ألف ليلة و ليلة محمود سعيد - ألف ليلة وليلة.. ثانية (2-2) - التكرار يؤكد إفتراض وجود مؤلف واحد للكتاب

بعض الاشعار يذكر لمرة واحدة، وهذه اشعار قليلة لا تزيد عن خمسين نصا. فأما الاشعار الاخرى او التي تزيد عن ثلاثمئة نص، فقد اعيد بعضها مرتين، وبعضها اكثر من ذلك. كما ان بعضا منها اعيد بتغيير طفيف، بسبب رغب المؤلف في التنويع، ولو كان الكتاب من تأليف مجموعة من المؤلفين، لما برزت هذه الظاهرة، اذ سيكون لكل واحد من المؤلفين قاموسه الشعري المغاير، وميله الى شاعر معين، وذوقه في انتقاء الاشعار الى هذه الدرجة او تلك لقواميس الآخرين، فيستغني بما لديه من اشعار عن اعادة اشعار المؤلفين الآخرين او تغيير بعض حروفها.

وعلى سبيل المثال، فان قول الشاعر:

قل للمليحة في الخمار الاسود

ماذا فعلت براهب متعبد

يظهر مرة بهذا اللفظ، ومرة بألفاظ اخرى:

قل للمليحة في الخمار الاسود

ماذا فعلت براهب متزنر

اي يلبس الزنار، وهو الحزام. وسبب التغيير وجود بيت آخر على قافية الراء يريد مؤلفه ان يستشهد به. والتغيير إحد ألعاب الشعراء آنذاك ويظهر في مقامات بديع الزمان الهمذاني (ت 498 هـ). وهو زميل ابن سكرة وأحمد ابن فارس.

قولي لطيفك ينثني

عن مضجعي وقت المنام

كي استريح وتنطفي

نار تأجج في العظام

دنف تقلبه الأكف

على بساط من سهام

أما انا فكلما علمت

فهل لوصلك من دوام

حيث يمسك الراوية المعنى ويغير القافية الى:

قولي لطيفك ينثني

عن مضجعي وقت الوسن

كي استريح وتنطفي

نار تأجج في البدن

دنف تقلبه الأكف

أما أنا فكما علمت

فهل لوصلك من ثمن

ومرة اخرى يتم التغيير الى:

قولي لطيفك ينثني

عن مضجعي وقت الرقاد

كي استريح وتنطفي

نار تأجج في الفؤاد

دنف تقلبه الأكف

على بساط من سهاد

أما أنا فكما علمت

فهل لوصلك من سداد

ومرة رابعة تمسك بطلة الحكاية المعنى والألفاظ وتغير القافية، بناء على طلب الخليفة هارون الرشيد، فتقول:

قولي لطيفك ينثني

عن مضجعي وقت الهجوع

كي استريح وتنطفي

نار تأجج في الضلوع

دنف تقلبه الأكف

على بساط من دموع

أما أنا فكما علمت

فهل لوصلك من رجوع

وهذه القصيدة تغنيها أم كلثوم.

ولو كان عصر التأليف متأخرا عن القرن الرابع كثيرا، لوجدنا استشهادا اضافيا على هذه الابيات التي اوصلها بعض شعراء القرن السابع الهجري الى ثمانين بيتا.

وهناك مجموعة من الاشعار تكررت في سبعة مواقع، وكرر ابياتا بعينها اربع عشرة مرة، وهي لشاعر واحد، هو العالم اللغوي “أستاذه” ابو الحسين احمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة. ومن ذلك قوله:

ونفسك فز بها ان خفت ضيما

وخل الدار تنعي من بناها

ورواه مرة وخل الدار تنعي من بكاها. كما انها تمثل اهتماما خاصا من المؤلف بها لقربه وصداقته للمؤلف، لأنه اعادها اكثر من غيرها. (أربع عشرة مرة) ولا نظن بأن المصادفة هي التي قادته الى ذلك، ولا ان ابيات ابن فارس اجمل من غيرها. وأدل على ذلك المعنى من سواها، فثمة ابيات اكثر جمالا وعذوبة، وأقرب الى مواضع الاستشهاد من أبيات ابن فارس، ومع ذلك عني بها المؤلف كثيرا واعادها اكثر مما اعاد غيرها. فهل لهذه الاعادة دلالة تسعفنا في الوصول الى تخوم تحديد اسم مؤلف الليالي وعصره وبيئته؟ نحسب ذلك، لأن الاهتمام بشعر ابن فارس وتكراره اكثر من غيره، يدل على صلة خاصة بين المؤلف وبين ذلك العالم اللغوي الجليل، على ما سنراه لاحقا.

الدليل الخامس: العادات والتقاليد. (ظاهرة الزواج مثلا ظاهرة مشتركة بين جميع العرب بل وحتى المسلمين من غير العرب باعتبارها ظاهرة دينية بالدرجة الاولى، فان تفاصيلها تختلف من بلد الى آخر بل من مدينة الى اخرى، احيانا، في داخل البلد الواحد نفسه. فمن يدفع المهر؟ هل يدفعه أهل الزوج أم الزوجة؟ ومن يقوم بتأثيث بيت الزوجية؟ وقضايا العصمة، حيث تجد بعض البلدان العربية تمنح المرأة ذلك الحق، وبعضها الآخر لا يعترف به. ومسألة اشهار الزواج واعلانه، وقضايا الطلاق وشروط وقوعه، ومشكلات تعدد الزوجات بين الاباحة والمنع والبين بين!) ففي الليالي طرق الزواج العراقية هي السائدة حتى الآن. يدفع الرجل المهر، ولا تساهم المرأة إلا بزينتها، الطلاق قليل أشبه بالمعدوم، وكذلك الزواج بثانية نادر جدا إلى آخره.

الدليل السادس:

أ- يذكر الكتاب أسماء شخصيات بغدادية معينة، مثلاً ذكر اسم هارون الرشيد أكثر من 300 مرة في طوايا الحكايات بينما لا يذكر أسماء الحكام الآخرين الا مرة أو مرتين، واذا كان ذكر هارون والأمين والمأمون يتم بتفصيل واستيعاب، فإن الآخرين يذكرون عرضا كأن تقول لك الليالي حدث في مصر في زمن الحاكم بأمر الله وتتوقف وتتجاوزه بعيدا.

ب- كما نلاحظ ان اسماء الحكام والأمراء والولاة غالبا ما تكون لشخصيات حقيقية حين تجري أحداث الحكاية في العراق، اما أسماء حكام وأمراء وولاة البلدان والأقاليم الأخرى فيذكرون من دون تفصيلات مهمة، وربما من اسماء مختلقة غير واقعية مثل طغميموس حاكم همدان، وآخر اسمه جانفه حاكم الاسكندرية.

ج- ويعنى الكتاب كثيرا بأسماء بغدادية مشهورة معروفة في الأدب والفن، كأبي نواس وابراهيم الموصلي واسحق الموصلي وابراهيم بن المهدي، وأسماء جوارٍ تذكرهن كتب التاريخ والأدب الأخرى ككتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي لولا نهجه العلمي الواقعي لاقترب كثيرا من بعض سمات ليالي شهرزاد. ولا نكاد نجد في الكتاب أسماء أعلام آخرين من أقاليم أخرى، بل هو يكتفي أحيانا بالقول وتوجه الى قاضي دمشق أو وأصدر والي مصر أو وكان في خراسان حاكم عادل فاهم من دون ذكر اسمه أو صفاته . وهذا دليل قوي على الانتماء.

الدليل السادس:

من مضامين الكتاب التي تدل على توحد الكاتب تكرر أخلاق معينة بشكل متواتر، فلو كان للكتاب أكثر من مؤلف لاختلف الميل إلى خلق موحد، فقد ركّز على الاقتصاد، وهو الاعتدال في التصرف بالمال، أي استبعاد وذم الاسراف وتبديد الأموال على توافه الأمور، ونبذ البخل أيضاً. وتلك خصوصية يستحيل توافرها في مجموعة من الناس اشتركوا في كتابة الليالي. لأن لكل كاتب خلق يفضّله. ويصوغ المؤلف، عادة، ذلك المضمون صياغة متشابهة في كل موضع ذكره فيه. وكأنه يريد ان يقول ان المال الذي يأتي بسهولة، كالميراث مثلا، يضيع بسهولة أيضا، وان اصدقاء السوء أكثر ضررا على المرء من أعدائه الظاهرين المعروفين.

ويظهر هذا في أكثر من خمس عشرة حكاية من حكاياته الطويلة، مثلاً في قصة علي نورالدين وقوت القلوب.

وتتفق القصص الخمس عشرة على وجود شاب يرث ميراثاً عظيماً ثم يصرفه على النساء والشراب والأصدقاء، حتى إذ يفلس لم يجد من يدعوه إلى وجبة واحدة.

يصل الكاتب إلى نتيجة: (عد هذه الجولة السريعة التي قمنا بها في الحلقات السابقة حول شكل الكتاب ومضامينه، وصلنا الى تحديد أن الكتاب لا يصح عزوه لأكثر من مؤلف واحد، وأن ذلك المؤلف عاش في بغداد وانه من أهل القرن الرابع للهجرة. وبقي علينا الوصول الى تحديد اكثر دقة، فربما امكنتنا الشواهد من تحديد اسم الكتاب بشكل يمكن الركون اليه.

في هذا القرن الرابع ظهر العلماء الكبار الذين تُعنى المؤلفات بهم عادة. مع جمهور من القصاصين والرواة والحكواتية على ما يطلق عليهم هذه الايام، بل ان بعض العلماء كانوا يمارسون ذلك النوع من الانتاج الفكري والثقافي، ونعني به كتابة القصص والحكايات. فعلى سبيل المثال تتردد أشعار صديق المؤلف أحمد بن فارس في ألف ليلة وليلة أكثر من غيرها من الأشعار والشواهد وله يعود جذر فن المقامات في الأدب العربي، ذلك الفن الذي أخذه منه تلميذه بديع الزمان الهمذاني (ت 398 هـ) وطوره وأبدع فيه مقاماته المعروفة اليوم. أحمد بن فارس شيخ جليل كان التلاميذ يسارعون اليه في أية مدينة حل والى أية مدينة ارتحل، حتى تجاوز تلامذته المئات من مختلف البلدان. وله كتب مشهورة جداً مجمل اللغة ومقاييس اللغة والصاحبي وبين الليالي. ولكن له كتابا بعنوان قصص النهار وسمر الليل بحيث نفهم منه التفات هذا العالم الكبير الى أهمية الحكايات والقصص في تلك الايام. ومن المنطقي أن الأصدقاء الهمداني وابن سكرة كما يقال تتلمذا على يده، وبعد نضوج صداقاتهم وإبداعاتهم توجّه كل منهم نحو فن من الفنون.

وصف الثعالبي ابن سكرة الهاشمي في يتيمة الدهر فقال: هو شاعر متسع الباع في أنواع الابداع، فائق في قول الطرف والملح على الفحول والافراد، جار في ميدان المجون والحكايات الدالة عليه ما أراد. وكان يقال ببغداد: ان زمانا جاد بمثل ابن سكرة وابن حجاج (شاعر وأديب عاصر ابن سكرة) لعصر سخي جدا. يقول عنه شيخه وصديقه ابن فارس: لم أجد مولعا بالجن والعفاريت وحكاياتهم أكثر من ابن الحسن محمد بن سكرة الهاشمي. ويصفه الذهبي في العبر بأنه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق يعجب الخاص والعام. وفي الشذرات نقرأ قريبا من ذلك. ومن هنا فقد تجمع لابن سكرة الهاشمي ما لم يتجمع لغيره من صفات تؤهله لأن يكون هو المؤلف الحقيقي لـ ألف ليلة وليلة. فهو:

1- تكرار شعر شيخه وصديقه ابن فارس أكثر من غيره في الليالي.

2- هو نفسه معروفا بالقصص والحكايات.

3- بعض حكاياته تدخل في باب الخرافات والأساطير.

4- بعض حكاياته ينطوي على شيء من روح المقامات التي عرف بها شيخه ابن فارس، وصديقه الثاني بديع الزمان الهمذاني.

5- كثرة ورود أخبار الجن والعفاريت في حكاياته، حتى ان ابن فارس لم يجد أكثر منه ولعا بها.

6- وصف العلماء شعره بأنه شعر رائق راق، وان اسلوبه جميل يمتاز بالليونة والسهولة وسلاسة المبنى، شعرا ونثرا.

7- كان لا يتحرج من ان يوصف بالمجون ولا بالسخف، وهذه صفة مهمة لمن أراد ان يكون واضحا وصريحا فيما يعبر عنه من مشاعر ابطال حكاياته وأوضاعهم في مختلف أحوالهم.

8- انه ابن بغداد مولدا ونشأة، فهو أعرف من غيره بشعابها وأسرارها وأخبارها وما تضمه بين جوانحها من إرث عريق من الأخبار والأمثال والأشعار وغيرها.

9- ونظرا الى كون نسبه يعود الى أبي جعفر المنصور عن طريق علي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، فلا عجب أن نرى في الكتاب تلك العناية الفائقة بأخبار خلفاء بني العباس، وعلى الأخص هارون الرشيد، كما لن نتعجب من اهتمامه بأخبار ابراهيم بن المهدي بن أبي جعفر المنصور وهو أحد كبار فناني زمانه بعد أن أبعد نفسه عن التنافس مع الآخرين على الحكم والخلافة.

10- وصف في المصادر بصاحب الحكايات الرائقة والاسمار الفائقة والخرافات التي تحبس الأنفاس. ولا نعرف في تراثنا كتابا تنطبق عليه هذه الأوصاف أكثر من كتاب ألف ليلة وليلة.

11- ولا نعرف كاتبا آخر ينطبق عليه قول الذهبي انه من المعروفين بالخرافات وحكايات الجان مع شعر رائق ىعجب الخاص والعام.

12- كان ابن سكرة كثيرة الأسفار محبا للحياة، ولا شك في أنه سافر الى مصر والى الشام والى الأماكن التي ذكرها في كتابه وفي شعره.

13- كان له مجالس أنس وسمر في بغداد، يلتقي فيها بالتجار والسواح والزائرين، فلا غرابة أن يكون على معرفة بطرق التجارة والمواثيق التي تعقد بين التجار في المساومة والبيع والشراء.

14- استخدم في شعره أمثالا وحكما نجدها نفسها مستعملة أيضا في ألف ليلة وليلة وفي المواضيع ذاتها تقريبا.

15- ذكر في شعره اسماء لا نجدها الا في ألف ليلة وليلة، مثل دهنش (وهو اسم اطلقه على أحد عفاريت ألف ليلة وليلة، وشواهي (وهو اسم أطلقه على عجوز رومية تآمرت لقتل شركان وأبيه في ألف ليلة وليلة، وتركاش (وهو أحد قواد الترك في جيش عمر النعمان في الليالي). ولو كانت هذه الأسماء وغيرها من الاسماء شائعة لأمكن أن يقال انه استعملها كما يستعملها غيره، إلا أنها اسماء نادرة الوجود والاستعمال، بل لا نجدها إلا في ألف ليلة وليلة ما يجعلنا نعتقد بأن ابن سكرة هو الذي اختلقها خلقا واستعملها في شعره ونثره، أي في ديوانه وفي حكايات ليالي شهرزاد.

16- المعروف عن ابن سكرة انه غزير الانتاج طويل النفس في الكتابة، فلا نعجب ان يحدثنا ابن خلكان في وفيات الأعيان بأن ديوانه يضم خمسين ألف بيت، مما يساعدنا في أن نفهم طول نفسه في كتابة ألف ليلة وليلة نثرا، ما دام قد كتب خمسين ألف بيت شعرا.

17- وأخيرا فإنه ابن القرن الرابع الذي عنه صدرت ليالي شهرزاد، إذ توفي سنة 385 هـ.

18- وجود حكايات يتحدث فيها المؤلف بضمير المتكلم، ويستشهد بأشعار هي أشعار ابن سكرة البغدادي نفسه:

أ- فلما خرجت من الحمام قمت فتفقدت مداسي فوجدته قد ضاع، فقلت في نفسي وأنا ممتلئ غيظا:

إليك أذم حمام ابن موسى

وإن فاق المنى طيبا وحرا

تكاثرت اللصوص عليه حتى

ليحفى من يطوف به ويعرى

ولم أفقد به ثوبا ولكن

دخلت (محمدا) وخرجت بشرا

يريد أنه خرج حافيا مثل بشر الحافي الزاهد المشهور التي ترد أخباره في الليالي.

ونجد القصة والأبيات نفسها في ديوان ابن سكرة قالها بعد أن سرق نعاله في حمام ابن موسى.

ب- وهناك أشعار له كثيرة في الليالي وفي ديوانه:

بليت ولا أقول بمن لأني

متى ما قلت من هو يعشقوه

حبيب قد نفى عني رقادي

فإن غمضت أيقظني أبوه

ج- فلما لامني فيه العاذلون وألزموني مفارقته كتبت إليه بدمع مقلتي بيتين أقول فيهما:

قالوا التحى وستسلو عنه قلت لهم

هل يحسن الروض ما لم يطلع الزهر

هل التحى طرفه الساجي فأهجره

أم هل تزحزح عن أجفانه الحور

د- وهناك مواضع أخرى غير هذه نرى فيها شخصية ابن سكرة البغدادي الهاشمي واضحة تماما في ألف ليلة وليلة، وبخاصة في حديثه عن نفسه واستشهاده بشعره في حوادث وقعت له فعلا، كما يقول المؤرخون.

(إن كل هذا يثبت الرأي الذي يراه الباحث من ضرورة تصحيح نسبة الكتاب الى مؤلفه أبي الحسن محمد بن عبدالله بن محمد المعروف بابن سكرة الهاشمي البغدادي، الشاعر المشهور الذي توفي في بغداد يوم الأربعاء حادي عشر من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وثمانين وثلثمئة، وخلد الشرق وسـحره في ليالي شهرزاد العريقة).

* عن موقع الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى