إبراهيم محمود - النصُّ البَصَلِي..

عذراً على هذا الخدش لحياء العين والأنف معاً، وأنا أتحدث عمَّا لا يُسمى، عما يُعَدُّ معدوم الأثر والسّيرة، وربما يكون خارج التصنيف النباتي، رغم أنه نبات يُعتد به في قائمة منافعه، ولو أنه لا يعتدُّ به من جهة رائحته، طالما أن هناك تبايناً نوعياً في التعامل: من يرغب فيه ومن يرغب عنه.. أرأيتم لكَم هو التناقض كبير، لكم هو التعامل مخز للمعرفة، وللحواس المعتبَرة إنسانية في آن؟ أأسمّي، أم لا أسمّي، وقد جاء الاسم عنواناً، أو جاء الاسم عنواناً لأحد " كبار " المنفّرين، والصادر بحقه " فرمان " استبعاده، أو تجنب الاقتراب منه، لمساً، فكيف بتناوله ؟ وهو الذي يحضر في تاريخ الطعام البرّي، وفي الطهي، وفي زخرفة المائدة، وفي عُرف الطبين: الشعبي والرسمي، رغم الاعتراض على تداوله، والحرص على حرمانه من الدخول في خانة التسميات المثيرة لشهية النظر والشم، وإن كان فيه ما ينشّط العين، والأنف، مع بعض التحمَّل، فليس من مطعوم، أو مأكول، إلا ويتوجب دفع ضريبة ما نؤوله .
لأدفع بهذا التعبير، مع استعارة البصل la métaphore de l’oignon ، وأنا أقارب من خلال هذا التعبير كلاً من الهوية identité والمجتمع société والمعرفة connaissance...الخ إلى الأمام :
بصل، بصل، ولكم هو عزيز في قدْره هذا البصل" وبـ: أل التعريف " هذه المرة، لكم هو مشدَّد عليه، هذا المستدعى ليس حباً به، وإنما تمثيل كراهية لطرف، أو شخص ما!
بصل، نبات، من بين النباتات الأوفر حظاً في البروز التاريخي، هذا/ ذاك الذي يُطرَد بالحرف من الباب، وليتم طلبه سريعاً، وإدخاله من النافذة. يكفي أن ينظَر في لائحة المأكولات الشهية في المطاعم، فيما يطبخ في البيوت، أن يقف أحدهم قريباً من نافذة صغيرة لمطبخ أهلي، في ساعة نهارية ما، ليدرك عما ينطوي عليه هذا البصل من إجادة في تمثيل الفوائد !
أتراني أطلت في الإشارة إليه، أو الحديث عنه، وربما لا يعرَف حتى اللحظة ما نوع الموضوع الذي سأفاتح به قارىء هذا الذي يتشكل نصاً، أو هكذا يحضَّر له: نصاً بصلياً ؟
لا بأس من الإطالة أحياناً، في تنشيط الدورة الدموية للمخيلة ذات الصلة، وفي تحفيز الفضول، لينفتح أكثر، لابأس من قليل من الوقت، ومن التعريجات تجاوباً مع مفهوم النص الذي يستحيل التعريف به، أو تصويره، إلا وهو مقرَّر خطوطاً وثغوراً وتقاطعات، حتى في أكثر مواصفاته موهبةَ تماسك أو انسجام، ليستحق شرف اسمه. فلا أتعس من نص يعرَف كنهه سريعاً، وينتهي أمره سريعاً. نص لا يبلى حسناً، إنما يفتقر إلى " هزات " ولو محدودة، لإيقاظ الساعي إليه.
هنا، في وسعي أن أباشر الكلام وهو بنفاذ رائحته البصلية" بصل أحمر، ربما، أو بصل، على أشد من يكون من الرائحة الكبريتية الطيّارة المنتشرة في منافذ الهواء "، عما غامرت ليس بعرْضه طبعاً، إذ ليس من كاتب يقوم بعرض فكرته، إلا ويخسر اسمه، سمعته، أو صفته الفعلية، وهو في مقام نزيل السوق المفتوح من الجهات كافة، نص عرَصة، إن جاز التعبير، وكوني آثرت الحديث عما أعتبره إثراء لنص، لم يُعمَل به، كما هو المبتغى، وقد يستقطر جرّاء هذه التسمية أفكاراً، ويستفز أفكاراً، تأكيداً لهذا الذي يُزكَّى في متن المعرفة" الطهيوية " !
هل يمكن لأحد- هنا- قارئاً، لا على وجه التعيين، قبل كل شيء، أن يتحمل وزْر عبارة من نوع، ربما غير مألوف " النص البصلي "؟ كما يتحمل لسعة إبر النحل، لبلوغ عسله. مهلاً، ربما يمتعض هذا القارىء الذي لا أعرفه، ولكن فضلة من خيالي، تعلِمني بذلك، وهو في كيفية التقابل بين البصل والعسل ! سأكرر ثانية، إلى أن المشكل في الرائحة، أن الفارق يكمن في ما يجري تذوقه، عبر الغدد اللعابية، وما يُستثار من غدد دمعية، وحرقة عينية، ومن ثم، من مباغتة بصدمة الرائحة للخيشوم، مع العلم، أن هاته الرائحة تتولى تنشيط لآلة النفس هنا. بالتالي، ألسنا إزاء ما يٍستخَف به، عندما يصبح ما هو ظاهري قيّماً، ويحتكَم إليه ؟
لهذا، لا بد من المضي قدُماً إلى معترك " النص البصلي " وما يؤول إليه أمر هذه " البدعة " إيذاناً مني بوقْع الكلمة، و" إثمها ". أطلب مزيداً من الجلَد، وبعدها، ليُطلَق العنان للسان الصد !
ماالذي يعيننا على " فهمه " هذا النص، وقبل كل شيء: كيف يجاز لنص ما أن يكون بصلياً؟
البصلة، كاسم مفرد، تحمل كل سيماء الأثر الدال على كيان ما، كيان يعلّم بشكله، إنما بمحتواه أيضاً، لمن عايش بنيانها تقشيراً وتقطيعاً، وشم رائحة، وتذوقاً، وتعاملاً مع الآخر من خلالها.
بصلة لا يمكن أن تُرى إلا إهليلجياً، وأحياناً أسطونياً، وأحياناً ثالثة من فلقتين. ثمة القاعدة، وثمة الرأس المشرشب، وما بينهما الخطوط الناعمة، كما لو أنها خطوط الكف. أي يد للبصلة ؟
بصلة بأبيض لونها، أو أحمرها الفاتح، أو الأرجواني، القطني، أو الأبيض الديني، أو اللون البصلي، كما هو شأئع ومتداول لدى الفن ومن لهم عناية بالألوان: باعة أقمشة وخلافهم، وما يفصح هذا التلوين المتنوع من تعزيز لمقامها، في الوقت الذي لا ينظَر في هذا التنويع إلا باعتباره ذا نسَب بصلي، وبذلك تكون صفة الصفة مأخوذة بـ" وزر " أو " أهمية " الموصوف .
ربما كانت من ناحية التكوين ذات معلَم جنساني: أنثوي، ذكري، ولعل المدقّق في خاصيتها، وهي بالهشاشة المعهودة، هشاشة صلبة، إن جاز التقدير، يتلمس فرادة تستحق التوصيف .
النص، في مبتداه ومنتهاه، ذو مفهوم بصلي، كما يمكنني التعريف بمكوّنه، أو الإحاطة بهويته ذات الطبقات المغايرة للطبقات الأرضية طبعاً. إذ إن البصلة الواحدة، وهي بشكل الموصوف، عبارة عن كيان واحد، يحمل عصارة موحدة، وهي سليمة طبعاً، ليس لها من مركز على الإطلاق. ثمة قاعدة، هي جذرها الذي يمكّنها من التثبيت في التربة، وثمة بالمقابل فتحة الرأس حيث تتشكل أوراقها الأنبوبية حتى نوّارة كل منها. لكم يعلّم البصل، ويعتكف في تربته داخلاً !
الرأس الذي يتفتق بمثابة رحم ليمهد لأكثر من ورق أنبوبي بالخروج عالياً، والتجدد، وهو موقع سلطوي، ولكنه مشهود له بالتفاني والعمل جلياً، خلاف الكثير مما هو معلوم به هنا وهناك.
الطبقات التي تشكّل قوامها واحدة، كل منها تلبّس الأخرى وتتلبس بها، والمواد الداخلة فيها معممة عليها جميعاً، ليس هذا فحسب، إنما ما يصلها بالشعيرات الجذرية الرفيعة داخل التربة، وتلك الأوراق التي تعلو وتتباعد، ليكون في مقدور كل منها النمو ضمن فسحة معينة، دون أن تنفصل كلياً عن " شقيقاتها "، دون أن تتعدى أي منها على الأخرى. ثمة ما هو طويل، أو قصير، عريض، أو رفيع، أو أنبوبي أكثر من الآخر، ثمة ما هو بالوني وبسماكة معينة، وما هو مجوف ضمناً، وما هو منطبق من الداخل، لكن ليس لدى أي منها ما تبز به البقية، وهي موصولة بالقاعدة، أكثر من ذلك، هي قدرتها على النمو، في حال قطعها، دون لمْس القاعدة، وهي مزية بصلية ترينا مدى قدرة هذا الكائن الورقي القابل للأكل بطرق شتى، على التجدد، ولفترة زمنية معينة، مدة تكفل، في حال توافر المناخ المناسب، والرعاية المناسبة، دوام الانتثار أو التكاثر، بذلك اللون المفعم بالعصارة، حيث الأخضر الممتلىء ماء، الأخضرالعميق، يضفي على صورة البصل ما يحفّز على الاسترسال في المتخيَّل، واستدعاء النص ملبَّساً به .
أشدّد هنا مجدداً، على خلاف التكوين البصلي بالطبقات الصاعدة والمتفاعلة بـ" ود " فيما بينها، وليس بمفهوم التراتبية الأرضية، أو التناضد، إلى درجة امحاء الدرجات، والفصل إجرائي !
أن يكون النص بصلياً، هو أن يمتلك ، وقبل كل شيء، تلك الأهلية في التجذر في التربة، أي أن يكون سليماً، معافى، ليتحرك صوب نقطة بروزه، واستحقاق تسمية النص: اسماً .
إنما هو أن يُرى ولا يُرى فيه، ما يعرضه في عمومه، وإلا لبطل أن يكون نصاً، إنما هي طبقاته، هي توزُّع عناصرالقوة في عموم كيانه العائد إليه أو الفراغ الذي يشغله، وبالتالي، لا يعود في وسع أي كان وضع خط تحت عبارة، أو مقطع، أو ربما كلمة، والقول بأنها فكرة النص، أو سبب ولادته نصاً، إنما ما يجعل النص بكامله: موضوعاً يحفّز على التعمق فيه .
أي ما يدفع بالتأويل إلى الداخل، في الكتلة البصلية التي تتفسخ ووتتجذر، ثم تنتج في صمت، أي لا تموت، وهي تتلقى المدى الهوائي والضوئي من الخارج، ويدفع التفسير إلى الخارج، دون القطع بينهما، فلكل منهما ما يصل بالآخر. وتلك هي لحظة " درّيدية " أيضاً بتفكيكيتها !
نص يخلو من الخلل، من سوى إدارة معنى، لحظة إطلاق سراح جملة أكثر من سواها، لحظة الاعتماد على حرف " جر، نصب، مشبه بالفعل..." أكثر من غيره. أو زخرفة قول على حساب " عضو حيوي " في " الجسد: النص " أو " النص: البصلة بامتياز "، على حساب سواه. إن مأثرة البصلة وهي في طبقاتها، وهي في قواها الطبيعية: الحيوية، والكيميائية، وميكانيزم التجذر والتشكل والبروز والتفرع والتجدد، تبرز بشكل لافت، وهي ببساطتها، وموتها وحياتها، ذات بنية جمالية، ومناقبية في الصميم، بصلة نتعلّم كيف نتعرف على الخفي فينا بيسر، ومع اليسر ما يطلَب الاستعداد له: المعرفة الضامنة لذلك، وعلى كون كل منا بصلة تصل بأخرى، على أننا نعيش في كون على هيئة بصلة، على أن لنا صلات بالعالم، بالثقافات جملة، بوصف كل حالة، أو موقع، أو مفهوم، أو تصور حتى لما يُسمّى بالمتعالي بصلياً. وهذا يتوقف على مدى استطاعتنا في الانفتاح على أنفسنا ولغتنا بالذات. ليكون هذا المدخل البصلي ببساطته، إنما بفراهة معانيه، معزّزاً للكثير مما يصلنا ببعضنا بعضاً، ونحن في نطاق الحديث عن البصل، أو عن نص نحاول تنوير مفهومه من الداخل، وليس أن نتأفف، أو ننفر مما يتعسف في تلخيصه وتوصيفه برائحته. وحده التشارك يضمن عدم النفور أو التقزز، بعيداً عن أي تمركز قيمي .
هل يمكن أخْذ الحكمة من البصل ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى