سهير سلطي التل - تجليات حادث عابر.. قصة قصيرة

ككل صباح, صدرت الصحف, انطلق باعتها إلى الإشارات الأكثر ازدحاما ليجرحوا حناجرهم بالصراخ على أكثر العناوين إثارة:

- بدء مفاوضات السلام.

- الأمطار الأخيرة تبشر بموسم خير.

- ارتفاع أسعار بعض السلع التموينية.

- انخفاض سعر صرف الدولار في البورصات العالمية.

تداخلت نداءاتهم.. ولم يفطن أحد إلى نداء صامت صغير, ألصق في اللحظة الأخيرة, في قعر صفحة مكتظة بالإعلانات ويدعو المواطنين إلى التعرف على صاحبة الصورة...

كعادتهم تحلقوا حول فناجين قهوة الصباح. ثمة ما يكفي لثرثرة طويلة وتقليب صفحات الصحف قبل بدء يوم عمل رتيب.

صاحت موظفة من أقصى القاعة:

- اسمعوا، جريمة .....

وأخذت تقرأ بصوت لعوب:

"عثر أحد حراس الغابات على جثة صاحبة الصورة، الرجاء ممن يتعرّف عليها أن يبلغ أقرب مخفر شرطة ...".

هتفت أخرى بصوت لا يقلّ غنجا:

- يا حرام‍‍‍‍

سأل ثالث باهتمام:

- على أي صفحة؟

قفز رابع من مكانه، وانحنى على الصحيفة المفرودة على المكتب المجاور وصاح:

- امرأة جميلة كيف قتلت؟

هتف خامس:

- ربما ماتت دهسًا وسط الغابة؟

مطت الأولى شفتيها مستنكرة وأشار آخر إشارة ذات مغزى، معتذرا عن الإفصاح، لوجود سيدات ... وأسكت حضور المدير الجميع.

***

كعادته في اجتماعه الصباحي عدّل قبعته بعد أن تأكد من لمعان حذائه والنجوم المعلّقة على كتفيه وأزرار سترته المميّزة ... قطّب جبينه وبدأ حديثه بصوت جهوري رصين ...

كعادته إزاء كل حادث غامض أكّد على ضرورة اكتشاف كافة ملابسات الحادث بالسرعة الممكنة. وكعادته نظر شزرا إلى أحد ضباطه الصغار الذي أبدى مخاوفه من صعوبة اكتشاف ملابسات هذه الحادثة بالذات ... وأيضا لم يتوانَ عن عرض كافة احتمالات مسبّبات الحادث مشيرا إلى أن في الأمر جريمة لا تخلو من بُعْد سياسي أو أخلاقي ...

كما يفعل بكل جثة يُطلب إليه فحصها لمعرفة أسباب الوفاة. بدأ الطبيب برفع الغطاء الأسود عن الجثة الممددة على طاولة التشريح, حمد ربه لعدم تعفن الجثة. وشكر بسره عميقا مكتشفها الذي سارع بإبلاغ الجهات الأمنية... ولم يتوان عن إطلاق صفيرة إعجاب ممطوطة عندما صدمه سواد الشعر المتكسر على بياض الجثة التي لم يفقدها الموت نضارتها... نظر إلى العينين نصف المغمضتين الموحيتين بذبول آسر, استلّ مشرطه, دار حول الجثة دورتين كاملتين, توقف عند جزئها السفلي, وضع مشرطه, خلع قفازه الطبي, باعد ما بين القدمين المنفرجتين, انزلق بأصابعه اللزجة فوقهما, تراجع الموت, تحولت الجثة إلى جسد شهوي نائم...

وعندما كتب تقريره لم يشر إلى القطع المدمي في رسغ اليد اليسرى...

ككل يوم يمضي في أكثر الطرق وعورة هربا بحمله عن الأعين الفضولية, ليس مسموحا أن تُقطع أغصان الغابة, لكنه يستعين بها على برد الشتاء الذي لا يملك ما يكفيه شرها من نقود يشتري بها وقودا... كان منهمكا بتحسين وضع حمله الثقيل عندما اصطدم بشيء يشبه قدما آدمية, اعتدل فإذا بها قبالته. تومئ بابتسامة شاحبة مستندة بظهرها إلى جذع صنوبرة غليظ... ظنها تدعوه للجلوس, لم ينتبه إلى موتها إلا عندما ردت على تحيته المتكررة بصمت عميق.. وعندما اقترب منها مالت على جنبها فظهر جهاز أقرب ما يكون إلى " ترانزستور " صغير...

متأرجحا بين الخوف والفرح التقط الجهاز, أصلح وضع حمله, وولّى باتجاه كوخه مقررا العودة لإبلاغ الشرطة, فرحا بالجهاز الذي سيكفيه شر خشخشة جهازه القديم....

يطفو فرحه بالجهاز الغريب. يعبث بأزراره غير المألوفة. ينطلق صوت الصبية مجروحا ممزوجا بالأنين. يمتلئ بالرعب. يلتفت إلى الخلف, يشعر بها تطارده, يتعثر بحمله, يهوي, ينزلق الجهاز إلى قعر المنحدر, يرمي حمله الثقيل ويهرع إلى أقرب مخفر شرطة مبلغا عن وجود شياطين في المكان....

ككل صباح صدرت الصحف اليومية، امتلأت بالعناوين المثيرة التي تجرح حناجر الباعة، تحلق الموظفون حول جريدة اليوم بعد أن نسوا أخبار الأمس عقد الضابط اجتماعه الصباحي وأنهاه دون التطرق إلى كشف ملابسات حادث الأمس، واصل الطبيب عمله بتشريح الجثث والتأفف من عفونتها. طلب الحارث نقله إلى غابة أخرى لا تكتظ بالجنايات والجثث...وحده الجهاز بقي في قعر الوادي يدور....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى