عبد الرحمن أقرع - الحرب والمحراب.. قصة قصيرة

1-

كانت شوارع القدس العتيقة مكتظة بالناس على عادتها رغم شدة برد الشتاء القارس ، وكانت البسطات المكتظة بخيرات الأرض تصطف على جانبي الطرقات بهجة للناظرين على امتداد الطريق من باب العمود إلى أبواب الحرم القدسي ، تزخر بخيرات الأرض الطيبة ، والتحف الخشبية والنحاسية ..تعلو أصوات باعتها وتختلط حينا ثم تذوي عندما تقترب من مكتبة الصدقات حيث يعلو ترتيل شجي لقاريء حسن الصوت منبعث من جهاز تسجيل في ركن المكتبة التي تغص بالكتب والمطويات و تعبق أجواؤها بعبير المسك والورد والكافور المنبعث من قارورات زجاجية صغيرة متعددة الألوان والأحجام : الأمر الذي يضفي بهاء فوق بهاء لشوارع البلدة القديمة.

دلف الصديقان إلى فناء المسجد الأقصى ليخفق قلباهما لرهبة الولوج إلى باحات أولى القبلتين والسير على الأرصفة الواسعة المبلطة بأحجار بيضاء كبيرة ..ولم تكن تلك زيارتهما الأولى ، بيد أنها تميزت بميزتين اثنين ، فهي الزيارة الأولى التي يقومان بها معا من جهة، ومن جهة أخرى لكونها زيارة عفوية وليدة اللحظة يقومان بها خوفا من أن لا يظفرا بمثلها بعد اليوم ، فقد نقل المذياع الإنذار الأخير الذي وجهته قوات التحالف لصدام حسين محددة له موعدا أخيرا للخروج من الكويت ، الأمر الذي دفع الجامعة لتعليق الدوام لإتاحة المجال للطلبة للعودة إلى بيوتهم قبل اندلاع حرب قد تكون ضروسا تأتي على كل أخضر ويابس بفعل الدمار المنتظر للأسلحة غير التقليدية التي كدسها الطرفان أهبة للمعركة التي لم تعرف ساعتها بعد. اذذاك كانا يزمعان العودة إلى مدينتيهما في الشمال ليكونا مع الأهل في انتظار قدر لا يدركان كنهه ، ومصير يكمن رعبه في مجهوله.عنذاك التفت إلى صديقه قائلا:

- أتعلم أيها الصديق أنني كنت قد قرأت في احد ى الكتب أن المسجد الأقصى سيهدم في آخر الزمان

أجل، وأنا قرأت أمرا مماثلا ذات يوم ، وربما تكون هذه الحرب المجنونة هي آخر العهد بهذا المسجد. رد الصديق

-أو ترى المسجد المبارك يعد أيامه الأخيرة أيضا .

- ربما.. ربما مع الأسف ، حاله حال ملايين البشر الذين ستحصدهم هذه الحرب الضروس إذا اندلعت. طأطأ صديقه رأسه بأسف عابثا بطرف شاربه.

-فما تقول في الذهاب لنصلي فيه صلاة مودع ، فقد ودعنا الزملاء والأتراب خوفا من أن لا نلقاهم أو يلقونا بعد انقشاع غبار هذه الحرب التي خلعت قلوبنا خوفا قبل أن تندلع ، وستسل أرواحنا إذا اندلعت. فلم لا نودع المكان كما ودعنا الإنسان طالما أن الأمكنة كذلك باتت في عصر التكنولوجيا المدمرة مادة للفناء كما الإنسان.

-لا بأس..لا باس ، فلنذهب. أجاب صديقه وهو يفرك يديه معا جلبا للدفء.

كان المطر يهطل غزيرا طوال الطريق ، ولم يتسنى لهما رؤية شيء من نوافذ سيارة الأجرة المتجهة نحو القدس إذ كانت السماء كأفواه القرب في منتصف يناير.ولم يكن للمسافرين من حديث إلا عن الحرب القادمة وما أعدا لها من خزن للطعام وتغطية للنوافذ بطبقات (النايلون) خوفا من تسرب الكيماوي المزدوج إلى داخل البيوت لخنق الكبار والصغار معا. وكانت المشاعر شتى ، والتكهنات مختلفة إلا أن جو الخوف كان هو المسيطر على الحديث الدائر بين السائق والمسافرين ، خوفا بدده للحظات مداخلة لامرأة عجوز تجلس إلى جانبهما في المقعد الخلفي ، إذ هزأت (بالنايلون ) ومن يبتاعونه قائلة بلهجة الجنوب الفلسطيني :

-(ييجيكو الموت ولو كنتو في بروج مشيدة) تقصد قوله تعالى : ( يأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة). فنظر كلاهما إلى الآخر مبتسمين ربما للمرة الأولى منذ أيام طويلة.

كان المطر قد توقف عن الهطول عندما دلفا إلى باحة الأقصى ، إلا من رذاذ خفيف تتسلل عبر غلالته بعض خيوط الشمس لتزداد قبة الصخرة توهجا كلما داعبتها ، توهجا ضاعف من جمالية تركيبتها المعمارية ، وإذ ذاك شعر كل منهما بغصة في حلقه ونظر إلى صاحبه سائلا بصمت:

-أيعقل أن يصبح هذا البناء المذهل بما يحمل من عبق التاريخ أثرا بعد عين؟!

وعندما هبطا السلالم المؤدية للمسجد الأقصى أحسا بألفة غير طبيعية مع المكان ، وكأن المسجد المبارك على موعد معهما ، يرمقهما باسما عرفانا وتقديرا لسعيهما لوداعه، باشا مرحبا بهما ، وعندما دخلا صحن المسجد كانت الإنارة خافتة واصمت مطبق لا يقطعه سوى خطى المصلين على السجاد الناعم متوجهة نحو المحراب حيث أذن للصلاة ، واصطف المصلون صفوفا مكبرين الإحرام خلف الإمام الذي قطع حبل الصمت مكبرا يجلجل صدى تكبيرته في إرجاء المسجد الواسع ترتعش لجلالها أعمدته الرخامية العملاقة ، فيم اسر بصلاة العصر واقفا في الصف إلى جانب صلاته ، يتساءل كلاهما في قرارة نفسه :

-أهي حقا صلاتنا الأخيرة فيه؟؟

2-

دخل ممسكا بكف عروسه إلى باحة الأقصى بعد أعوام تسع من زيارته الأخيرة مع صديق دراسته . كانت عروسه الشابة من فلسطينيي الخليج لم تر القدس إلا على شاشات التلفاز و صفحات المجلات ، وكانت تبدو في مخيلتها مدينة أسطورية على بقعة ما من ربوع وطنها الذي جابت أرجاءه عدة مرات برفقة ذويها في اجازات الصيف دون أن يمروا ولو لمرة بالقدس ، فبقيت المدينة المقدسة في مخيلتها صفحة من التاريخ ، وبقعة دائرية الشكل على الخريطة الجغرافية ورحلة مرتقبة ذات يوم . لذا كانت ترسل النظر في كل ركن من أركان الساحات الرحيبة ، دون أن تخفي شعورا غير مألوف لديها بالانتشاء برؤية ما حلمت برؤيته عيانا ، غير مصغية إلى طويل شرح زوجها الذي أسهب في ذكر المراحل التاريخية المختلفة لهذا البنيان العريق ، وأكنافه المقدسة من سائر الأديان.

ربت بيده على كتفها أمام مدخل قبة الصخرة ليوقظها من إغراقها في تأمل الزخارف الجميلة والقبة الذهبية المتوجهة بفعل الشمس ، مرشدا إياها إلى مصلى النساء ، ومحددا موعدا للقاء بعد أن يفرغ هو من صلاته ، طفق يهبط السلالم من جديد ليسجد خلف المحراب في بقعة سجد عليها ذات يوم إبان الحرب الضروس التي انتهت وبقي المحراب في مكانه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى