حسن حميد - هدهدة.. قصة قصيرة

رآها للمرة الأولى، في ذلك المساء الفضي، حائمةً مثل حمامة أمام محلات الألبسة المضاءة. تنتقل من محل إلى آخر بتمهل، وحضور، ودهشةٍ. بدتْ كما لو أن زينة المحلات مربوطة بها أو معلقة عليها.
أحسَّ، وقد راقبها طويلاً، كما لو أنها تترك نثاراً جميلاً من الرقة واللطف فوق الأرصفة التي راحت تلين وتتلوى بهدوء تحت قدميه، وهو يتعقبها كالمشدوه.
أيقن، وبعد أن رآها تبادله النظر، أنها تعنيه تماماً، وأنها ـ بجسدها البديع ـ جديرة بأن تكون موضوع لوحته القادمة. تأكد، في لحظة واحدة، وقد رآها تركز نظرها عليه، أنها عرفت فيه ذلك الفنان الموهوب الغامض، فامتلأت نفسه بمشاعر هفهافة حلقت به حتى لكأنه راح يشعر بأنه ينزلق فوق الأرصفة، بين الناس ككرة صغيرة من الزجاج!!
مشتْ طويلاً، ووقفتْ طويلاً، وهي تتباهى بخطوتها القصيرة الواثقة، وبالتفاتاتها الرهيفة الحانية. كانت تلمس برؤوس أصابعها الطويلة أطرافَ أوراق النباتات والشجيرات المصطفة بمحاذاة الرصيف، فيلمس هو عليها كالممسوس.
شعر، وقد دنا منها أكثر مما يجب، أنه يشمُّ شذا شعرها القصير المتراقص فوق رقبتها البيضاء الطويلة، وأن أرنبة أنفه المحمرة من برودة المساء الخريفي الهادئ، قد لامست طرف قرطها الماسي اللامع القريب منه، فانتشى، وصفق قلبه بفرح قلما عرفه من قبل، وتأكد بالملامسة، أن في صدره قلباً لهوفاً يدِّقٌّ لها!
اقتنع أو كاد بأنه راق لها، فواصل التحويم حولها. كان وإياها يتنفسان هواءً مشتركاً، ويمشيان على رغبة واحدة مقسومة إلى نصفين، وهما يدوران في الشوارع العريضة والضيقة. كانا كمن يرتّب كلُّ منهما روحه للقيا، والمساهرة، واللحظات الحميمية.
ولم يدر أيٌّ منهما لماذا، وكيف، ومتى.. بدأ رذاذ المطر الخفيف يلفُّ كل شيء من حولهما. أحسّا، وكأنهما يعيشان مشاهد سينمائية مشتهاة بعدما راح الناس يستعجلون الخُطا متفرقين ذاهبين إلى بيوتهم، وبعدما صارت أصوات إغلاق أبواب المحلات ضجيجاً يعلن عن انتهاء يوم من أيام المشاهدة، والبيع والشراء.
بدا الاثنان، وفي لحظة مفارقة عجيبة، وحيدين فوق رصيف لامع ضيق، لا هو يمضي فتمضي، ولا هي تستدير فيعود. في تلك اللحظة، تبادلا النظرات الحيية الرقيقة مواجهة. وهمتْ هي متقدمة نحوه بخطوة واحدة، وتقدم هو نحوها بخطوات كثيرة. كانت تشدُّ واحدهما للآخر ابتسامة خجول ونظرات يقظى خائفة، ودونما استمهال، أخذ كفها طيَّ كفه وهزّها، فاهتزت الروحان، وشاع الدفء بينهما، وراحتْ هي تحكي له عن المدينة ووحدتها، والبرودة التي تلفّها دائماً. وراح هو يراقبها بإمعان وحذر وخوف كي لا ينكسر اللقاء. كانت أقدامهما راقصة، والرصيف دافئاً مستسلماً لوقع خطاهما الطرية، وقد تماشيا كفّاً بكفٍّ كمن إئتلفا منذ أمد بعيد.
ودَّ هو، وقد رأى النباتاتِ والأشجارَ فرحةً، لو يأخذها إلى قلبه في ضمة واحدة. وودت هي، وقد أحسّتْ بدفء أصابعه لو تذوب فيه. وشردا معاً، وكلُّ واحد منهما يحلم بالدهشة القادمة.
كانا وحيدين مع المطر، وقد انشغلت الدنيا كلُّها عنهما، ينسُلان الخُطا، والأحاديث الهامسة، والرغباتِ العتيقة التي لم تقف بعد على مساء ندي أو هدأة شاسعة، لتلوح للنهارات الحرون الدامعة تلويحة الاشتهاء.
رجاها، وهما في الطريق، أن تبني معه هذا المساء، وأن تطرد خيباته الكثيرة، وأن تكون ـ ولو لمرة واحدة ـ كالمطر بعدما جفت روحه ويبست!! أو أن تكون كالسماء.. الوصول إليها صعب، ونسيانها صعب. ورجته، وهي ترامش بعينيها، أن يمنحها لحظة دفء واحدة بعدما عذّبتها المدينة بوحشتها القاتلة، وأن يبدّد أساها، ويمحو أحزانها الولود، وأن يقطع خيط لهفتها للآخر كائناً من كان، وأن يكون هو، لمساءاتها القابلة، السيدَ الأخير.
كان الحديث بينهما نشيجاً أو يكاد، نوافذَ لا حد لها، وصراخاً داوياً لروحين غلبهما البكاء.
كانا بحديثهما يتقاربان، فيتنفسان بعمق شديد، وبهجة بادية.
رقَّ لها، ورقّت له!؛ وانقطع الكلام..وخارت قوة الجسدين، فهبطا معاً فوق طرف الرصيف البعيد المعتم، فوق الغبار المبتل، وفوق آثار الخطا التي عبرت به قبل قليل!!
شعرا، وهما في توحدهما النادر، بلحظة النشوة البعيدة المنال، وأن الهواء الشفيف الرائق يخصهما وحسب، وأن زهوة المساء فراشهما الدافئ الوسيع. ولم يطل بهما الوقتُ كثيراً حتى أحسّا بأن غيبوبة ما أو لطافة آسرة أخذتهما بعيداً في الطمأنينة أخذتهما بعيداً في الطمأنينة الوارفة، فانقادا إليها تحت خدر أليف ناعم. ولم ينكشفا على الخلق صباحاً إلا جسداً واحداً طرياً منطفئاً فوق رصيف محبر بالبهجة الدامعة؛ جسداً واحداً طرياً منطفئاً لرجل أشيب قصير عاثر، لا بيت له، ولا دفء، ولا أصحاب!! يفترش، في كلِّ ليلة، هواجسه الشرود، وخيالاته الحنون.. لينام في مدينة ممعنة في صدودها الحزين، وبرودتها الراعبة!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى