جورج سلوم - الطوفان الثاني .. لنوح !!

طوفان نوح كان عقاباً إلهياً والأمر متفقٌ عليه ولا خلاف ..

واصطفى الرب يومها نوحاً وكلّ من اختاره نوح .. فنحن إذن من ذراري ركاب الفلك المُختارين

واختار يومَها نوحٌ ذكراً وأنثى من كل نوع من خلائق رب العالمين .. وهكذا استمرّت الخليقة بالرغم من الطوفان الجارف

والكون الآن في مخاضٍ قاتل بالحروب المُهلكة للبشر وقنابلها الذرية .. والجوائح المرضية الكاسحة .. والتبدلات الكونية من زلازل وبراكين مجهولة المنشأ .. وتلوّثاتٍ بيئية وثقوب أوزونية واحتباساتٍ حرارية .. وما يليها من مدٍّ بحري قد يُغرق اليابسة عن بكرة أبيها .. في عقابٍ جماعي لما اقترفته الحضارة البشرية بحقّ أبنائها .. وعلى نفسها جنت براقش

واستفاق أحد العلماء المتنوّرين للخطر الداهم .. فوضع مخططاً لغواصةٍ ذرية تنقذ الخليقة إذا ما دقّ ناقوس الخطر وأزفت ساعة الفناء.. مهلكة كل من يدب على وجه البسيطة

لكن ذلك الفلك (النوحي ) كان معمولاً بأمر الله .. لذا التزمت الحيوانات الضارية بالصمت عندما احتبست مع فرائسها المعتادة .. فنامت السباع في أحضان حمر الوحش كواحدة منها .. ونامت الأفاعي والعقارب في سبات شتوي فلا حول لها ولا قوة

وحلّ السلام الداخلي على الجميع في فلك نوح .. بينما كانت الأنواء تدمّر كل شيء في الخارج ...حتى عادت الحمامة بغصن الزيتون كما تعرفون

هذا ما كان من أمر نوحٍ وطوفانه وفلكه الإنقاذيّ للبشر .. وأما ما كان من أمر عالمِنا النوراني الفطين .. فقد رسم مخططات للغواصة الذرية العتيدة .. وحسَبَ حساباته للطاقة التي ستصرفها وتنتجها مفاعلاتها النووية .. وزوّدها أيضاً بمولدات الطاقة البديلة من الشمس والرياح

وبدأ بتقسيم حجرات غواصته للنزلاء .. وهنا احتار في أمره .. إذ أنّ قانون الغاب لا يرحم الضعيف فستأكل الأنواع الحيوانية بعضها .. مهما أعطاها من المنومات والمهدئات طيلة فترة المخاض الطوفاني المرتقب !

فقسّم بطن الغواصة إلى حجرات صغيرة لكل نوع حيواني ذكره وأنثاه .. على طريقة الحبس الانفرادي المزدوج .. وهكذا يتم فصل الذئاب عن النعاج والكلاب عن القطط .. ولكنّ غواصته لن تسع الأنواع المتصارعة مهما كبرت أجوافها وتعددت حجراتها .. فالأرض على كبرها ضاقت بهم وبغلوائهم وبأحقادهم المتوارثة .. فمن يسكت الكلاب عن النباح إن شاهدت أعداءها ..

فأضاف لغواصته مبدأ تقييد الحيوانات بالأصفاد الحديدية وكمّ الأفواه .. لضبط النظام الداخلي ما أمكن !.. وهكذا أصبح لديه تصوّرٌ ممكنٌ لإحلال الأمن العام في صهريجه الحديدي الذي أطلق عليه اسم (غواصة الإنقاذ )!

وكان كلبه المطيع الذكي مضطجعاً على أريكةٍ أرضية بجوار قدميه .. بينما كان العالِم مُسترسلاً غارقاً في رسم مخططاته المستقبلية .. فأفاق من غفلته على نباح الكلب إذ مرت سيارة غريبة بجانب مختبره المخفي في الغابات كصومعة الناسك الخفية على الجميع .. إلا عن رب العالمين

فخطر في باله أن يبقيَ كلبه حراً في الغواصة .. ويجول مراقباً وينبح على كل من يخالف الأنظمة .. وهكذا أسند وظيفة الشرطي للكلب .. وهكذا انتهت مشكلة الأمن في الغواصة نظرياً

فينبح الكلب منبّهاً لخللٍ ما بين الثور وبقرته في حجرتهما الخاصة .. فيتدخل العالِم ليفصل بينهما بعصاه الكهربائية فتعيدهما إلى جادة الصواب ..

إن حبسَ الحيوانات انفرادياً وتقييدها بالأغلال سيحل مشكلة ثورتها الأزلية على بعضها .. وكمّ الأصوات الناشذة أيضاً سيبعث على الهدوء الداخلي .. وإلا صارت الأصوات فوضوية كفوضى الغابة الخلاقة .. لكن سيسمح فقط بالأصوات الجميلة كالكناري والبلبل الصداح .. والديك طبعاً سيوقظهم صباحاً إذ أنهم قد لا يرَون الشمس في غوصهم السحيق

والزواحف بأشكالها يتم تنويمها بالتبريد الاصطناعي فتبقى هاجعة في سبات شتوي مصطنع .. لأنها من ذوات الدم البارد

ثم صادفته مشكلة الأمن الجنسي .. فما الذي سيمنع الجاموس عن جاموسته في خلوتهما الشرعية ؟.. وهل سيقدر الكلب على ضبط الأمن الجنسي ؟؟ لحيوانات قد تتلاقح سرياً وبصمت أو بالدموع كالطاووس .. أو بغبار الطلع كالأنواع النباتية !

وتوصل إلى حلّ مشكلة الأمن الجنسي بالإخصاء للذكور .. ولكن ما الفائدة من حيوانات مخصية بعد زوال الطوفان؟ .. وكيف سيحافظ على الأنواع بعد العودة للأرض الجديدة ؟.. وكان الحل بالإخصاء الاصطناعي بأدوية توضع في ماء الشرب فيستكين الحب بين الحيوانات دوائياً لفترة محدودة ..

وهنا صادف مشكلة أخرى إذ تذكّر مياه الشرب .. فكم سيخزن من الأمواه الصالحة للشرب في خزانات غواصته .. وبدأت آلته الحاسبة تعمل .. لحساب المخزون المائي السنوي الكافي للأفيال والجمال مثلاً .. وكان الرقم مخيفاً فأي غواصة ستسع ذلك .. وأصبح الأمن المائي منتهياً بعلامات استفهام كبيرة !

ثم الأمن الغذائي .. فكم سيخزن من اللحوم للحيوانات المفترسة ؟.. وكم سيخزن من الكلأ للحيوانات العاشبة ؟ .. وكانت الأرقام مُخيفة .. وأي غواصة ستسع ذلك؟ .. ووضع علامة استفهام أخرى

على عهد نوح كان الله وراء كل شيء .. والأمر بحكم المعجزات .. أما نوحٌ الأرضي فالآلة الحاسبة عنده تطرح أسئلة معقدة

واحتار في أمره .. وبدأ يرسم على الورق دوائر متداخلة لا مركز لها كمتاهات الألعاب الذكية ..خاصة لو دام الطوفان سنوات وسنوات ..

وتدخل الكلب الشرطي لإنقاذ سيده ..خاصة وأنه كان سعيداً بالمنصب الذي سيشغله ..فقال بطريقة الهمس الكلبية (والكلب يهمس أحياناً ولا ينبح ):

-لو ضاقت بك السبل يا سيدي .. نلجأ لطريقة التضحية !.. ومعمولٌ بها في كل البلدان كضرورة لاستمرار المسيرة الإبداعية .. وتحقيق الأهداف النبيلة التي تصبو إليها .. فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة !

وراقت الفكرة للعالم النبيل .. فالأرض نفسها وهي الأم الكبرى للجميع تضحي ببعض الأنواع بطريقة الانقراض لمن لا مكان له بيننا .. أو طريقة النفي من الغواصة إلى البحر المالح لمن سيعجز عن ضبط شذوذاته ..

فما الحاجة للماعز ما دام عندنا خروف ؟.. من نفس الفصيلة وأكثر لطفاً وحليبه أفضل .. وهكذا قد نضحي بالتيس إن التفت قرونه وأزعجنا تناطحه مع زوجته أو مع جدران حجرته .. نطعمه للنمر الجميل إن اضطررنا .. فلا بديل عن جمال النمر المرقط في العالم الجديد القادم

والحمار الغبي ..لا ضرورة له أيضاً.. نهيقه مزعج .. وهو صورة مشوّهة عن حصانٍ أصيل .. ونخفف بالتضحية به من أكله الكثير .. والعالم الجديد لا حاجة فيه لمن يجرّ الأحمال بوجود الآلات الحديثة .. أيضاً لا نريد حماراً ليكون مثالاً للصبر والغباء والاستحماق والاستحمار بين الأذكياء .. وهكذا أضيف الحمار للقائمة السوداء .. قائمة التضحية !

والجمل يشرب كثيراً .. وتسميته القديمة كسفينة للصحراء تشفع لنا في وضع اسمه في القائمة .. فنحن نغوص في الماء والعالم القادم يضج بالخضرة .. فليذهب إلى الجحيم مع ناقته وصحرائه إذا لزم الأمر .. أما بول البعير فلدينا زجاجة مبرّدة منه ونحتفظ بها

وكبرت قائمة التضحية .. ووضعت لها أرقام حسب الأهمية والأولويات .. وشملت الجميع في هرم الأحياء حتى الكلب الشرطي نزل اسمه بالحبر السري .. إذ يمكن التضحية به أخيراً عندما تفرغ الغواصة من شعبها .. فما الحاجة للشرطة في غياب الشعب ؟.. إذ أن الشرطة خلقت لخدمة الشعب !.. هذا هو شعارها عالمياً

بقيت مشكلة العالم النوراني نفسه.. مشكلته مع نفسه وجنسه البشري الذي قد ينقرض .. فكيف سيختار نصفه الثاني ليكون بذرة للعالم الجديد ؟.. والتعامل مع الإنسان صعب إذ يجب على المرأة أن توافق طوعاً بإرادتها .. وإلا ستذيقه الويل لو اختطفها أو سباها إلى غواصته الذرية

زوجة واحدة لا تكفي .. وميوله متنوعة بين الشقراء والسمراء .. وجمال المرأة مفتوحٌ لا حصر له .. والشرع يسمح له بأربعة فقط ..وعلى الانترنت وضع شروطه المدروسة لأربع نساء مطلوبات لرحلة طويلة مجانية ومدفوعة الأجر .. وعندما سيلتقي بهن سيشرح لهن لاحقاً الأهداف النبيلة وراء مغامرتهن وتضحيتهن لإنقاذ الجنس البشري .. وكله قناعة بأنهن سيتمنعن وهن راغبات .. كأي امرأة خبرها في سني حياته

واستمرار اللغات للعالم الجديد مطلوب أيضاً .. واللغات العالمية خمس .. وهو مالكٌ للعربية من عرقوبها ..فلتكن نساؤه مالكات لباقي اللغات .. والأعراق البشرية أربعة فلتكن كل واحدة من عرق .. وهكذا ينتقل المخزون البشري في أجسادهن .. ويكون العربي ملقّحاً للجنس البشري كله في العالم الجديد .. وتنتقل الأديان السماوية الثلاثة معهن جميعاً .. إلا البوذية عند الرابعة فكانت كعلامة استفهام غير مزعجة

ولابأس بذلك .. فلديه امرأة قد تنزل في قائمة التضحية إذا ما ضاقت الغواصة بهن .. وإذا اشتدت المشاكل الزوجية بين الضرائر.. فالتخلص عندها من زوجة غير كتابية وزرُهُ مبلوع

استرخى العالِم في مقعده الوثير .. وأغمض جفنيه إذ اكتملت الصورة في مخيلته .. وأصبح لكل داء دواء يستطب به .. سمح لنفسه بكأسٍ كحولي يزيد من انطلاقاته الفكرية وسيجارة يسحب بها فكرة وينفث أفكاراً .. وقطّب ما بين حاجبيه إذ سيكون التدخين ممنوعاً في الغواصة المغلقة .. والكحول خطر بجانب المفاعلات الذرية .. لا بأس فلتكن فرصة للابتعاد عن المنكر والحفاظ على الصحة مطلوب فهو الذكر الوحيد الباقي للعالم الجديد

والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه ..

ماذا سيفعل بتاريخ البشرية وأدبياتها ؟..وكيف سينقل معه الكتب وما أكثرها ؟.. الكتب المقدسة لا بدّ منها ويجب أن تكون ورقية .. يقبّل جلداتها ويخشع مع نسائه أمام صفحاتها .. والتفاسير وكتب الفقه اجتهاداتٌ بشرية قد يجود بها بشر العالم الجديد .. أصلاً هي مصدرٌ للخلاف فلا داعٍ لها

أما الأدب العالمي فهو غذاء الروح .. ويمكن نقله على شرائح إلكترونية لا تأخذ حجماً.. وأعجبته الفكرة الذهبية فرسم ابتسامة منحنية كقوس قزح .. ومرت أفكار أخرى ملونة في خياله الخصب مستوحاة من قوس قزح ... شرائح ذكية للمعلومات المنقولة .. وخزعات نسيجية للأحياء المنقولة أيضاً !

لماذا يحمل فيلاً يلوّح بخرطومه ؟.. ما دام قادراً على الاحتفاظ بأنبوب مخبري من خلاياه .. يبرده ويجمّده ويحفظه طويلاً ويستنسخه عندما يستقرّ به المطاف في أرض الميعاد ..

وهكذا اعتدل في جلسته .. وقرر تحويل الخلائق الحية بمجموعها إلى مجرد أنابيب خلوية مجمّدة وجاهزة للإنتاش استنساخياً في أي وقت

وهكذا سقطت الأفيال والأسود والقرود وكل الدابات من غواصته .. وتحوّلت كلها إلى أنابيب مخبرية .. والنباتات في النهاية هي مجرد بذور يُحتفَظ بها أيضاً .. وهكذا أصبحت الغواصة الذرية أصغر حجماً وأكثر قبولاً وأكثر ديمومة وأقل مصروفاً وأقل ضجيجاً

مستودعان فقط في الغواصة المزمع بناؤها .. أحدها للبذور النباتية وللأنابيب أو الأنيبيبات الحاوية على الأنسجة الحية .. والثاني للشرائح الالكترونية الحافظة للآداب والعلوم الإنسانية على اختلافها ..فلابد للتطور البشري أن يستمر اعتباراً من النقطة التي وصل إليها

وهكذا اكتملت الأفكار في مخططاتكَ يا عالِمنا النورانيّ .. وصارت غواصة الإنقاذ ممكنة البناء وحجمها مقبول

والتنفيذ سيبدأ قريباً بعد الإنتهاء من كتابة المقالة .. إذ أنّ الطوفان القادم قريبٌ جداً وتلوح إنذاراته في الأفق

***************************

ملحقات وحواشي لابد منها لإكمال البحث العلمي:

أولاً- اعترض أحد النقاد في الأنطولوجيا على المقالة إذ لم يجد له مكاناً في غواصتي النووية وبالتالي سيفنى للأسف في الطوفان القادم ... ولكن بقيت اعتراضاته إلكترونية فقط لأنّ المقالة تم نشرها كما قيل لي !

ثانياً- هنالك مستودعٌ حقيقيٌّ للبذور المهددة بالانقراض وموجودٌ في القطب الشمالي .. ويتفقده علماء العالم بشكل دوري ويضيفون عليه .. إلا علماء العرب فلا يعرفون مكانه على الخريطة .. ولا يسمحون لهم بزيارته لأن بذرة النخيل العربية غير مهددة بالانقراض على ما يزعمون .. ولو انقرضت فلابأس لأنها موجودة أصلاً في القائمة السوداء .. قائمة التضحية !

المقالة بقلم الكاتب نوح الثاني

(جورج سلوم سابقاً)

**********************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى