محمد جبريل - معارك اخرى..

الولى - مهما حصّل من معارف، وأنفق من وقت فى العبادات - يظل غير قادر - دون الإلهامات الربانية - على فهم الكثير مما يعانى الغموض، أو السير فى دروب يصعب ارتيادها إلا لمن خصّهم الله بعلمه وفضله.

النقص فى من يرى، وليس فى من يراه. النظرة القاصرة تعجز عن رؤية الكمال فى الناس لأنها لا تلحظه فى ذات المرء.

تبين الشيخ عثمان العزيزى - بعد توالى المعارك - صفاء الرؤية، وتنور البصيرة، أيقظه هاتف من نومه، تأكد أنه هو المقصود بالنداء.

لما تناهى الاسم للمرة الثانية، انتقل بين المقامات: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، التوكل، الرضا آخر المقامات.

شعر بنفسه فى قارب يعانى لطمات الأمواج بلا شراع، ولا مجداف، ولا وجهة يمضى إليها. روى أنه ارتكب - فى شبابه - خطايا كثيرة، لم يبعدها عن ذهنه إقباله على الصلاة والصوم وبذل الزكوات والصدقات وشدة الاستغفار، وجد فى العزلة ما يعيده إلى نفسه.

استعاد ما جرى فى حياته من المعارك، مال إلى الشجار، ربما بلا مناسبة، يفتعل أسبابًا للخلاف, تدفعه إلى خوض العراك، يجيد الطعن فى مشعر الرجل، فيسقط ميتًا، تناقل خصومه نكتة، يسألون فيها كل صباح عن الشخص الذى ينوى عراكه، ويسألون كل ليلة عن الشخص الذى عاركه.

أزمع أن يهجر ما كان، ولا ينظر إليه، يخلف سوق الدنيا وراءه، ويخلص فى المجاهدة، والسير فى طريق الآخرة. يقصر ما تبقى من العمر فى التنقل بين مقامات أولياء الله، يركن إلى الطمأنينة، لا يدخل معارك، ويتجنب خوضها، ولا يرد على الفاعلين.

فضّل الآخرة على الدنيا، لم يصغ حتى لنصيحة القطب الكبير - بواسطة مريديه - من أنه إذا حدث ما يريده، واستقل بحياته، فلن يجد من يمكنه الاعتماد عليه، أو يكفله، أو يدفع عنه شرور الناس.

قال:

- نحن لا نملك اتخاذ كل قرارات حياتنا.

وأدار عينيه فى المريدين:

- الزهد قناعة من يعرف أن الموت قد لا يتيح الوجبة التالية!

اعتزم أن ينفق من ريع بناية يملكها فى شارع الورديان. يقضى يومه كله فى أبو العباس، لا يغادره إلا عند إغلاق الأبواب، يظل متنفلًا بعد صلاة الفجر، حتى يصلى الظهر، إن لم تطرأ حاجة شخصية، تبعها بصلاة العصر، يجلس إلى حلقة الذكر حتى المغرب، يجلس إلى مريديه فى هلال اختار له موضعًا بالقرب من مقام المرسى. بعد رفع أذان العشاء، يؤدى الصلاة، ويمضى إلى بيته فى شارع الحجارى.

حين راجعه الشيخ محروس الأنصارى فى اعتزامه هجر الحلقة، والاقتصار على رعاية فرقته، افتر فمه عن ابتسامة هادئة:

- لا أحب القيام بدور يختارنى له الآخرون، أختار دورى بنفسى.

قدّر أن من كانوا على عداء معه سيتيحون له الخلوة، واعتزال الناس. استغرقه التوجه إلى الله، الخضوع لمشيئته، الرضا بقضائه وحكمه. لا أعظم، ولا أعلى من الله، هو الذى خلقنا، وهو الذى يحيينا، وهو الذى يميتنا، جاهد كل ما علق فى نفسه من شهوات النفس، وتحكم فى أهوائها، انقطع للعبادات والمجاهدات والرياضات وذكر الله، لزم أعتاب الحق سبحانه.

قرأ سير الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والعلماء ومفسرى كتاب الله، أخلص فى الدرس والتعلم، حتى فتح الله عليه بحقائق المعرفة، ولطائف الإشارات، أكثر من الصوم ، داوم على الصلاة، وحافظ على آدابها، عنى بالمجاهدة والمحاسبة، وبذل المال، وقضاء حوائج الغلابة والمحتاجين.

حتى لا يظلم زوجته فقد فارقها بإحسان. انقبض عن الناس، أخذ نفسه بالتقشف، قطع الصلة بينه وبين مغريات الدنيا، أفرغ قلبه مما يشوش عليه، حفظ القرآن، وجوّده، على القراءات العشر. لا يكتفى بحفظ الآيات والسور، إنما يحرص على تدبر معانى الكلمات، وتذوق مراميها، وما تنص عليه من أحكام.

شعر بأن حاجات جسده زالت، أسلم نفسه بالكلية لعوالم روحية نورانية، عرف المقامات والأحوال والأذواق والمواجيد والزهد والإخلاص والمراقبة والمشاهدة والمعرفة والولاية والخصوصية والكرامة.

منحه الله إجازة تتيح له تلقى الفيضة، وإقامة الحضرات وحلقات الذكر، أقام حضرته على الحصير، لم يؤثثها بمقاعد، ولا وسائد، ولا ما يصرف المريد عن العبادة. عنى بتربية تلاميذه، وتصويب ما يلحظه من أخطائهم، يكشف لهم معالم الطريق. يشير بالنصح، يفك الكرب، يتجنب الهوى والبدعة والمنكر والشبهة. يسقط ما ينقض الشرع، أو يسئ إليه، يهدى للتى هى أقوم. تمنى أن يتيح له ما يحصله من العلم بلوغ نهاية مكاشفات الأولياء.

أباح دخول الحضرة لمن يشاء من المتصوفة والدراويش، لا شروط ولا قيود، هى حضرة الله، لا أحد - حتى منشئها - يملك فيها شيئًا.

صار فى مريديه كأنه واحد منهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. لا يأخذ على الجاهل جهله، إنما يتسلل إلى وجدانه برقيق المعانى.

جعل لكل يوم, عقب صلاة المغرب, درسًا ثمة درس السنة، والحديث الشريف، والفقه على المذاهب الأربعة، والتوحيد والتصوف, والتفسير، وجلسة الذكر والمراقبة. خصص ظهر الجمعة - عقب الصلاة - لتلاوة القرآن على القراءات المختلفة.

قدم الناس من أحياء الإسكندرية، ومن المدن والقرى القريبة ينظرون إلى الشيخ الذى عرف بالميل إلى الزهد والنسك، وملازمة العبودية. انكشفت له الأسرار، وأتى أفعالًا يعجز سواه عن القيام بها.

أولى الدراويش والفقراء من الاهتمام ما لم يجدوه عند سواه من المشايخ، وأوقف مالًا على أنواع البر والقربات وجهات الخير والصدقات.

لزم المئات حضرته، يشغلهم التبرك به، والتماس الشفاعة والبركة، والإفادة من حكمه ومواعظه.

خضع لتعاليمه وأوراده ما لا يقع تحت الحصر من المريدين. خاضوا معه رياضات التشوف والتطلع والتعلق والتآلف والود والحب والغرام والصبابة والكلف والعشق والشجن والتسليم والعظمة والجمال والجلال والرأفة والرحمة وغيرها، وإن مُنِعَ اللصوص والنشالون والفساق من التردد على حضرته، عاقب من اجترأ بفعل شنيع بما لم يبرأ منه فى جسده، عرف من أعد نفسه لفعل مماثل سوء مصيره.

أخضع الطريقة لنظام صارم فى طقوسه وأدائه، والسلوك الروحى لمريديها. جعل الأتباع مراتب ترفض الخلل، الترتيب نفسه الذى أخذت به الطرق المعتبرة.

طالب مريديه أن ينادوه باسمه مجردًا غير مسبوق بولاية أو مشيخة وغيرها من عبارات التفخيم. أذن للمريد الذى تلقى من العلم على يد شيخه ما يتيح له السير - بمفرده - فى الطريق، أن ينقطع عن الشيخ، ليبدأ سواه أولى خطواته, أو يستكمل الخطوات من بدأها بالفعل.

أقامت الطريقة صلات بمدرسة ابن عجينة، والزاوية الهاشمية والكتانية فى المغرب، والزاوية العزمية فى مصر، ومدارس وزوايا أخرى فى حواضر العالم الإسلامى.

دعا لأن يعيش الناس فى طمأنينة التصوف، بصرف النظر عن الفرق التى ينتمون إليها، انضم إلى طريقته مريدون من الفرق الأخرى، يلتزمون بآداب الطريقة، وقواعدها، وما تؤديه من أذكار وأوراد وأدعية وتسابيح وابتهالات.

ما لم يفطن إليه الشيخ، ولا وضعه فى خاطره، حنق شيوخ الطرق، غيظهم من قدوم الناس إليه، والتفافهم حوله، ولزومهم حضرته.

لما بدا التردد فى ملامح المريد فارس برهام وخطواته، رنا إليه بنظرة مستحثة:

قال فارس برهام:

- الشيخ شمس الدين.

حدجه بنظرة متسائلة:

- ما شأنه؟

أخذ عليه الشيخ سلوم قطب الطريقة الحجازية أنه أفسد الناس على شيوخ الطرق الأخرى. زاد، فاتهم الشيخ العزيزى بأنه جمع تحت إمرته ما لا عدد له من الأتباع، ليسوا من الخاضعين لأحكام الله، المقبلين على أداء فرائض الدين، لكنهم مجهولو الهوية، لا أحد يعرف أصلهم، ولا من أين قدموا، ولا لماذا اختاروا الإقامة فى بحرى.

قال العزيزى إن الطرق متعددة، كلها تفضى إلى رحاب الله. همس بإشفاقه من أن تتفرع عن الفرقة فرق أخرى لا لزوم لها، ولا ينتج عنها إلا الشقاق والإحن، وغلبة ذوى الأصوات العالية على من أخلصوا - وإن خفتت أصواتهم - للطريقة.

حين كلمه المريد ربيع روميش عن أحوال له ينكرها أرباب الفرق الأخرى. حرضوا أشياعهم ومشايعيهم، أحدثوا الخلاف فى الفرعيات، بما يشكك فى الأصول جميعًاً، نسبوا إليه شطحات تخرج عن ثوابت الدين، هى أقرب إلى البدع التى أملاها الخيال. ألقوا فى وجهه بتهم تضعه على حافة الكفر، فهو لا يأخذ من الشريعة إلا بما يحمل فائدته الشخصية. قيل إنه منذ انتصر فى آخر معاركه، ركن إلى الأعداد الهائلة للدراويش، قالوا إن الزيادة غير المحسوبة قد تؤدى إلى الفوضى، اعتذر الشيخ العزيزى بأن الدراويش نصروه فى معارك لم يكن يحب خوضها، ظلوا إلى جانبه حتى انتصر.

قال:

- يصعب على المرء - مهما تكن قدراته - أن يطرد المحبين من حضرته.

طاف أعوانه على المساجد والدور والأسوار، أزالوا ما كتب على الجدران من عبارات الشتم والسب.

لم يعد يخطر بباله شيء سوى الذات العلية، هجر ما يشغله عن الله، أخذته حياة الزهد والفقر والورع والاعتكاف والتهجد والصوم والتوكل والتفويض والتسليم والإخلاص واليقين، لم تصرفه عزلته عن الإصغاء والصمت، نفى أن تكون عزلته لمراجعة اجتهاداته ومواقفه، ما أخذه من مواقف وآراء يقف - منذ زمن - على الثبات، لا تؤثر فيه أعتى العواصف.

حين بلغه الاتهام بأنه جعل من زاوية الأعرج ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المسلمين، قال إنه لم ينكر عقيدة ولا قولًا أو تصرفًاً، كل يخلص للمعنى الذى يؤمن به، ويسعى إلى جدواه. شدد على أن الولاية لا يستأثر بها أحد، هى متاحة لكل من أخلص السير فى الطريق.

طال صمته، قبل أن يضيف بصوت غلبه التأثر:

- أورادنا شرعية، لا تخرج فى عمومها عن الكتاب والسنة.

استطرد كالمتذكر:

- نحن نختلف فى اجتهاداتنا. لكننا نتفق فى الكتاب والسنة.

تنحنح كمن يفتش عن الكلمة المناسبة:

- ما كان يجب أن أقوله، قلته.

همس المريد وهو يخفض نظره:

- القول لا يكفى.. لابد أن ندافع عن يقيننا.

فوت الشيخ الملاحظة، واستغرق فى أوراده، وإن كتم استياءه من اتهامات المشايخ، ما أثاروه لم يستند إلى الواقع. نفى ما قيل على لسانه، وأنه لم يخطر فى باله أصلًا، أنكر الادعاء - وهو يشير إلى حال نفسه - أنه يرتدى ثيابًا يدخل فيها الحرير، يضع فى عنقه سلاسل الذهب، ينام على الأسرة الوثيرة، يأكل المشتهى من الطعام.

أزمع ألا يستخدم قوته فى إيذاء الناس، ولا حتى رد الاعتداء بمثله، لا يغضب ولا ينتصر لها، لنفسه، أو لطريقته. من خصه الله بقوة، عليه أن يحترمها. ينزل المنازل العشرة التى ينزلها السائر إلى الله: المحبة، الغيرة، الشوق، القلق، العطش، الوجد، الدهش، الهيمان، البرق، الذوق.

ترصدته بلايا كثيرة، دبرها شيوخ طرق يعرف أقلهم، ولا يعرف غالبيتهم.

نقل إليه مريدوه قول الشيخ فايز أبو علي:

- على عثمان العزيزى أن يثبت أنه أهل لمكانته.

غالب ما يصعب احتماله:

- أنا لست فى حاجة لإثبات عبوديتى لله!

أبلغه مريدوه بأن الشيخ شحاتة أبو نصير شيخ الطريقة السعدية هدد مريدى الفرق بالزوال، ما لم يتركوا فرقهم وشيوخها، ويتحولوا إلى طريقته. قامت الطريقة لتتسع، وتسود، وتملى إرادتها على كل الفرق، تلغى الأعلام والأشاير والأحزاب الخاصة والأذكار، لا يبقى إلا طقوس مريدى طريقته، وما يتصل بها.

لاذ مريدو الشيخ العزيزى بجوامع الحى من ضربات الشوم والعصى والسيوف والخناجر. امتلأت بهم باحات أبو العباس والبوصيرى وياقوت العرش ونصر الدين، من ضاقت عنه الجوامع لاذ بالبيوت فى جوانب الميدان.

اعترض مريدو الشيخ عبد العليم السويفى جلوة أتباعه المتجهة من شارع الأباصيرى إلى جامع الشيخ إبراهيم قى نهاية شارع الميدان، سدوا الميدان قبالة جامع على تمراز، صعب على الجلوة أن تواصل سيرها، الدورة تبدأ اختراقها شوارع المدينة، من ميدان أبو العباس إلى جامع الشيخ إبراهيم، تميل من ميدان المنشية، عائدة إلى ميدان المرسى، الأعلام والبيارق والدفوف والسيوف الخشبية وإيذاء البدن والمدائح والإنشاد والأهازيج والابتهالات. أطلق أعوان الشيخ السويفى طلقات رصاص فى الهواء، يحذرون من محاولة الاختراق.

أغضى الشيخ عن هذه الأفعال، لم يتهيأ للعراك، حتى لو استفزته البواعث، آثر الاعتصام بالسلم، ذكّر مريديه بمداراة السفهاء، والتقرب منهم، واحتوائهم، لكن مريدى الفرق تمادوا فى أفعالهم كمن لا يعتزمون التوقف.

- لسنا كفارًا فيتوجب عليهم قتالنا!

نقل إليه مريدوه ما دفعهم إلى الاستغاثة وطلب العون، ما أنكر حدوثه. حرض المشايخ مريديهم وأتباعهم، هجموا على المشيخة العامة للصوفية يطالبون بعزله: ترصدوا لأتباع الطريقة فى الأماكن التى خصصوها لحلقات الذكر والسماع والإنشاد، هجموا على زاوية الست مدورة، نهبوا الحصر وصندوق النذور، أحرقوا كشكًا فى ناصية الميدان يبيع أوراد الطريقة.

أدرك ما كان فى غنى عن تصوره: كأن الفرق تعد نفسها لمعارك مجهولة السبب والنهاية، حدّسوا أن الشيخ أضعف مما كان عليه قبل أن يقلع عن الفتونة.

استنكر من نفسه التردد، هو الذى يرأس أكبر الطرق، وهو الذى يأمر ويقضى ويتلقى العهد. راعه ما جرى للأحوال من تبدل وانقلاب. تكاثرت الفرق بما لم يكن أحد يتوقعه، كل فرقة تأخذ على الأخرى معايب، وتكفرها. من حقه أن يطمئن إلى انتصاره، ينعم بمقامات الزهد والتوبة والورع والفقر والصبر والرضا والتكامل. لم يحقق مكانته بين الأولياء وراثة، إنما أهلته لهذه المكانة مجاهداته فى التقرب إلى أولياء الله.

عرف أن الأمور بلغت ما يصعب احتماله، لما أمسك مريدوه شابًا فى يده سكين، يترصد قدومه فى ظلمة الدحديرة المفضية إلى الموازينى. لم يتركه المريدون حتى باح بمن حرضه.

نفض عباءة أسدلها على ركبته:

- نحن كثرة تفتقد القوة.

ثمة رؤيته لنفسه، ورؤية مريديه، وثمة رؤية مشايخ الفرق الأخرى، تلك هى الرؤية التى تقلقه، وتحضه على الدفاع عن فرقته، وعن مريديه. تأخذه الأفكار الغاضبة، يتخيل من يعاركه، فيهزمه، لا يرسم له ملامح ولا تكوينًا محددًاً، هو يدافع - بكل قوته - ضد المحاولات المترصدة، تواجهه بالأذى.

خلا إلى نفسه لأداء صلاة استخارة، غادر الحضرة وفى يده شومة لم يرها معظم المريدين من قبل. همس لخواصه أنه يزمع المغايرة عن أفعال فتوات الشارع، فتوة الشارع يختلف عن فتوة الصوفية، فتوة الصوفية يدافع عن الكرم والنبل والسخاء ومحبة الغير وإنكار الذات وإيثار الخلق على النفس. أداته الكلمات الطيبة، والإفادة من القرآن والأحاديث وأقوال العلماء، لا يلجأ إلى العنف إلا لرد اعتداء يستهدف حياته. أما فتوة الشارع فأدواته الشومة والسيف والبلطة والسكين والمطواة، يهاجم للابتزاز، والاعتداء على المال والنفس، وسرقة ما ليس من حقه، والدفاع عن الباطل.

استنهض همم المريدين، أشار إليهم بالمعنى الذى لم يتصوروا عودته. قال إن السكوت عن أفعال مريدى الفرق الأخرى سيفضى إلى تعاظمها. ذكّر مريديه بآيات القرآن الحاضة على القصاص، ورد الاعتداء. قال: إذا تغير الحال فى المعركة الوشيكة، القادمة، فإن الحياة فى الخوف تتغير طبيعتها. قال: إذا لم تكن حياتى تهمنى فإن واجبى أن أحمى حياة الناس، أمنع عنهم الأذى. قال إنه لن يتخلى عن انحيازه لهم، لن يسمح لأحد - مهما تعلو مكانته - بتسويد أيامهم. قال: إنهم يدفعوننا إلى العراك، علينا أن نخرج لقتالهم، أو نظل فى أماكننا. أردف الشيخ - وهو يتجه بنظرته إلى الفراغ - إن فرقته وجدت لتبقى، وإنها لن تأذن بابتلاع فرق أخرى لها، وإن أجيال مريديها ستظل ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة، أو يأتى أمر الله.

أهمل المريدون أعمالهم، بدأوا فى التمرن، تأهبًا لرد الأذى.

رفعت الأعلام والهراوات والسيوف، هرولت الأقدام من الشوارع الجانبية والبيوت والمساجد والقهاوى، تعالت دقات الدفوف والصيحات والنداءات والأدعية.

خلا شارع الميدان من المارة، وأغلقت الدكاكين، وقبع الناس داخل البيوت، ينظرون من أخصة النوافذ، يطرحون الاحتمالات، ويتوقعون ما تغيب ملامحه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى