سليمان فياض - رغيف البتانوهي.. قصة قصيرة

ـ سميط.. معانا سميط.. سميط.. سخن.
نادى البتانوهي مرددًا. لا أحد يتوقف. يسير على الرصيف الواسع. سور حجري عريض يفصل بينه وبين النيل.. قطرات من العرق تنحدر إلى ظهره. زوي كتفيه، وحدب ظهره، فامتصت ثيابه قطرات العرق. الجو مثقل بالغبار والبخر. الشمس تلسع جلده. ابتعد عن السور. احتمى بظل شجرة. السيارات تمر متتابعة شمالا وجنوبًا. زجاجها يعكس الشمس في عينيه!
ـ سميط. معانا سميط. سميط سخن.
يمرون مسرعين. صار الوقت ظهرًا. لم يجوعوا بعد. ليسوا مثله. أشجار الشاطئ الآخر كثيفة، ناعمة، مسحورة. غارقة في الضباب. أضواء الشمس تتأرجح على المياه الحمراء، المندفعة. ثلاثة يقبلون، ظلالهم تسبقهم على الأرض. خرج البتانوهي إليهم من ظل الشجرة:
ـ سميط. معانا سميط.. سميط سخن.
لم ينظروا إليه. نادى خلفهم بحدة:
ـ سميط سخن.. سميط وبيض.. سميط وجبنة.
التفت أحدهم نحوه، وابتسم شامتًا.
أحس البتانوهي بالتعب. مال إلى ظل شجرة. أنزل سلته من يده، وقعد مسندًا ظهره. ومض في عينيه زجاج سيارة. حرق برعي النحاس ولدًا على الأرض، فضحكوا عليه. ووزع برعي الورق ولم يستطع هو أن "يبَصر" بالولد فرمى بنتًا. رمى برعي ولدًا فشال به الورق، وكسب برعي العشرة، تذكر أن آخر ولد كان على الأرض، فثار في وجهه، حرامى، لطمه برعي.. فشب ونطحه برأسه. سل برعي سكينًا، وضربها في خده، وشدها.. وراحت المعركة تتحرك أمام عينيه. ابتسم للذكرى في نشوة. لم يكن قد تزوج بعد. زعق بوق سيارة، فانتفض. يطاردونه. يجرى. بلغ باب داره، دفعه، وأغلقه، أنصت مغمض العينين. الحارة هادئة. لم يلحقه أحد. ضلوا طريقهم إليه، دخل حجرته. نام بجوار ولديه. ظل صاحيًا في الظلمة. أنفاسها تتردد منتظمة. تنهد براحة، سمع صوت مدفع. ارتجف، موقد الفرن ينفجر ثانية. هب جالسًا. صحت. قالت:
ـ مالك؟
ـ إيه ده؟
ـ دا مدفع العيد.
ـ آه.
رقد ثانية. وشعر بالغم، العيد؟ ماذا جري لهم؟
ـ اديني سميطة يا عم.
تلميذ مدرسة. تذكر أحمد.
ـ عايز حاجة يا ابني؟
ـ سميطة.
لفها له في ورقة.
ـ خرجتم؟
ـ أيوه.
رق له قلبه.
ـ عايز جبنة؟
ـ لا.
من الخلف، مثل أحمد تمامًا، لو كان جلده قذرًا. الكورنيش كاد يخلو يمنة ويسرة. السيارات تقل في الشارع. حان الوقت ليرجع لأولاده. الجو ناعم نظيف بلا ذباب، ولم ينهض. ومرقت سيارة مسرعة، وانفجر إطارها، فالتفت البتانوهي مكتئبًا، مثل انفجار الموقد. وجنح السائق بسيارته على مبعدة، وأوقفها بجوار الرصيف. ذات الغم. الحاج إبراهيم نائم على مكتبه بالمدخل. المصباح خلف رأسه علاه الغبار والدخان. أصواتهم بالداخل يعجنون. يتصايحون. يغنون. الفرن في المواجهة مغلق الباب. منضدة كبيرة على يساره تحجب الموقد. الضوء شاحب. لا أحد يراه.
ـ يا حاج إبراهيم. اعمل معروف. خليني ارجع لشغلي.
ـ امشي يا خاين.
ـ أنا عندي عيال يا حاج.
ـ مفيكش خير لعيشك.
ـ توبة من دي النوبة يا حاج.
ـ يموت الزمار يا بتانوهي.
ـ يا حاج. داخل على عيالي عيد.
ـ ماليش دعوة، انجر بره.
ـ يا حاج إبراهيم، اعمل معروف أنت عارف حيرة العيشة، والعيال، والعيد.
ـ 000
ـ أمرك يا حاج، تتعدل.
سمعه، يضحك:
ـ إن تابت، كلت نابت.
يغادر عتبة الفرن. يسمعه:
ـ علشان رغيف. النتن.
يتصايحون. يغنون. وسبب المصيبة نائم يشخر. صمام الموقد في درجة التسخين. باب الفرن مغلق. أدار الصمام حتى آخره. انسل عائدًا بسرعة. سمعه يصيح مفزعًا:
ـ مبن؟
انفجر الموقد، وتحدر العرق غزيرًا على جبينه، فمسحه بسبابة يمناه. نهض يزعق:
ـ سميط. معانا سميط. سميط سخن.
وعبر الشارع. الطريق في الظهيرة يكاد يقفر.
* * *
ينتظرونه في مفرق حارات. بجوار قفص الخبز. وضع سلته. وجلس على كيس خيش بجانب زوجته. كانت ترضع ابنته. مال على هدى وقبلها، فضربته بقدمها، وضحك لها، وداعبها، قال:
ـ بنت شقية قوي يا شلبية.
طوحت شلبية طرف طرحتها على كتفها. قالت:
ـ زي أبوها.
ـ معلوم. لكن دي وحياتك زيك قبل ما نتجوز. فاكره.
وضحك، قالت شلبية:
ـ هيه.. وآخرتها؟
وجم. بدأ النكد.
ـ آخرة إيه يا ست؟
ـ القعدة دي على مفرق السكك.
قال بعتاب، مؤكدًا:
ـ لحد ما نربي العيال يا شلبية.
وجهها بيضاوي أبيض، يكسوه غبار. أنفها مسمسم. عيناها ضجرتان. قالت ساخرة:
ـ فين يا عمر. وبعدين؟
ـ حسن الختام يا شلبية.
قالها. والتفت هاربًا إلى ولده، وابنته:
ـ جبتم جبنة المدارس يا ولاد؟
قدم له كل منهما قطعة جبن أصفر، مثلثة، وتضاحك البتانوهي قائلا:
ـ شفتي فايدة المدارس يا شلبية ؟
أخرجت ثديها من فم البنت. أخفته في صدرها. قناة دافئة.
- من أجل القناة يا بتانوهي قامت حرب.
لم ترد عليه. لو لم تكن صبيحة الوجه لصفعها. قال لها:
ـ فين الطعمية ؟
ـ هاتيها يا آمال من جوه القفص.
فرد البتانوهي ورقة جرنال. وتناول من قفص الخبز خمسة أرغفة. حط أمامه رغيفين، وأعطى لشلبية واحدًا، وقسم الآخرين بين أبنائه الأربعة. ووزع أقراص الطعمية والجبن، على الجميع.
قالت آمال:
ـ أنا عايزه سميطة يا بابا.
سميطة، قال البتانوهي مغتاظًا:
ـ معاك قرش؟
تدلت شفتها السفلى. وخرست. قال أحمد:
ـ اديني قرش يا بابا.
ـ ليه يا ابن شلبية ؟
وجم الولد. وقال بصوت خافت:
ـ أشتري به سميطة منك.
تضاحك البتانوهي، وقال:
ـ بايخة يا بابا.
صاحت شلبية غاضبة:
ـ يا راجل.. خلي في قلبك شوية رحمة.
صاح:
ـ مانتيش سامعة. دا احنا ما بنكسبش قرش إلا بطلوع الروح.
من أجلهم قتل إبراهيم أربعة من العمال. لم ترد شلبية.. نادية خائفة. ومحمود على صمته. وراحوا يأكلون. وودت شلبية لو تأخذ سميطة واحدة، وتقسمها بين الولدين، والبنتين..سيذبحها لو فعلت. جو الغذاء مقبض. يوم وفاة الحاج إبراهيم كانوا يأكلون خبز ميت؟ ولا أحد يتكلم. قال له الوحيد الذي نجا من انفجار الموقد:
ـ تعرف إنك جدع.
انخلع قلبه، قال واللقمة في فمه:
ـ ليه؟
ـ الراجل طردك علشان حكاية هايفة.
عاد قلبه ينقبض خوفًا.
ـ ومع كده جيت تاخد بخاطر أهله.
مضغ لقمته. وتذكر المثل:"يقتل القتيل ويمشي في جنازته" ما كان يومها جائعًا. الناس ينهضون. خبأ رغيفين تحت إبطه. أطبقهما على قطع باقية من لحم الميت. رفضت شلبية أن تأكل منهما. شك أنها تعرف. أراد أن يختبرها. قدم الرغيفين باللحم لأولاده. لو كانت تعرف ستمنعهم من الأكل. سيقتلها عندئذ. لكنها لم تفعل. سألها:
ـ ليه ماكلتيش؟
قالت، وعيناها في عينيه لا تطرفان:
ـ دا عيش ميت يا بتانوهي.
سمعها أولادها. كف أحمد عن الأكل. أرجعت آمال ما بلعته. هل تعرف؟ هل تعرفين يا شلبية ؟ كنت نائمة حين خرجت، وحين عدت، لو كانت تعرف، فلم تعيش معي؟ تخافين على نفسك أم على أولادك، يا شلبية؟
ـ ما بتكلش ليه؟
ـ باكل.
تبسم.
ـ اللقمة في إيدك وبطلت تاكل.
أكمل رغيفا بالكاد. وقسم الآخر بما بقى عليه من طعمية وجبن بين أولاده الأربعة. نظرت إليه شلبية بدهشة، قالت نادية:
ـ بابا.. مش عايزين عيش. ادينا سميطة يا بابا.
من رأس مالك يا بتانوهي. هم أولادك. ابتسم. وسل سميطة من حافة السلة. وقسمها بينهم. وناول قطع رغيفه لشلبية.
ـ كليه. أنت بترضعي.
ـ ماتكله يا بتانوهي. أنت بتتعب.
ـ ماليش نفس يا شلبية.
صوتها حنون هذه المرة أيضًا. قليلا ما كانت مثل اللحظة، منذ.. وشرب ماء من قلتها، ومسح فمه بطرف سترته، وهم بالنهوض.
ـ ما أنت قاعد مع عيالك شوية.
ـ أما نرجع نقعد يا شلبية.
وإذ كان ينهض، رأى ظهرها خلف الثوب، مستقيمًا. مشدودًا كيوم تزوجها. من يصدق أنها حملت وولدت. وبرقت في ذهنه لحظة خاطفة. كل شيء يموت فيه. ماء بارد يدلق فوق جسده الساخن والأولاد نيام. هل تعرف؟ هل تخافه أو تخدعه؟ حمل سلته على ذراعه. قالت له:
ـ الدنيا حر، والكورنيش فاضى.
ـ نسرح في الشوارع. على الله نبيع.
وأضاف:
ـ خلي أحمد ياخد اخواته، ويروح.
* * *
راقبته وهو يبتعد. نحيل، ممطوط الرقبة. سترته قصيرة، ونظيفة. بنطلونه أزرق كأنه صنع لغيره. من يره لا يظنه قاتلا. انسل ليلا. صحت حين زاق الباب في يده. مكانه خال، ظلت يقظة تنصت. همسات الليل والنوم. دثرت بنيها في ليلة صيفية. حاولت أن تخمن سببًا لخروجه. ودت لو أنها نادته. تخاصما مساء الوقفة. لم يرحم تعبها. أرادها. كانت مرهقة من غسيل البيوت.
ـ شوفي لنا قرشين يا شلبية.
ـ قرشين؟ ليه يا بتانوهي؟
زام ضاحكا:
ـ آجي لك مفرفش الليلة.
يريد أن ينسى أنه عاطل.
ـ القرشين تمن حتة لحمة للعيال. بكرة عيد يا بتانوهي.
ـ يا ستي. بدل رطلين، كفاية رطل.
ـ يا أخي روح عني. يعني مشاالله، روح لايمها.
ردها قاس. لم ينتظره. استدركت:
ـ روح لايمها وبلاش عنطزة على لقمة العيش.
ـ اللي عنده عيال يتعنطز يا شلبية؟
خرج في الحال من البيت.
ـ ماما. اديني المفتاح نروح البيت.
رأتهم بعينيها يبتعدون، وعقلها شارد. نيران الفرن حامية تضرب في السقف، يراها الداخل. البتانوهي بملابسه الداخلية ينثني على جذعه يمنة ويسرة، مع الخبز الداخل والخارج. يسحب يد الفرن، ويطوح بالأرغفة واحدًا واحدًا إلى المنضدة الكبيرة. انتظرت. فرغت طاولة من أقراص العجين. غمز لها بعينه:
ـ عايزه إيه يا شلبية؟
ـ يعني مش عارف؟ قرشين العيش يا بتانوهي.
انثنى على جذعه. عاد يسحب الخبز. يطوح به. وغمز لها بعينه. طوح رغيفين نحوها. ظهرها إلى الحاج. يسراها تشد الملاءة ساترة حمال وجهها، تلقت الرغيفين في لمحة، دستهما ساخنين على قلبها. أخفتهما بالملاءة وذراعها.
ـ خمسة العشا آهه. مع السلامة يا شلبية.
صوته عال دائمًا في الفرن، يسمعه الحاج. هي السبب. ومر الحادث بلا اهتمام. ذهب ليرى الحاج في المستشفى، وهو يحتضر. وسار في جنازته، وأكل من رحمته. من يتهمه إذن. في عينيه عبط، يخفي مكرًا قاتلا:
ـ هيه.. بتانوهي. رحت له؟
ـ أيوه.
ـ قال لك إيه؟
ـ قال لي. هه. قال لي. إن تابت، كلت نابت.
ضحك كثيرًا حسبته جن. سمعت الانفجار. أيقنت أنه هو، ومكانه خال. فلم يصح ديك. ومدفع صلاة الفجر جاء بعده. وعضت شفتها خائفة. تحس بالرعدة بين يديه. جلده ينضح عرقًا باردًا. يتراجع سريعًا، عاجزًا ككسيح. ومع ذلك جاءت هدى. مثل كسيح، ولم يخضع لها. رفع رأسه في وجهها:
ـ حنعيش يا شلبية.
ـ ربنا ماينساش حد.
ـ مفيش غسيل.
ـ حاضر. بس ارجع الفرن.
ـ لا. سأسرح بسميط.
ـ مش كفاية يا بتانوهي، دول عشرين قرش.
ـ حاتبيعي عيش على المفرق.
ـ طيب. ارجع الفرن.
ـ ما قدرش.. سامعة.
ـ لأ تقدر؟ لم يا بتانوهي؟
ـ حاضر.
ذهب ليدفن جريمته مع الحاج في قبره يوم عيد. وذهب ليأكل من رحمته. تقيأت ابنتها لحم الميت. تكرهه لذلك. هب فزعًا منذ ثلاث سنين على صوت أصم، لمدفع فجر العيد. لو عرف أنها تعرف سره. ترتعد حين تفكر في ذلك، بسره يتعذب حيًّا. لهذا تحبه، وتخافه. جاء صبي الفرن بقفص الخبز. أرقدت ابنتها على كيس الخيش. وعدت الخبز وهي تضعه على قفصها. وذهب الصبى. وجاء من يطلب رغيفًا، وعادت تنتظر من يشتري. وسمعته يشقى في الشوارع المحظوظة، عبر أصوات الحارات:
ـ سميط. معانا سميط. سميط سخن.

* * *
أقبل من بعد، والشمس صفراء عند آخر الحارة. رآها تنهض فارعة. يا معذبتي. دثرت هدى. تجمع الأولاد حولها. عيناها على خطوه الثقيل. أطواق السميط تكلل سلته. عد ما على قفص الخبز بنظرة:
ـ ياه.. عشرة؟
ـ ما لهمش نصيب، وأنت، ما بعتش؟
ـ بعت.. اتنين.
ـ بكرة تتعدل.
ـ كل يوم نقول ذلك.
ـ لا. ابعتي الواد بالعيش الباقي للفرن.
ـ والعشا؟
ـ حوشي خمسة.
ـ أنت رايح فين؟
ـ أبيع اللي معايا.. هيه، حاسبيني.
ـ الله، مالك يا بتانوهي ؟ اما نرجع البيت.
ـ قلت لك حاسبيني.
ـ أنا وقفت، والبنت على إيدي يا بتانوهي.
ـ قبل ما تتصرفي في غيابى.. حاسبيني.
ـ طيب.
ودست يدها في صدرها، وأخرجت منديلا معقودًا.
ـ خد.
ـ كام؟
ـ عد.
تحرك أحمد بالأرغفة الباقية ليرجعها. فك العقدة. وأخذ يحصي الورق والقروش بسرعة. ناديى أحمد، فعاد.
ـ عدها يا واد. كام.
ـ خمسة. وخمسة للعشا.
ـ باقي تعريفتين يا شلبية.
عيناه تنذران بالشر. لن يغفر. قالت مرتبكة:
ـ أنا عارفة بقى. خدهم دلوقت. أما ترجع نكمل الحساب.
وسوت طرحتها بيد واحدة.
ـ باقي تعريفتين يا شلبية.
ازدادت ارتباكًا، وقالت:
ـ البنت كانت على إيدي. يمكن صبي الفرن غالطني في العد.
ـ صبي الفرن؟
أنزل سلته. دس يده في جيب سرواله. حين ضغط انفتحت للتو مطواة في يده.
ـ ابن الحرام. حاشرب من دمه.
ـ بتانوهي؟
ـ بابا. حاقول لك يا بابا.
أمسك بياقته، وجذبه هائجًا:
ـ قول.
ـ جعنا قبل ماتيجي يا بابا.
ـ جعتم؟
أفلت ياقته، ورفع المطواة نحوها.
ـ كلنا رغيف، وبتعريفة طعمية.
ـ تعريفتين يا شلبية.
ومن الظهر أدور في الشوارع من أجل قرش. قريبة من عينيها مطواته. تلمع.
ـ أنا عارفة بقى.
سيفعلها الآن. ضمت هدى إلى عنقها حتى لا تقع. تمص إبهامها لاتزال. قدرت أن هذه فرصتها لتخضعه، فلا يرفع فيها عينًا.
ـ وبتكدبي عليه؟
انفجر صوت الموقد في أذنيها. أطبقت كفها على معصمه. مثلث أسود، عينان حمراوان جاحظتان، وندبة غائرة في الجبين، وقطع سكين بالخد، وبخر صائم يلفح أنفها. يده ترتعد في يدها. يدها أقوى، ودمها يغلي. مثل الحلم تمامًا، سمعته. الحاج إبراهيم:
ـ أنا عارف إنه هو. ما رضيتش أخرب بيتك يا شلبية.
فرصتها حانت. همست من بين أسنانها:
ـ تعملها يا بتانوهي.
وسمع ما تقوله عيناها: "زي ما عملتها؟" يا عرة الرجال. نسيت؟ ولا كأنك راجل. فاكر؟"
اتضح السر. تعيره. الخبيثة ظلت تعرف. لذلك خبت معك. حرضتني، فسرقت، ثم قتلت ثأرًا لعاري. جذب يده بالمطواة من يدها. وهي تصوت طعنها في نحرها. نار فرن تدوم. أصوات بعيدة، وعياله يصرخون. يطعن، يطعن. هي وهدى. لم تسمع صوت هدى. صاحت بلا صوت، وركعت تشخب، ثم استلقت. لم يتقدم أحد ليمسكه. يصيحون بعيدًا. الأرانب. أنا راجل الآن، الآن فقط يا شلبية. بضربة قد عنقه. أحمد. ابنى. الكلبة بالت واقفة. طعنها في القلب، سمعهم يقتربون. ضعت يا بتانوهي. ليس الآن، الآخران يجريان نحوهم. ليس الآن. ماذا ستفعلون بعدي؟ تبحثون عن رغيف، وقرش؟
ـ اجروا يا ولاد.
ـ نادية، محمود.
ـ تعالوا هنا.
صاح كوحش:
ـ عندك.
تراجعوا. وأمسك بهما. سقطت المطواة من يده، اندفع الناس إليه.. حملهما تحت إبطيه. ضحك كوحش. النهر. يطاردونه لايزالون. الكورنيش، يهدأ. السيارات لا تنقطع.. الجبناء. يقتربون يا بتانوهي. لا شمس . العتمة تهبط. لا. ليس الآن. مرق غير مبال، لن يبلغوك أبدًا. أبدًا. النيل يا بتانوهي يكتم السر. يريح القاتل والضائع. يلهث. عجزت. لا. ليس الآن. اقفز. وثب بهما على السور الحجري. ودع يا بتانوهي. نظرة أخيرة لنور عينيك. ماتا على يدك خوفًا، مددهما الآن، سيعودان إليك يا شلبية. يقتربون. لا وقت يا بتانوهي. وثب بهما في النهر. الموقد ينفجر. وانفلق الماء لسقطته، وغاص، ثم ارتفع. يداه خاويتان. وزعق، والعتمة تهبط، بلا صوت:
ـ سميط. معانا سميط. سميط سخن.
وجذبه التيار بعيدًا، إلى أسفل.


(1965)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى