بطّة الجيران ومعها صغارها تستبيح طشت الغسيل قرب الحمام، شلّة من الشباب يتلصصون على أجساد النساء، لعبة (بلِّي) يتحلق حولها عددٌ من الصبية، (كديسة) ناس (حسين) تحاول اصطياد عصافير (ود أبرق) من عشها في تفاصيل ما قبل المغرب، جمع من الفتيات يلعبن (نطّ الحبل)، (عبد الله) الحلّاق يستمتع بذقن الحاج (هارون) تحت شجرة النيم، (الدومة) بائع (الأقاشي) في غلاط ومغالطة مع (سمير الحلبي) بينما يحاول (تيّة) فض النزاع، (الضي) كاتب الدونكي في عالم من النظرات والابتسامات مع (خديجة البقاريّة)، (أتيم قاك) يسرّب خطاب عشق ملتهب بعد أن دسّه بين أصابع (كاكا) التي عادت إليه بعد قليل لتقذف أمامه على الأرض بخاتم على شكل قلبين، (آدم خجيجه) يشعل ضحكات النساء وهو يتوسّط جلسة القهوة «بحرفة» واضحة بالتظاهر بالأنوثة، (البقيع) تصرُّ أن تودع كل الحلّة حتى الباب ذاهبة راجعة، راجعة ذاهبة، وابتسامتها تحاول أن تؤكِّد معنى القبول، تضايق (عبد العزيز) حين رأى (بريمة) بائع (الطايوق) و(الكرشة) مخموراً يتلذّذ بالتفاصيل، و قرّر أن يخرج من الغرفة حين رأى الحاج (هارون) بائع البصل والبهارات ومؤذّن الجامع وقد هُيّئ له مرقدٌ مريح على عنقريب مفرّش تحت شجرة النيم مع مدّه سريعاً بالخدمات، و(البقيع) انضمت إلى جلسة القهوة تحت الراكوبة واشتعل في المكان نقاش أنثوي حميم ومتآلف قادته (البقيع) مؤكِّدة على ضرورة الإنجاب وأن الدنيا بدون أطفال لا تحتمل، تؤكِّد ذلك بين فترة وأخرى وهي تضرب بالهاون على الفُندك، تؤكِّد قبولها زواج زوجها لأنها هي العقيم، وكان (عبد العزيز) وقتها قد تسلّل إلى الخارج دون أن يحسّ به أحد.
«يوم داك تخلّي لينا بيتك وتمشي؟»
داهمه حاج (هارون) بعد يومين من ذلك الحدث الزغرودة، همس (عبد العزيز) لنفسه: «فتّاح يا عليم رزاق ياكريم»..
«ما قلت ما في داعي الزول يظهر وكده»
وتحرّك (عبد العزيز) بهمّة مفتعلة وخرج من داخل الدكّان وهو يحمل صندوقاً خشبياً ليضعه أمام حاج (هارون)، الذي جلس بعد أن تجشأ وهو يمضغ (القورو) الذي يبين لونه البرتقالي في شفتيه وأسنانه، ويمكنك ملاحظة أن الحاج (هارون) يملك في هذه اللحظة لساناً برتقالياً وتخرج الكلمات من فمه في ذات اللحظة التي يمضغ فيها.
«يا هو رجيناك بالعشاء وبعد داك قلنا نمشو»
أحضر عبد العزيز صندوقاً ليجلس عليه بنصف مواجهة مع حاج (هارون)، ساد الصمت فترة طويلة احتلها صوت مضغ الحاج (هارون) مع همسات داخلية ل(عبد العزيز) يلعن فيها هذا الصباح النحس، وخرجت جملة بين المضغ:
«أها يعني نويتو على شنو؟»
«والله ياحاج هارون البقيع مرة ممتازة وذات خلق لكن كمان أنا عايز الجنا»
«أي نعم»
«أها وهي قبلانا»
«نعم نعم، هي قبلانا»
«وأنا ما بعمل حاجة خارج الشرع»
«أي نعم صدقت، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، يعني خلاص نويت؟»
«إن شاء الله»
«يعني نقيت؟»
«والله لسه في مشاورات»
«ما هي يعني بنية من الحلّة؟»
وقبل أن يرد (عبد العزيز) ظهر الأستاذ (صابر) المدرِّس بمدرسة الحلّة فدخل معه (عبد العزيز) إلى الداخل بعد أن اكتفى الأستاذ (صابر) بأن يلقي السلام الذي ردَّ عليه الحاج (هارون) بحياد
«ورحمتو وبركاتو»
الأستاذ (صابر) وعلى عجلة من أمره تناول علبة سجائر (بحّاري) ليترك (عبد العزيز) يقيّد ثمنه على الدفتر وخرج مسرعاً خوفاً من مداهمة حاج (هارون) الثرثارة واستطاع أن يتفادى جملة ذات تجشؤ ماضغ:
«متين اجتماع مجلس آباء؟»
«بكرة»
وحين التفت الحاج (هارون) ليتابع الأستاذ (صابر) وجده سريعاً ما انحرف نحو الزقاق.
(عبد العزيز) يحاول التظاهر بالكتابة على الدفتر وظهره في اتجاه الحاج (هارون) ليوحي له بأنه مشغول ولكن الحاج (هارون) كان قد تحرك من مكانه وانضم إلى وقفته تلك داخل الدكان وأحس (عبد العزيز) بصوت المضغ قريباً من أذنه.
«إنتَ مش داير حنان بت رحمة؟»
«أيوه، إنت عرفت كيف؟»
«فوق كل ذي علم عليم، ما كلمتني القبلانا»
وخرج الحاج (هارون) من داخل الدكّان بينما (عبد العزيز) يتشاغل بترتيب الرفوف، وقبل أن يصل الحاج (هارون) إلى باب الدكان التفت إليه قائلاً:
«خلاص نتغدو الليلة معاك ونشوف»
أخرج (عبد العزيز) (الحقّة) وكشح في فمه (سفّة) الصباح التي أضاعها الحاج (هارون) بمداهمته المبكرة وخرج من الداخل وجلس على الصندوق منتظراً أن يمر (ود أمروّابه) بائع الشاي المتجوِّل.
من ذلك اليوم الذي أشهرت فيه (البقيع) قبولها بزواج زوجها أصبحت الحلّة تناديها بلقب (القبلانا)، في البداية كانت الحلّة تناديها ب(البقيع القبلانا)، ورويداً رويداً أصبح اسم (القبلانا) يكفي تماماً لتحمُّل عبء شخصيتها.
في ذلك العصر الذي زغردت فيه (البقيع) تلك الثلاث زغرودات كانت قد عبرت العشر سنوات وبضعة أشهر وهي زوجة ل(عبد العزيز) ولم تستطع هذه المدّة أن تمنحها الولد، وكانت قد جربت كلّ الوسائل والطرق المحتملة لتبديل عقمها إلى خصوبة، حتى الوسائل الحديثة من فحوصات وأطباء لم تفعل شيئاً سوى تأكيد أنها العاقر وليس زوجها وكان ذلك في عامها الثامن من الزواج وكانت جرّبت قبل ذلك كل شيء، شربت لبن الحمير بفتوى من الفكي (نورين) كلّفتها عدة زيارات إلى الحلة المجاورة، كانت حفلات الزار تخصّها (البقيع) بتلك القدرات الفنيّة العالية في الرقص والرقص الحرّ المنفلت، و(البقيع) فارعة وممشوقة كسهم، وكان قياس عمرها يرتبك لدى الذين يشاهدونها لأول مرّة فيظنون أنها في العشرين بينما هي قد تعدت الأربعين بقليل!
اختلطت الدروب على (البقيع) كي توصلها خصوبتها، كانت تقاتل العقم وهي تستحم بجردل من (المحاية) وتغسل مكامن أنوثتها بتعويذتين من مختارات الحاج (هارون)، ركبت (البقيع) اللواري نحو الصعيد كي تدخل (كركور) في جبل كي يذبح أمامها تيس أسود بغرة بيضاء كي تشرب من دمه بينما الشيخة العجوز صاحبة (الكركور) تستعد لدلك جسدها بخلطة من الأعشاب. وفي السافل كويت بالنار في مناطق غريبة من جسمها مثل كيّها في الإبطين.
وفي غمرة بحثها عن خصوبتها لم تنس (البقيع) أن تتولى ردود أفعال (عبد العزيز)، بل إنها كانت سقته الشاي مع إضافة قطرتين من زجاجة عطر صغيرة قال حاج (هارون) إن بها عطراً سحرياً من بلاد (شمهروش)، وحين سألته البقيع عمّن هو (شمهروش)؛ قال إنه صحابي من الجان المسلم. وأحيانا كانت «تلقِّم» الشاي على (المحاية) كما أوصتها (كلتوم) المشّاطة وتولّت (البقيع) مظاهر قلق (عبد العزيز) بنوع من الحنيّة وجميل التعامل.
كانت (البقيع) حين تخرج ل(كنتين) الحلّة لشراء حوائجها تتابعها العيون المتلصِّصة والبعض يلوذ بأنفه ليشم رائحة (الكَبَريت) المنسربة مع النسمة، كانت (البقيع) جميلة ولكنها تحسّ بأنها ناقصة وعقيمة لا تملك أن تعطي الحياة لطفل ولكنها توحي بالحياة.
قال (عبد العزيز) بعد أن تمت إجراءات اتفاقه مع (رحمه) النجّار، وبعد أن تم تحديد موعد زواجه من (حنان رحمه)
«أنا قلت يا البقيع ما نعمل حفلة»
«ليه مالك ما بتعمل حفلة؟ تعملها وأنا أرقص ليك كمان»
«لا ما بس....»
«بعدين البنيّة ذنبها شنو؟ يا أخوي يا دوبك عشرين سنة ودايرة تفرح بي عرسها»
«ما شكلها كدي يا البقيع ما.....»
«هي يا عزّو أبعد لي إنت من العرس ده، بس استلم مرتك وأنا الباقي بَجيِّهو»
وجيَّهت (البقيع) حفل زواج زوجها ورقصت حدّ الانتشاء ولم تنس أن تلاحق تحرُّكات زوجها بزغاريد وزغاريد، رقصت على السباتة رقصة الرقبة مع عروس زوجها التي لم تستطع أن تجاريها في رقصها المنساب فهرولت من السباتة وسط استمتاع جمهور الحفل برقص (القبلانا) وتمايلات قوامها الرشيق وإغماضة عينيها وهي تروّض الإيقاع بعنقها والوجه الأسمر الجميل يحتفي بمسيرتين كترميز لشعرها الغزير والطويل.
حين انتهى الحفل أحسّت البقيع بأنها وحيدة وأن البيت فارغ وخال من (عبد العزيز) الذي ذهب إلى دخلته على زوجته الجديدة، وداخل غرفتها في الساعات الأولى من الصباح كانت (البقيع) تحاول التآلف مع بكاء عميق ومتهدّج.
في ليلة خريفية والقمر يمارس تسلُّله خلف وبين السحب وأصوات الضفادع في طقس الخصوبة الاحتفالي كانت (البقيع) قد جلست على الأرض وظهرها على حائط غرفة زوجها وضرّتها (حنان) والشباك فوق رأسها تماماً والليل قد دخل إلى منتصفه بزيفة باردة، وكلّما تعالت الهمسات من داخل الغرفة كانت (البقيع) تقف وتحاول أن ترى بدل أن تسمع وتتهاوى بإعياء حين تنخفض الهمسات ويلفح وجهها الباكي شعاعٌ من القمر وتختفي (البقيع) خلف الحائط الآخر الخلفي للغرفة حين خرج (عبد العزيز) وهو يحمل معه الإبريق متجها إلى (الأدبخانة)، كانت (البقيع) تختفي خلف الغرفة وأنفاسها تلهث من الخلعة، تحسّ بوخز الحائط على ظهرها من شدّة ما التصقت به وسمعت (عبد العزيز) يدندن بأغنية وهو يخرج من (الأدبخانة)، مدّت رأسها قليلاً بجانب الحائط لتلاحظ أنه يرتدي (عرّاقي) خفيفاً وضوء القمر أكّد أنّه لا يلبس لباساً داخلياً، وحين اختفى (عبد العزيز) عن زاوية نظرها قبعت (البقيع) في مكانها لأنها توقعت أن تخرج (حنان) أيضا إلى (الأدبخانة) و قد كان أن خرجت بعد ثوان من دخول (عبد العزيز)، تتابع (البقيع) من خلف ذلك الحائط (حنان) وهي تتهادى في غلالة شفيفة تمتصّ وتعكس أحيانا ضوء القمر، تذكّرت أنها كانت قد اختارت لها فستان النوم هذا حين جهّزت مع (عزيز) الشيلة، تتنهد (البقيع) وتجلس باسترخاء متوتر على الأرض منتظرة نوبة جديدة من تلك الهمسات.
(البقيع القبلانا) تستقبل وفود الحلة المهنئة بتوقع مولود لزوجها و(حنان) بابتسامة واضحة و معلنة بل إن (حنان) تركت لها هذه المراسم لترقد باسترخاء كأميرة على عنقريب المخرطة المفرّش بالقرمصيص تحت الراكوبة وقد بدأت الاستعدادت لجلسة قهوة وجاء الحاج (هارون) قبل الغداء بقليل وجلس كما دائماً تحت شجرة النيم لتصله المشروبات الباردة كمشهّيات لغداء لن يشاركه فيه حتماً (عبد العزيز) صاحب البيت.
تابعت (البقيع القبلانا) مراحل (حنان) الحبلى بعناية مكثّفة فكانت تطبخ وتنظف وتقش الحوش و تغسل ملابس زوجها وملابس زوجته وكانت سرعان ما تستجيب لطلبات الوحم من (حنان) وكانت تؤانس (حنان) في القيلولة وهي تفصل ملابس المولود القادم من قماش ساكوبيس أبيض وتستمر تحيك بالإبرة الخيوط و(حنان) تدخل منطقة نومها وتبقى (البقيع) تخيط بالإبرة على قطعة القماش الأبيض الصغيرة في يدها وحين حدّقت مرة في وجه (حنان) النائم المطمئن وخزتها الإبرة في أصبعها فخرجت من الراكوبة.
(البقيع القبلانا) توزع ابتساماتها و ضحكاتها الصاخبة على الجميع في يوم السماية، كانت الحلة كلها في حوش (البقيع) وأتحفت (عفاف الغنايا) تلك الظهيرة بغناء عذب ومنفلت على الدلوكة ورقصت (القبلانا) كما لم ترقص من قبل وكان (آدم خجيجه) قد كشف ورجف وأخذ الدلوكة من (عفاف الغنايا) ليدخل الجميع في رقص جنوني وهستيري قادته (القبلانا) وكان الرجال في الديوان وخارجه يتناثرون على الجانب الآخر من الحوش وقد يتجرأ بعضهم ويتحلّق حول الراكوبة للاستمتاع بالرقص والغناء، وبحرفة مدرّبة كان الحاج (هارون) يجلس باسترخاء على العنقريب تحت شجرة النيم في المنطقة الوسط بين تجمع النساء وتجمع الرجال واستطاع أن يطرد بعض الأطفال الذين حاولوا مزاحمته على ظل النيمة ليلعبوا (صفرجت) وكان وقتها يلتهم بنشوة ملاحظة صحن كبير من (المرارة) كاستعداد للغداء.
حين كانت الراكوبة تضجّ بالصخب ودخل الغناء النسائي مراحله الحرّة إلى درجة الارتجال كان (عثمان) المولود الجديد يصرخ بشدّة وكانت (البقيع) قد تخلّت عن رقصتها لتنبّه (حنان) لبكاء الطفل و من ثم عادت لرقصتها و(آدم خجيجه) يتابع حركات جسدها مستنطقاً الدلوكة.
(عثمان) يصرخ ويصرخ، صرخات حادة ويتلقفه (عبد العزيز) كي يسكت، ارتبك الاحتفال، استيقظ الحاج (هارون) من غفوته المتخمة، الطفل يصرخ و يصرخ، تهدهده أمه ولا يسكت، (البقيع) حاولت إسكاته، لا فائدة، أرقدوه على بطنه ليتجشأ اللبن ولا فائدة، وأخيراً تشنّج وصمت فجأة وفارق الحياة بين يدي أمّه، مات (عثمان) في يوم سمايته بهذه الطريقة الغريبة والمفاجئة!
حين كان الناس يحاولون امتصاص هذا الموت المفاجئ والفجائي، يدخلون ويخرجون و(حنان) تحتضن ابنها الميت بعنف بينما يحاول البعض أخذ الطفل ولكنها تتشبث به وكأنها تحاول أن تعيد إليه الحياة ولا تملك إلا بكاءها المتشنّج المتواصل و(عبد العزيز) صامت كتمثال، و(البقيع) لا تعرف السكون تتحرك هنا وهناك بلا هدف، تدخل وتخرج من غرفتها، تدور في الحوش، ترجع لتدخل مرة أخرى واختفت فجأة داخل المطبخ وما هي إلا دقائق حتى سمع الناس صرخة حادّة وطويلة وحين تبيّنوا مصدر الصرخة وجدوا (البقيع) تقف أمام باب المطبخ وقد أشعلت النار على جسدها وكانت تصرخ وقد بدأت تركض في الحوش، تركض مشتعلة، ركضها يزيد النار اشتعالاً، تركض متّحدةً مع النار، وكان البعض يركض وراءها، يحاولون الإمساك بها كي يغطونها بالهدوم والملاءات وكانت النيران قد تمكّنت من شعرها الممشّط الغزير، وحين دمدموها بالملابس كانت (البقيع القبلانا) قد اشتعلت حتى الموت.
قبل موت (عثمان) وقبل اشتعالها كانت (البقيع) قد تركت حضورها الراقص وابتسامتها الواضحة وضحكتها المميّزة في تفاصيل ذلك الاحتفال وتسللت إلى غرفة (حنان) و(عبد العزيز) حيث يرقد (عثمان) المحتفى به، جلست بقربه على السرير، أخرجت من بين شعرها الممشّط إبرة، وقفت لتغلق الباب، عادت لجلستها على السرير وهي تمسك الإبرة في يدها اليمنى وتتحسّس رأس الطفل باليد اليسري، غرست الإبرة في الرأس اللين، غرستها كلها بحيث اختفت داخل الرأس تماماً و لم تنس أن تكتم على صوت الطفل، فتحت الباب، خرجت كقذيفة لتدور حول الجهة الأخرى بحيث لا يراها أحد، وعادت (البقيع القبلانا) إلى حلقة الرقص وكانت ترقص بصخب وبابتسامة واضحة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى