كتاب كامل محمود سعيد - عسل الغرام.. قصة قصيرة

جال السائق الأفغاني بعينيه، يفتش بحيرة عمن يفّك له قطعة النقد فلم يجد في مقهى- النار البيضاء -سواي، لكنه تجاهلني لفراسة طبيعية فذة، أو لأنه وجدني أقرأ في كتابي الهزلي الذي وددت أن يبدد كآبة إفلاسي، فترفع عن مقاطعتي وظل مشدوهاً بجمال الفتاة الطاغي ذائباً يكاد يتلاشى، بينما كانت الفتاة تستثمر كل طاقاتها بنشوة غرور مراهقة لتسيطر لا عليه حسب بل على كل العالم، هتفت بغنج:

- هيدا الفلوس.

وضحكتْ، فازداد اضطرابه وتلاشيه، كان يقف أمامها محتاراً مأزوماً لا يدري ما يفعل، وكانت تنظر إليه بابتسامة عذبة ساخرة رافضة أن يشركها في مأزق وقع هو فيه، فكونه لا يملك صرفاً مشكلة لا علاقة لها به.

مرة أخرى تنقلت عينا السائق في أرجاء المقهى الخالي هرباً من هيمنة شخصيتها الطاغية القدرية وضحكت فازداد حرجاً، واحمرت وجنتاه، وتغضن ما حول فمه، خلته سيبكي، أي مأزق؟ ماذا ستفعل الدموع بهذه اللحية الأنيقة؟ ونظر إليها من جديد مستعطفاً فموسقت:

- غرمت فيني.

لم يفهم الأفغاني كلامها، كما أنها لم يكن يهمها أن يفهم، كانت تعيش حالة انتشاء فياض، الابتسامة لم تفارق شفتيها، كانت بحدود الثامنة عشرة، طويلة رشيقة على حافة الامتلاء، وكانت ترتدي تنورة طويلة حتى القدمين ذات لون تبني، وقميصاً وافر الأكمام، من نفس اللون تحت صدرية مخمل‘‘مارونية’’ ذات حاشية ذهبية، وباستثناء الورد المتفجر من شفتيها المملؤتين كالإعصار كانت سمرتها الخفيفة طبيعية نضرة صافية كماء رقراق، ولولا اندفاع فتاة بنفس العمر تقريباً ولكن أقصر قامة، وأشد نحولاً نحوها لظننت أن الأفغاني سيتبخر من فرط حرارة البركان الذي يواجهه.

كانت المراهقة الثانية التي نبتت أمامهما قشة إنقاذ للأفغاني، فأدرك إن محنته انتهت، شخصت عيناه نحو السماء:

- الحمد لله.

كانت ترقص من الفرحة وهي تجول بعينيها في أرجاء المقهى الأنيق الخالي الذي تضافر فيه شيئان متشابهان لخلق جو شاعري: ضوء خافت وموسيقى هادئة، وإذ لم ترَ غير مخلوق عاجز عن الأذى يدفن وجهه في كتاب قفزت مرحاً، تنهدت وهي تتفجر إثارة:

- جاءا.

كانت ترتدي سروالاً من ‘‘الجينـز’’ السماوي تحت قميص أبيض ملتصق بالصدر والخصر والأكتاف، ينـزل على الساعدين بضع إنجات لا أكثر، فيما يكاد قوس الجيد الأمامي ينحسر حتى أعلى الثديين، كاشفاً سفحيها النافرين، كبرعمي ورد ناتئين، فالتفتت الطويلة بهدوء مغناج نحو الباب الزجاجي العريض الذي انفتح فجأة ليحتله فجأة مراهقان بنفس العمر تقريباُ، فتيان أحدهما طويل والثاني أقصر منه، اتجه الطويل نحو المراهقة الفارعة، صافحها فبدا كأنه أخاها، كان مثلها ممتلئاً ولكن برشاقة، خفيف السمرة، هادئاً، فرحاً، واثقاً من نفسه، بينما كان زميله أشبه بالمراهقة الثانية أقصر وأشد بياضاً، وكان يرتدي أيضاً سروالاً أزرق من ‘‘الجينـز’’ تحت قميص أبيض نصف ردن ويشد رباطاً أزرق حريرياً مقلماً بالأبيض، وبدا الفتيان كل مع مراهقته أشبه بالأخوين لا بالعاشقين، ولعل الأربعة تواطؤا على أن يبدو الأمر كذلك.

وباختفاء الأفغاني فاحت رائحة غرام استحالت موجة عطر سامٍ احتلت المقهى الخالي.



كان التوقيت مثالياً للتمتع بخلوة العمر، ولابد أن الإعداد له ما كان ليتم صدفة بل عبر مراقبة دقيقة للرواد لا يمكن أن ينجح فيها إلا في مثل هذه الفترة الدقيقة، بين المغرب والعشاء يخلو المقهى تماماً ولمدة بين نصف ساعة إلى ساعة تقريباً، وبالرغم من أنه لم يكن يغلق طيلة النهار إلا أنه يزدحم بين العاشرة صباحاً والثانية بعد منتصف النهار، ثم يكاد يخلو ليشهد بعض الحركة المتقطعة عصراً ثم يعود ليخلو في هذه الفترة إلا من بعض راغبي ‘‘الكيك’’ الجاهز الذي يُـتفنن في إعداده تحت إشراف صاحبته مسز فرهاد دفتري، الإيرانية الكهلة التي تتحدى الشيخوخة بالتصنع والأناقة.



جئت مبكراً مع كتابي الهزلي هذا المساء لعلي أتغلب على المرارة التي خلفتها خسارتي بعد أن تأكدت أن التمر الذي اشتريته من كربلاء، بكل ما أملك، والذي أبحر به ‘لنج’’ محلي يقوده طاقم هندي من ميناء أم قصر العراقي، قد وقع بيد دوريات التحالف التي تنفذ الحصار على العراق، وأنهم أعلنوا عن مزايدة لبيعه في الكويت ليسددوا بثمنه جزءاً من خسائر حرب، كنت وأمثالي أول من فوجئ باندلاعها، وأول من اكتوى بنارها، كدت أفقد وعيي فاستعنت بكتاب هزلي ومقهى خالٍ لأقفز فوق الكارثة بنوع من خداع الذات، بيد أن فرحة المراهقين أمامي تجاوزت تأثير مفارقة الكتاب، ولكوني الفضولي الوحيد في هذه المسرحية الحية، فقد أحسست بامتياز أدرج انكساراتي وهزائمي إلى خانة الدرجة الثانية من حيث الأهمية.



كان جو المقهى مثالياً للعاشقين في هذه الفترة: التلفزيون الضخم يعرض مسلساً أمريكياً يتكدس بحسناوات مثيرات، ولكن من دون أي صوت، ليفسح المجال لموسيقى شهرزاد تنساب من منافذ خفية مزروعة في أرجاء المقهى بحيث تسمع في كل مكان على نفس الدرجة من الخفوت والوضوح، ولم تكن الإيرانية بقادرة على خدش جناح فراشة، حتى غدوها ورواحها المتواتر والمستمر ما كان يثير ليؤثر البتة، فهو منصب على تجهيز المقهى بالكيك وأنواع المشروبات، وباقي المستلزمات فقط، أما النادلة الفليبينية ذات السمرة الفاتنة فما كانت لتهتم بشيء غير رضى سيدتها التي تبادلها بين الحين والآخر نظرة حب حميمة تتجاوز علاقات العمل، فكانت تسير الهوينى على بساط من بيض، أما أنا فلم أكن بنظرهم سوى قارئ كتابٍ لا يحل ولا يربط، لذا فقد انصب تركيز المراهق القصير على مراقبة العاذلين المحتملين خارج المقهى، فمنذ أن وصل باشر بفحص المكان زاوية زاوية، ومن ثم اختار منضدة لا يمكن أن يَرى من يجلس حولها أحد من الخارج، جلست الفتاة الطويلة وظهرها إلى واجهة المقهى يلاصقها صاحبها الأسمر الطويل، بينما جلست القصيرة وظهرها إلى الممر الرئيس في المقهى وبحيث لا يستطيع أن يرى متسوقو ‘‘الكيك’’ أي واحدة من الاثنتين إلا بحركة متعمدة، كانوا يجلسون متحفزين للكلام، للملامسة، للذوبان، تحتد نفوسهم بصراعات لم يخفها اضطراب حركات أيديهم، أو انكسارات وتوهجات نظراتهم، ولابد أنهم أحسوا بوطأة تجربة كبرى يمارسونها أول مرة فأرادوا أن يجتازوها بسلام على أفضل وجه بيد أنهم أعوزتهم التجربة، فظلوا صامتين برهة لا يعرفون ما يفعلون ينتظرون أن يقوم أحدهم بمبادرة تفتح الباب للآخرين، ولعل انتفاض المراهق القصير حينما رأى أحد الشباب يمر من قرب الشباك في الشارع وينظر نحوهم كان رد فعل عفوي على ما يشعر به الجميع من توتر، كنت أقرب الناس إلى الشباك بضع سنتمترات فقط، بيني وبين الشارع ستارة بارتفاع قدم من أوراق الظل والزهور يعلوها زجاج واسع يعطي الانطباع بأني جالس على الرصيف لا في الداخل، وكانت هناك ستارة من مشبك قطني مفتوح إلى الجانبين لا تمنع الرؤية بل تكمل ‘‘الديكور’’.



أصبح المراهق فجأة بالقرب مني، فتبدت آنذاك أناقته: الرباط الحريري، والقميص المكوي بعناية، وشعر كستنائي خفيف، عينان كبيرتان نافذتان وبشرة صافية، من دون أن يستأذني أغلق الستارة فلم أعد أرى من الشارع سوى نصفه البعيد، في الوقت الذي أحكم بحركته تلك التستر، وسِتر جلسة العشق الجماعي من مستطرقي الشارع، فرجعت عيناي من جديد إلى قلب الجلسة الجماعية ألعق متطفلاً عسل غرام يفيض من أعين ومسامات وتقاطيع عشاق أبرياء لا ينبسون بأي كلمة، يطفو هدوء عميق فوق رؤوسهم، هدوء سطحي يغلف قلوباً ممتلئة ناراً وضراماً، كانوا جامدين في الظاهر لكنهم يحتدمون حركة في الداخل، ولم تكن عندهم من وسيلة للتلاحم إلا الأعين، إلا النظرات مسكونة بالدفء والعذوبة والرغبة.



لم يتحرك الطويل إلا حركة واحدة فقط، وضع كفه فوق كف صاحبته، كانت تركت ساعدها الأيسر يمتد على المنضدة فأتاحت له فرصة عناق أصابعها، كمن يمسك عصفوراً ساكناً براحته، أغمض عينيه ليتشرب اللذة، لذة توحد جسدين بنار خلاقة محرقة، ولابد أنها شعرت نفس شعوره، أغمضت عينيها أيضاً لتبارك ذلك التوحد المرغوب، وبلهفة عذراء عطشى، بينما كان القصير ينتفض من الإثارة وساعده العاري يلامس ساعد مراهقته، وكان بين الحين والآخر يحس بحاجة إلى تلاحم أشد فيضع ساعده كله فوق ساعد ملاصقته، ويغمض عينيه برهة، ثم يفتحها، ليعود متحفزاً، ويراقب الطريق، والمقهى و‘‘كاونتر’’ المعروضات الشهية فإذا اطمأن عاد إلى التفاف الساعد بالساعد، لكن النادلة الفليبينية اقتحمت هي و‘‘الكيك’’ و‘‘الكاباشينو’’ العالم السحري للأربعة، أعادتهم إلى واقعهم، اعتدلوا جميعا،ً ابتعدت السواعد والأصابع عن بعضها البعض، أخذوا يراقبون حركاتها البطيئة، وهي تنزل طلباتهم قطعة قطعة، مشيعة بتصرفها الرتيب هذا موجة العشق العارم، عندئذ وجد اللسان فرصته، تمتم القصير كلمة فجرت الضحك والقهقهة، عندئذ عادت المراهقة الطويلة إلى غنجها وكبرها اللذيذين فابتسمت، ضحكت، نكتت، وبدا أن هناك بحراً من مخزون الكلمات سينطلق من قمقمه ليضفي متعة تبادل أحاديث لا تنتهي، لكن الهدوء ساد مره أخرى بولوج ثلاثة شبان بنفس العمر تقريباً، كانوا يضحكون، ويصخبون بصوت عال، ربما ظنوا المقهى خاليا،ً فانطلقوا متحررين من القيود، كان بيد كل واحد منهم هاتف متنقل وإذ توقفوا قرب ‘كاونتر’ المعروضات الزجاجية، اختاروا كمية كبيرة من الكيك، بدت وكأنها لدعوة أو وليمة، وأشار أحدهم إلى صينية ‘كيك’ مغطاة بالقشدة البيضاء، وعرض على صاحبه أن يشتريا ثنتين يرمي أحدهما وجه الآخر بها، ونادوا النادلة الفليبينية وسألوها عن أسعار الصينيتين، وبنفس الصوت العالي استفسروا عن كل شيء، حتى إذ انتهوا من طلباتهم التفتوا مصادفة، فوجئوا بالعاشقين، صمتوا كلية، ولا بد أنهم ذهلوا لقداسة الجلسة، وخصوصيتها حيث تتلاحم البراءة فيها بالرغبة، فاختفت أصواتهم، توجهوا بهدوء نحو منضدة قريبة بانتظار الانتهاء من تجهيز طلباتهم، لكن حركتهم تلك باتجاه مركز العشق جمّد حركة العشاق، فانحسرت نظرات الأربعة عن وجوه بعضهم البعض الآخر، واكتفى الطويل بملعقة واحدة من رغوة القشدة الحليبية الممزوجة بالقهوة والسكر، ثم نظر إلى صاحبه نظرة ذات مغزىً، نهض الأربعة إثرها، يسبقهم القصير بسرعة البرق نحو الشارع، أوقف سيارة أجرة بينما تبعته الفتاتان بتثاقل، وقد غامت الدنيا في تقاطيعهما، تجران أرجلهما جراً، وببطء كأنهما تسران إلى اللحد، وإذ جلستا في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة انحنى الشابان نحوهما حتى كادا يسدان باب السيارة المفتوح بجسديهما وهما يودعان الفتاتين ويصافحانهما، فابتسمتا على مضض، لكن القصيرة لم تعد تتحمل، تشنجت بينما تكلم الثلاثة بوقت واحد، أخذوا يؤشرون بأيديهم، ولما كنت في المقهى، وكانوا في الشارع، فلم استطع سماع أي كلمة مما قالوا، وخيل إلى أنهم قضوا بضع دقائق على تلك الحال، بعدها أغلق الشابان باب السيارة، فيما طفقت القصيرة تمسح دموعها، وهي تنتفض، ثم أخذت مع صاحبتها تؤشران من زجاج السيارة الخلفي، تلوحان بكفيهما حتى اختفتا، والشابان ينظران بجمود وخيبة إلى نفس الجهة، وكأنهما تمثالان لا يتحركان.

دبي:1994

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى