محمد علام - محاولات لاصطياد محمد المخزنجي

«سيارة تحمل نعشًا تهرع الشوارع بسرعة جنونية فتثير الاضطراب والذعر والملاحقات من قبل سيارات وموتسيكلات الشرطة ونداءات عساكر المرور في مكبرات الصوت، ورؤوس الناس تطل من الشبابيك والحوانيت متسائلين: لماذا كل هذا؟ توقفت سيارة النعش تطوقها الشرطة من كل جانب، وهبط التوأمان ليريا أمهما لآخر مرة، ويريا الابتسامة التي ارتسمت على وجهها فعانق كل منهما الآخر وشعرا بالرضا لأن الأم ودعت فرحانة، لكن طالب الطب كان له رأي آخر، فما يعتقده الأخوان ابتسامة، ما هو إلا مجرد تقلص ميكانيكي بسبب ميكروب حمار أو حصان تلوثت به مزقة القماش التي التقطتها الأم لتضمد جُرحها!»

كيف يمكن صياغة انسان القرن الواحد والعشرين بهذه البساطة؟ في حياة اللاقانون، في مجتمع يتمادى في تفككه إلى وحدات صغيرة تنكفئ على نفسها، كيف يمكننا أن نرى الإنسان بوضوح؟ فالحارة هنا كوكبٌ بحاله، له شكله وقانونه الخاص، حتى وإن تناصت الحارة هنا مع حارات نجيب محفوظ التي رأينا العالم كلّه داخلها، إننا هنا نرى فقط قطاعًا صغيرًا من العالم. ثمانية إخوة يعيشون متكاتفين تحصنهم القوة الجسدية والعددية. وقد عاشت الأم دون أن ترى النيل ولا الفلايك السابحة على سطحه ولا طيور النهر المحلقة ولا الأشجار الوارفة، إنها توشك أن لا تكون قد غادرت الحارة أبدًا!

استهلك رمز الأم كثيرًا في الأدب العالمي والعربي، تعامل معه كل أديب بطريقة مختلفة، والأزمة هنا هي أزمة التحول من الانغلاق للانفتاح، ويمكن اعتبار الأم هنا رمزًا للدولة القومية التي عانت ممارسة الانغلاق والتهميش على نفسها طويلًا، وعندما فتحت ذراعيها للعالم كانت ممددة في تابوتها فاقدة الحياة.

"كيف تصوّر الأبناء الثمانية وهم يحضرون إليها كل احتياجاتها أنهم يخدمونها، إنهم يحرمونها رؤية الدنيا، إنهم يسجنونها!"

وهذا هو حال إنسان المعاصر، سجن كبير وعزلة في أعماق أعماقه وشعور عارم بالاغتراب، وإذا حالفه الحظ قد يودع الدنيا بضحكة ميكانيكية، بجهله أو بكل آلامه في هذه الحياة التعسة.

الضمير

لماذا يشيع في القصص القصيرة منذ نشأتها حتى الآن السرد بضمير المتكلم؟ فقد ارتبطت القصة القصيرة بنسختها الشرق أوروبية على يد نيقولاي جوجول وأنطون تشيكوف بالمونولوج الداخلي، وامتدت إلى المونولوج الدرامي وتيار الوعي في نسختها الغرب أوروبية على يد كاثرين مانسيفيلد وفرجينيا وولف، وتنوعت استخدامات المونولوج ليعمل ضمير المتكلم لا على رصد داخل الشخصية فقط وإنما على رصد العالم من حولها واستنطاقه أيضا على يد وليم فوكنر وهمنجواي وبورخيس وغيرهم.

هذا لا يعني أن السرد في القصة القصيرة يقتصر على الأنا فقط بل لجأ عدد غير قليل من الكتاب لاستخدام الراوي العليم/ ضمير الغائب في قصصهم فواكبت القصة التطور الذي شمل السينما والتلفزيون وأوجبها أن تكون أكثر بصرية وزاخرة بالوصف والحركة معًا. لكن ربما الظروف العصيبة التي ظهرت فيها القصة القصيرة وهي تعد أحدث الألوان الأدبية ظهورًا في فترة انقسام العالم بين كتلتين شرقية اشتراكية، وغربية رأسمالية، جعلها تحاول أن تنفض غبار الشمولية والتعميم وتبحث عن الإنسان مجردًا من أي أغطية فكرية أو سياسية أو دينية، ولذلك جاءت تعبيرًا عن الانسان بالانسان، لصيقة بالفرد أو كما وسمها فرانك أكونور بـ الصوت المتوحد أو الصوت المنفرد، إنها فن استنطاق الفرد وتصفية مشاعره، فن العزلة، فن الوحدة، فن الإحساس بالألم.

وضمير الغائب غواية في مجموعة صياد النسيم؛ لم تستمر طويلا على مدار ستة عشر قصة قصيرة، فالشخصيات تتزاحم من أجل البوح منذ القصة الأولى "كيف صرت طاهيًا ماهرًا في ليلة واحدة؟"

"دون كتب طهي ولا سابق تأهيل فجأة وبعد ليلة محددة من شتاء 1986، استيقظت فوجدت نفسي طاهيًا ماهرًا، وأخذت تجليات هذه المهارة تتألق كلما واتتها الفرصة للظهور".

بهذه الفقرة يفتتح الطاهي القصة، وهي توهمنا للوهلة الأولى أنها إجابة للسؤال: كيف صرت طاهيًا ماهرًا في ليلة واحدة؟ لكن القارئ لا يقنع بهذه الإجابة ويستمر في الخوض في عقل الراوي، الذي يستطيع معرفة مكونات أي طعام بمجرد تذوقه، وعلى العكس من جان باتيست غرينوي بطل رواية العطر لباتريك زوسكند الذي يأخذنا في رحلة قدرته الخارقة على شم رائحة عرق الإبط ودهن الشعر والسمك وكافة الروائح الحية وكيف قادته ليرى العالم، وإلى أي مصير.

إن الطاهي هنا يأخذنا في محاولة تبرير قدرته الخارقة -لا سرد نتائجها- كيف اكتسبها في ليلة واحدة ومتى جاءت له أو ذهب إليها؟

"فقبل تلك الليلة من شتاء 1986، ظلت الدنيا تمطر لثلاثة أيام كاملة.. مطر غزير عنيف ومتواصل يبعث على الإحساس بالرهبة"

وتستمر الشخصية من هنا في رواية كل التفاصيل المهمة والعابرة، إلا رواية نفسها، فعن الشاعر الذي مات في هذه البلدة بسبب جرعة زائدة من مهدئ تناولها عن طريق الخطأ كما يخبرنا الطاهي. ولو أن القارئ قد لا ينتبه للشاعر الذي ظهر فجأة؛ لينتبه أنه مات منتحرًا أو عن طريق الخطأ. وقد يغفل المعلومة تمامًا ويعتبرها من التفاصيل الزائدة عن الحاجة. لكن الراوي يصر على جذب شخصياته ووضعها في منتصف عدسة وعي القارئ:

"لقد فارق الشاعر الحياة! وجُنَّ جنون المطر الذي كنت أسمعه ولا أبصره، لأنني لم أكن أرى ما أمامي، بل أحدق في داخلي الذي انطفأت فيه الأنوار بغتة. كان المطر الأشد عنفًا في حياتي، يجلدُ نفسه على السقوف والجدران والأبواب والنوافذ بضربات سياط قاسية، وبدا أن العالم سينهار متفتتا على وقع هذا المطر الوحشي. تصاعد عنفه إلى حد مخيف، مخيف، ثم همد فجأة كاشفا عن وحشة العالم مغسولة جلية".

إن التعامل بحساسية مع شخصية الشاعر والتأرجح بين ربطه بالواقع الفعلي المعاش وبين جعله عطرًا يفوح في ثنايا العمل القصصي يجعل للقصة طابعًا مغلفًا بعوالم السحر اللذيذ. ويظهر الفنان التشكيلي في هذه الليلة فجأة بعد غياب طويل، وكأن المطر أحضره إلى منزل الطاهي ليذكره فقط بأنه جائع ويهبطا إلى الشوارع فيلتقيا بائع الطعمية الذي نتسلم خيوط حكايته دفعة واحدة بمجرد لقائه، فنعرف قصة هجرته من الإسكندرية بعدما فقد أسرته تحت أنقاض منزله الذي انهار بغتة.

إنها صفعة على ذهن القارئ، كل العوالم السحرية التي تهيأ لها تم تقويضها في لحظة ظهور بائع الطعمية، هذا البرولتاري الرث، مُهاجر من الإسكندرية ليزيد القاهرة زحامًا، ويزيد القصة زحامًا ويزعج القارئ الذي لم يعرف كيف صار الطاهي طاهيًا ماهرًا في ليلة واحدة؟

اغتيال

بعض النقاد يصفون ضمير الغائب بأنه عين السماء، التي تطلع على كل تفصيلة في أصغر ثنايا الكون الرحيب، وهذه الطاقة تم الاستفادة منها في آثار عظيمة، كان الراوي العليم فيها يعلم عن الشخصيات أكثر مما تعلم نفسها في أحيان، وفي أحيانٍ أخرى كان يتقلص دوره للرصد فقط وتجنب إعطاء أية تفسيرات.

وفي قصة "شجرة الباوباب"؛ ينكمش الراوي من حجم السماء، إلى كاميرا صغيرة مثبتة على كتف الطبيب الذي هبط من منزله على إثر اعتصام النهضة، لفضول نجهل دوافعه وغاياته، كما نجهل كل شيء عن الشخصية الوحيدة لدينا هنا، نجهل مظهرها وعمرها واسمها وانحيازاتها الفكرية والسياسية والدينية، ونجهل بناءها النفسي كله حتى ينتهي العالم –القصة. إننا نجهل سبب نزولها إلى ميدان الأحداث غير أن الراوي قرّر بذلك. ولذلك بمجرد انخراط الطبيب في جموع الناس، يرتفع الراوي قليلًا عن كتفه ويبدأ في سرد الأحداث محاولًا أن يظل محتفظًا بخواصه ككاميرا فقط، ويتجنب إطلاق الأحكام، ولعل ذلك استوجبته حساسية الأمر الذي مازال يكتنفه شيء من الغموض. إنه رصد بعين راوٍ ليس عليمًا بأي شيء، فصار ظلًا للإنسان على الأرض، والسؤال هل يختلف الراوي عن الطبيب بطل القصة؟ هل يختلف عنه في الوعي وحساسية الرؤية؟

أعتقد أن المبرر الوحيد لاستخدام راوٍ غير حاضرٍ هو محاولة إضفاء طابع من الحياد والموضوعية، رغم أن محاولة تجريد الراوي تمامًا لم تُفلح كثيرًا، حيث ساهم في تسريب وعي آخر مُحاك للقارئ من خيوط حرير. فـ "ثورة 30 يونيو" ومتاريس "الإخوان أو المتعاطفين معهم"، والرؤية تضيق عند رصد الضحايا من فريق واحد فقط وضخ مشاعر التعاطف معه وإبراز أسباب الكراهية للآخر، كل هذا يجرد الراوي من حياديته ويُسقطه من سمائه على الأرض ويجعله ظلًا للشخصية الرئيسية / الطبيب، فلماذا التستر وراء حيادية غير موجودة إذن؟ ألا يستحق الانسان أن يلقي بشهادته حتى وإن لم تكن حيادية في عصر ليس حياديًا بأي شكل من الأشكال؟

الشخصيات التي يغتالها المخزنجي في قصة بعد قصة، لا تستسلم له بسهولة، بل تدافع عن حقها في تقديم نفسها عنوة، فتبدأ القصة بثرثرة لا تتوقف. إن معظم شخصيات المخزنجي إن لم تكن طبيبة، لها علاقة بطبيب يقحم تفسيراته في أحداث القصة، ويمكن اعتبار هذه النغمة مميزةً لكتابات المخزنجي عمومًا، خاصة في "حيوانات أيامنا" و"سفر" وغيرها، ورغم تنوع البيئات التي تعرض لها المخزنجي في مجموعته الأخيرة "صياد النسيم" وقدرته على النفاذ للحارات الشعبية بسلاسة وبراعة والتعرض للمهمشين والكادحين، فإن شخصيات أخرى يكون لها وعي الطبيب، أو بالأدق هو الوعي التجريبي بالكون، والثقافة العلمية التي تقودها وتقود تفكيرها في أمور حياتها.

إن المحاسب بطل قصة صياد النسيم والذي أنا شخصيًا لا أصدق أنه محاسب أو له علاقة بالمحاسبة من قريب أو بعيد، فلو قدّم نفسه على أنه طبيب أو مهندس ربّما صدقته، ولعلّه لو لم يقدّم نفسه نهائيًا لكان ذلك أفضل لنا وله.

"مجرّد مُحاسب مهتم بقضايا البيئة، قدّم ابتكارًا يُعيد تأهيل تلك المساكن التي تطيح بكل البديهيات التي تُخفف الحرارة داخل البيوت في بلدنا الذي صار ويصير حارًا أكثر مع الوقت... ونجح النموذج التجريبي في شقتي القبلية التي تبهظ حرارتها الروح، فحولها إلى بحرية ترد الروح، لكنها انتكست قبلية من جديد، ولسبب شبه هزلي وضعه الواقع أمامي عنوانه دودة بشرية تزحف على الأرض بسرعة دراجة منطلقة على الأسفلت، ووراءها قُرداتي كالح وقردٌ مقروح وكلبٌ أغبَر، ومساخر أخرى. دعوني إذن أحكي الحكاية"

على طريقة الحكايات التشويقية التي تتصاعد أحداثها في خفة يبدأ المحاسب في قصِّ حكايته وهو يوجه كلامَه إلينا نحن "جمهور القراء" ويمكنني أن أحكم عليه بأنه شخصية مستغلة، لأنه يفترض دائمًا ما لا نفترضه نحن، ويحكم على أمور قد نراها نحن بمنظور مخالف. يا له راوٍ خبيث، يريد أن يوجهنا إلى رؤية المساخر على أنها مساخر، ونتعامل معها على هذا النحو. إنه نوعٌ من التهييء النفسي للقارئ؛ أشبه بالتنويم المغناطيسي الذي يستخدمه الطبيب النفسي، وهذا الأسلوب مسيطر على أكثر من قصة في هذه المجموعة، وأعتقد أن معظم القصص التي تستخدم ضمير المتكلم لا تتخلص من النزعة الذاتية فيها، والتي تعكس الكاتب ظلًا لشخصياته داخل الدراما.

"الملقف أو مصيدة الريح، ففي بيوت القاهرة القديمة تؤدي وظيفة التهوية في الأبهاء أو القاعات الرئيسية بواسطة تجهيز يُدعى الملقف يصطاد الريح القوية النقية بفتحات مواجهة لجهة هبوبها من زاوية مناسبة بصرف النظر عن توجيه البيت. ويكتمل ذلك الملقف بتصميم خاص للغرفة ليكون مركزها المُسمى درقاعة عاليا جدا بما يجذب الهواء الساخن عند القمة فيسهل طرده".

وأطلق عليه صياد النسيم، وبعد الحكاية عن علاقة عاطفية نشأت بين المحاسب ورحلة صناعة المصيدة أو كما أطلق عليها صياد النسيم، تبدأ متاعب حكاية علاقة عاطفية جديدة، "وكيف تدوم النعمة داخل فقاعة نقاء ورحمة تضطرب على موج مُحيط هائجٍ مُلوث؟" ويأمرنا أن نتخيل كابوسًا عن أن أفعى أناكنودا قد دخلت من شباك صياد النسيم إلى الشقة، ثم يُفيقنا من الكابوس بأمر جديد: أن نتعجب مما رآه هو وحدث بالفعل، فالصدق يقول المحاسب أنه رأى رجلًا محشورًا في أنبوب الصياد، يطل رأسه في الغرفة، ومع الفانتازيا الخفيفة التي غلفت القصة من بدايتها يبدأ العزف على وتر الكوميديا فيصيبَ النغم، عندما يصرخ المحشور بأنه محصور! وتبدأ رحلة تعاطف المحاسب مع وضعه ومحاولة تخليصه من حصرته، ثم الاستماع إلى حكايته، ثم تخليصه من حشرته.

المجتمع الجديد

لقد قدمت هذه المجموعة إجاباتها على عديد من قضايا القصة مثل الطول والقصر والحبكة، وأثارت أكثر مما أجابت أسئلةً عن الإنسان وحاله ومستقبله. وقدمت رسمًا كاريكاتوريًا للمجتمع، يمكن الجزم بأنه مجتمعنا فعلًا، دون اللجوء لاستعارة تصورات للمجتمع من الذاكرة، وكم من قصص تُكتب هذه الأيام تحت ستار الواقعية، ليست واقعية على الإطلاق، بل يعتريها الاغتراب والسرد من الذاكرة. وربما كان وتر التذويت الذي عزف عليه المخزنجي ببراعة واقتدار من أول قصة إلى آخر قصة له أثره السحري في ربط واقع قصصه بواقعه والمساعدة على التعرض لأحداث عامة قريبة الحدوث ولمظاهر حياة يومية لم تنكرها الشخصيات القصصية وهي تسلمنا إلى حكاياتها أو كما يسلم الدكتور المخزنجي الشخصيات إلى حكاياته هو.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى