جورج سلوم - استنساخ ملك!!

اعترض الملك الذي لم ينجب على تسمية أخيه كوليّ للعرش .. كان يريد الاستئثار بالحكم في ذريته وذراريه حصراً

لكنه كان عقيماً صفريّ النطاف .. مخصيّا ولو لم يُخصِه أحد ..

وفشلت كل الطرق العلاجية في استزراع طفل من صلبه .. ولو حقنوا نطافه في كل نساء المملكة ذوات الترب الخصبة

وفطن طبيبه المقرّب للأمر الجلل .. وأشار عليه في جلسة سرية باستنساخ الوريث من خلايا جسمه والأمر علمياً سهل .. وينقصه إصدار قانونٍ يجيز ذلك ..وأنت ياسيدي ربُّ القوانين ومَصدَرَها ..بل و مُصدِرُها ومُصَدِّرُها أيضاً

فلا قانون عليك .. والدستور تفصّله على مقاسك .. فقط أعطنا الأمر فننفذه ويبقى سرياً بيننا .. وقل للمختبر العلمي كن فيكون !

واستساغ الملك الفكرة .. وأعجبه المديح الذي يحمل صفات الآلهة .. فهو العظيم وسينبت له عظيمٌ مشتقٌّ منه ..مستنسخٌ عنه .. وصورة طبق الأصل .. ذكرٌ حتماً ويشبّ كشبابه .. يحيّده عن أخطائه وهفواته التي خبرها .. ويهديه للطريق القويم الذي جرّبه .. كأنه يعيد شبابه ثانية كما يهوى ويحب ..دمٌ من دمائه وخلية من خلاياه .. نور من نوره وروح من روحه .. بل هي هنا روحه نفسها وتُبعث من جديد

بالتالي إن مات فلن يموت .. هنالك نسخة أخرى منه .. إنه نوعٌ من الخلود !!

وفكر الملك بالأمر ملياً .. وراقت له فكرة الخلود التي سعى إليها الملوك منذ عهد الفراعنة .. فرفع رأسه وتلمّس التاج الذي يعلوه .. لكنه مالبث أن استشعر الضعف .. فقال:

-ولكن الفتى المبعوث مني سيكون عقيماً أيضاً .. أليس كذلك ؟

أجاب الطبيب الميّال للتجربة وعلى من؟.. على الملك شخصياً :

-لا بأسَ يا مولاي .. فليكن ذلك .. وابنك سيَستنسِخُ بعدها ملكاً يخلفه ويكون صورة عنك أيضاً ..وهكذا ..فتحكم أنت شخصياً إلى الأبد.. دام عزك ومجدك إلى أبد الآبدين .. آمين

أطرق الملك إلى الأرض وهو نادراً مايفعل ذلك .. إذ يخاف أن ينقلب التاج الثقيل المرصع بالجوهر .. الفكرة رائعة ولكنْ ..

ماذا لو اكتشف الرّعية ذلك ؟.. سيستشعرون الضعف في ملكهم ذي الهيبة والسلطان .. أمعقولٌ أن تخفي كل تلك السطوة عقماً لا حلّ له ؟ .. وأبسط الرجال في المملكة ينجب وينجب لولا تحديد النسل القسري

وماذا لو كان الأمر مؤلماً ؟.. وهو لا يحب الألم ..يمقت الجراحة وحتى إصلاح الأسنان .. لم يعتد على الألم منذ ظهرت نواجذه وأنيابه .. فالألم ليس للملوك .. هم يصنعون الألم ويوزعونه كعطيّة ملكية

الأمر بكلّيته معقّد وجديدٌ عليه .. ويحتاج تفاصيلَ أكثر ليُجيب .. عادة يطلب استشاراتٍ وفتاوى من كبار رجالات البلاط في القضايا الكبيرة .. والأمر هنا فائق السرية .. إلا ذلك الطبيب النحس صاحب الفكرة ومنجزها

فلينجز الأمر .. هكذا قال في نفسه .. ويحجر على الطبيب بعدها حتى ينجز مهمته .. وبعدها يتخلّص منه فيموت وسرّه مدفون معه

واستجاب الطبيب على وجه السرعة .. وأوضح التفاصيل للملك :

-لا ألم يا سيدي .. أؤكّد لك .. بضعة خلايا نأخذها من باطن خدك .. ننزع نواها ونحقنها في بويضة امرأة منزوعة النواة .. نعرضها لصدمة كهربائية فيبدأ الإنقسام الذاتي الخلوي.. ثم نزرعها في رحمها ..فتكون مجرد حاضنة للتعشيش والإنتاش .. وتكبر أنت في رحمها .. وتلدك من جديد .. تخيل ذلك ..ستولد أنت من جديد بعد تسعة أشهر

ويشب ويشبشب الملك العظيم ثانية .. بينما يشيب الملك الأصيل .. تخيل عظمة ذلك

والناس لن يعرفون شيئاً .. سيرقصون لولي العهد الجديد .. ويأملون الخير من وارث المُلك القادم الذي سيعطيهم الأمل بالإصلاح المنشود

سيعجبون من الشبه الهائل بينكما .. ويفرحون إذ أنّ الدم الملكي يسري من صلبك .. فالملك القادم ابنك حتماً حسب اعتقادهم .. وهذا ما يزيد تلاحمهم معه وإيمانهم برسالته وولاءهم سيكون مطلقاً له

وينتظرون الفرج الآتي على يديه .. ويسكتون على الفساد والاستبداد في عهدك .. عسى أن يكون القادم أحلى مع الدماء الجديدة

المطلوب منك الآن .. (لو سمَحَتْ عظمتك)... أن تختار المرأة الحاضنة لخلاياك الجديدة .. وهي ستكون مليكتنا وزوجتك .. وبنفس الوقت والدتك وليست أمك فأنت لم تأخذ منها أي صفة وراثية باعتبار بيضتها منزوعة النواة

تخيل الإعجاز في ذلك .. سترضع منها كأنك ترضع من زوجتك .. وذلك حلال على الملوك فقط ..إذ يخضعون لقانون المستثنى بإلا

قال الملك بلهجة الأمر .. وهو يريد أن يقطع استرسال الطبيب :

-وهل النجاح مضمون ؟.. أم أنها محاولة كمحاولاتك العقيمة السابقة ؟

-صدّقني يا مولاي .. فلنحاول ولن تخسر شيئاً .. إنها التجربة الأولى على البشر .. ولن نخسر شيئاً فكل شيء مُتاح .. التجربة تمت على النعجة دوللي بنجاح كامل .. وتوقفت عند التطبيق على البشر لصعوبة استصدار القوانين .. وأنت أبو القانون ولا قانون فوقك.. والسرية شعارنا

وهكذا تم الأمر بسهولة ويسر .. وبشكل فائق السرية

وحبلت المليكة بالملك الجديد .. المستنسخ بأمر الله ..

واختفى الطبيب وتبخر .. وقيل أنه أرسل في بعثة للخارج .. ومات سره معه

وبعد تسعة أشهر .. ولد المستنسخ وعمت الأفراح والليالي الملاح .. وأعجب الملك بالنتيجة .. حبة فول وانفلقت

وانذهل حكماء المملكة إذ شاهدوا التطور الروحي الغريب لهذا الفتى .. اعتبروا ذلك معجزة إلهية .. فالفتى ما إن حكى حتى روى تاريخ المملكة .. وما إن أمسك القلم حتى كتب وبمهارة أبيه .. يعرف الحكماء أنفسهم وبالأسماء .. يعرف ملفاتهم السرية المنسية في بلاط العرش .. يذكر قصصاً جرت قبل ولادته بكثير بدقة متناهية ..

لا داعي لتحفيظه المراسم الملكية .. ولا القوانين التي أصدرها أبوه .. يعرفها لأنه هو نفسه من أصدَرها وصدّق وصادق عليها .. وحاكَمَ الرعية بها وفق أحكامه الجائرة

النسخة الجديدة للملك ورثت ذاكرته كاملة .. وبينما ضعفت ذاكرة الأصيل تضاعفت ذاكرة المسخ المستنسخ .. وتضاعفت هنا من (الضِّعف) وليس من الضَّعف

فالعدو القديم ظل عدواً .. والصديق القديم صدوقاً

وورث المنسوخ العداوات والأحقاد القديمة .. وعاش الناس ينتظرون إصلاحاً.. ولا جديد تحت الشمس

واستنسخ المنسوخ .. منسوخاً مثله

وماتت أجيال وأجيال من الرعية .. وظل الملك يجتر ذاته ..ينقسم .. يتضاعف .. يستنسخ نسخاً أخرى لا تنتهي

ونسي الشعب أخطاء الملوك القدامى .. والملك لا ينسى أخطاء الشعب فذاكرته يعاد نسخها على طريقة الحاسوب بمعادلة نسخ ولصق

وبعد آلاف السنين .. ظل التاج الملكي نفسه بدون تعديل قياس حجم الرأس .. لأن الرأس بقي نفسه

ولذلك يسمي الملوك أولادهم بالأرقام ويحافظون على اسمهم نفسه .. وبالتالي كان لويس وهنري الرابع عشر .. والسابع بعد المليون

فالملك يستنسِخ .. مستنسخاً .. والقانون يجيز له ذلك

ولم يسمّي البسطاء أولادهم بنفس الطريقة.. إذ ظلوا يستمسخون أولادهم .. مسوخاً مشوهة لا ذاكرة لها .. ضاعفوا الاسم ولم يجرؤوا على إضافة رقم .. فحسن ولد حسنين .. وحمدين .. وقس على ذلك

د. جورج سلوم

*******************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى