محمد حيدار - الفصل الرابع من رواية " دموع النغم "

الفصل الرابع

أبـــــــــواب الــــدهشـــة:


شدّ عيون الجمع هيكل السيارة " الجيب"، وعجلاتها تراود الكثب الرملي في عراك، إلى أن توقفت بعيدا من الشيوخ ليغادرها عسكري يحمل رشاشا، أدرك الشيخ بوخلوة من هيئته أنه مترجم النقيب، فوقف يتكلف البشاشة:

" السيد ميشال! مرحبا"

وصافحه العسكري وشفتاه تطاردان بسمة لما تستكمل ملامحها:

" الملازم جون نائب النقيب يحملكم هذا المظروف"

" انتظر ومن عساه يقرأه غيرك يا سيد ميشال؟!"

" حسنا"

وقال الشيخ معلى غاضبا:

" ولكنني القائم بأمر الطابور؟!"

وربّت المترجم على كتفه ضاحكا:

" الملازم أوصاني بتبليغ المظروف إلى الشيخ بوخلوة رأسا"

وافتضّ المترجم المظروف وقرأ على قسيمة داخلية ((الرجاء إشعار المدعو بوغريبة بالحضور شخصيا إلى الثكنة غدا صباحا)) وعلّق الشيخ معلى:

" ليدرك حجمه بحق"

نحو الثكنة أقعلت السيارة الخفيفة، ومجيئها يرسم على أشداق الشيوخ سؤالا موغلا في المبهم.

بوغريبة؟؟؟ !!!

وشكّ الشيوخ في كلمة الشيخ معلى؛ أيكون بوغريبة بداية اللعبة؟!

" بوغريبة يُستدعى إلى الثكنة بعيدا عن ديوان شؤون الأهالي؟!"

لاحظ الشيخ المكي في ذهول.

" إنها خاتمة مغامراته!"

عاود الشيخ معلى التعليق دون أن يفوز بمن يشاركه.

" هل اكتشفت الأسرار التي طالما أفضى بها اليه عبد الصابر؟!"

هامس الشيخ عطاء الله السيناتور الذي استبعد ذلك بقوله:

" كان الأحرى أن يُلقى القبض على عبد الصابر!"

" ومن أدراك أنهم فعلوا؟"

" بل ما سر هذا الأسلوب المهذّب في دعوته؟!"

أشار مراد في اقتضاب.

" كل ما يتعلق به غريب غرابة أطواره!"

استدرك الشيخ معلى في تعب.

كادت دعوة بوغريبة إلى الثكنة أن تطفو على سطح أحاديث الطابور، بحيث تراجعت أصداء اجتماع " الضابط" بالأعيان عن موقعها، كحدث امتصّت أهميته باقي الأحداث دون أن يفتكّ من الوسط النسائي إلا تعليق بنت النمر:

" زودونا بالخناجر ولنسارع للقاء هؤلاء العشاق الجدد"

وتلعثمت حليمة في قولها:

" أقسم إن للحركي يدا في دعوة بوغريبة"

" الحركي لا شأن له بالثكنة هكذا قال والدي"

رددت زينب مصححة في ثقة، وشرقت حليمة بضحكتها وهي تقول:

" لعله زوج سوزان دعاه للانتقام؟!"

وتدخلت والدتها من بعيد وهي تنظف قصعة الغسيل:

" وتضحكين أيضا؟!"

" ولم لا؟ ألا ترينهم في الجبل يضحكون حتى داخل الحصار؟"

" وهل نحن خارجه يا حليمة؟"

" صدّقيني يا أمّاه إنني لا أريد به سوءا"

وقهقهت والدتها في تعب:

" ومن يريد ببوغريبة سوءا؟! من؟

وقفزت زينب:

" أنـــــــا"

وأجمعتا على سؤالها:

" أنت؟ ولم؟!"

" لأنه لا يتعشق إلا الفرنسيات، ويدّعي أننا قذرات لأننا لا نساير مجونه المجنون"

" ومن أنبأك؟"

" مراد"

" كاذب، وقصة الرابلة بم يفسرها؟"

" الرابلة هذه فرنسية أيضا"

"(مرادك)جاهل يا زينب"

" لا أسمح، تدافعين عن محتال متخاذل"

" أنت وشأنك لو كان كذلك ما دعته الثكنة رأسا، وهو ما لم يحدث إطلاقا من قبل"

تنامى الجدل بين الصديقتين وكاد يؤدي الى قطيعة، لولا تدخل بنت النمر التي أنهت المشاكسة بقولها:

" يذكّرني أمره أحيانا بموسطاش، كان هو الأخر يبدو غريبا"

وقذفت زينب بحثالة نقمتها:

" وما الذي يمنعه من اللحاق بالجبل؟"

وضحكت حليمة:

" ولو سألتك عما يُبقي مراد؟"

وتمازجت ضحكتاهما معربتين عن أسفهما لما حدث، وتفرّق الجمع قبيل موعد الحظر بقليل.

انتهت القطعان إلى حظائرها بنهاية الطابور، والتهم بوغريبة ويعقوب والرومي عشاء معتادا، وتحركوا نحو زرائب الأغنام، وأثناء العشاء أطلع الشيخ بوخلوة بوغريبة عن فحوى المظروف الجديد، مشفقا عليه مما سيقع، ودعاه الشيخ المكي قبل الانصراف:

" قد يسألونك عن كل شيء؛ فأنكر كل شيء"

وابتسم بوغريبة:

" اطمئن"

" ولكن ماذا تعتقد بشأن هذه الدعوة؟"

وقلب شفتيه استياء:

" ربما تعلق الأمر بالماضي البعيد"

وأعرب عن حيرته:

" الماضي البعيد؟! أي ماض؟"

" لسوف أحدّثك بشأنه إذا أمهلنا الوضع"

بالرومي ويعقوب التحق بوغريبة مسرعا وتمدد بمخدعه، كان مبيتهم شبيها بالخندق ــ كما وصفه عسكري الحراسة أمس الأول ــ لولا أنه يقع على سطح الأرض، ويقوم على بضع أخشاب من عريش الوادي كجدران، شُدت إليها أعواد الدفلى بشكل أفقي، وفي تراصف مكثف سمح بتكويم الحلفاء على سطحها، قبل أن يجيء يعقوب بصفيحة من الزنك لتحل محل الحلفاء، مؤكدا صمودها في مقاومة الزوابع والأنواء، فاختصت الحلفاء بعدئذ بتفريش أرضية المنام وقبو السهر.

إن المبيت بهذه الصورة أصبح مبعث دفء حتى أمام هزات الشتاء، ولو أنه يقاسم حظائر الأغنام من حوله مجمل خصائصها العمرانية، كالباب وفجوات لا تزال تتخلل الجدران، والأتربة الطافية على مفارش الزقاق السعفية.

وحاول الرومي أن يعزف واحدا من ألحانه المفضّلة، بيد أن بوغريبة أسكته بإشارة شبه آمرة:

" دعه يعزف، القصبة وحدها تربطنا بالحياة يا بوعلام"

قال يعقوب وسكت وكأنه يفسح مجالا يستوعب تنهدا مسموعا أرسل به بوغريبة:

" عليك أن ترعى القطيعين معا إذا كان الغد"

" قطيع من أيضا؟!"

" قطيعي يا سيدي"

وقفز الرومي:

" رحلة نحو (عشبة خضّار)؟! "(17)

" بل رحلة الى الثكنة، قيل إن نقيبا أو جنرالا دعاني"

" لماذا؟! أليستشيرك في شؤون الحرب؟ّ"

ضحك يعقوب وقطّب الرومي.

" ربما"

وعاوده الجد هذه المرة فأوجسه الموقف:

" بوعلام احذر ذكري فأنت تعلم مهمتي"

وقال الرومي وقد وضع القصبة جانبا:

" قد يسألونك عن النعاج التي أوصاني الشيخ المكي بتسليمها الى الجيش(آه ما نعرفك ما تعرفني) "

" ثم ماذا يا الرومي؟ لسوف أخبرهم أنك قاسمت مجاهدا زادك البارحة، وجئت برسالة إلى عرش الشيخ الفُضيل، وأعطاك عطاء الله جلابيب وخراطيش تبغ وشفرات حلاقة"

" أضف إليهم انني تعهدت لحليمة بقتل الحركي العاشق"

" أنت الأخر عاشق فهل ستقتل عاشقا؟"

وسكت الرومي فواصل بوغريبة:

" أجبني، الحب ذاته يرفض القوة"

وصاح يعقوب مباهيا:

" أنت العاشق إذن يا بوعلام أما هؤلاء الأطفال"

واحتدّ الرومي:

" أرجوك"

أدرك بوغريبة أن أعصاب الرومي متوترة لصمت القصبة، ولأن دعوة الثكنة جعلته صادقا في تخوفاته، امتنع عن الترخيص للرومي بالعزف ليتسنى له التفكير.

هل يفرّ؟!أم يلبي الدعوة؟!في أيهما الخلاص؟!

ما الذي جعل الثكنة تدعوه رأسا؟ وبتوقيع نائب النقيب؟، هل لأن ملفه القديم في أرشيفات الجيش الفرنسي عكس الآخرين؟!

أهي "سوزان" الداعرة عاودت صياحها في طلبه؟ ولكن بأية ذريعة هذه المرة؟! الدعوة تحمل اسم بوغريبة وليس بوعلام العايدي، كما يعرفه ديوان ضابط شؤون الأهالي.

أثناء هذا السيل من الخواطر المكبوتة كان بوغريبة قد أطفأ نصف علبة من سجائره، والنوم قد اختطف وعي يعقوب فيما يعتقد بينما طوّق الصمت زاوية الرومي في شكل احتجاج لا يخرج عن دائرة حظر العزف.

" بوعلام. ألا تزال مستيقظا؟"

" صدّقني يا الرومي لقد هجرني النوم لأول مرة"

" لماذا لا تفكر في الهرب؟"

" الهرب؟ من مجرد دعوة؟!"

" ليس هناك من بلغ القلعة إلا وسُجن أو قُتل يا بوعلام"

" صحيح ولكن أعتقد أن المسألة لا تتضمن كل هذه الخطورة"

" ما دام الأمر يخصّ الثكنة وعهدي بها لا تهتم الا بحملة السلاح أو المحالين على المكتب الثاني"

" المكتب الثاني؟!!!!! لا تذكره بالله عليك، إن به لوحوشا تفتك بكل كائن يلجه أو يقترب منه مجرد الاقتراب"

" لو كنت مكانك لفررت يساعدني الظلام"

" الرومي خذ هذه النقود وابقها في حوزتك، إنها ماهيتي السنوية لقد ابتاع عطاء الله الخراف الأربعة، احتفظ بهذا المبلغ وإذا لم أعد حله فورا على الشيخ عطاء الله كهبة لمالية القسم"

وكاد الرومي يجهش، هل صحيح ان المرعى سيفتقد مرح بوغريبة وأقاصيص غربته؟ وألوان التبغ وتهاويل الحدائق التي ترسمها المخيلة في نهم رومنطيقي؟!

من سيبلغ الطابور أسرار الضابط ساخنة؟ من سيرتبط بعبد الصابر بعده لهذه الغاية؟ ومن سيردد كلمات " زهير" على أسماع العراء؟ من ستبكي بجانبه القصبة في أنس؟ من؟ من؟

إن المرعى سيصير ضيّقا كصدر يحتضر؛ ولا إراديا أسقطت عيناه دمعتين بطيئتين، وحينما مسحهما لاحظه بوغريبة فأحس بما يشبه الوخز في قلبه:

" أتبكيني حيا أيها الفنان الوديع؟!"

وبكى الرومي فعلا وهو يقول:

" كلما ائتلفنا أحدا إلا واختطفه منا الموت أو ما يشبه الموت!"

والتفت نحو يعقوب حانقا:

" انهض يا أخي أتطاوعك عيناك على النوم؟!"

وقال مغمضّا:

" لم أنم يا الرومي"

" وتبكي أنت الأخر؟"

وإلى هنا أجهش بوغريبة بأدمع أولى، وهو الذي بات يعتقد بفخر أن هندسة تجاويف عينيه تتناقض تماما مع قابلية استدرار الدمع.

كل ما يحسونه بلوعة أن البكاء لا يوقف زحف الليل الذي كان عليه أن يخلي مواقعه لصباح يقاسمه خاصية التلغز، وبعد الإشراق بقليل تراءى بوغريبة بمفرده يعتلي الهضبة الصخرية التي ستفضي به مباشرة الى برج المراقبة، ومنه الى باب الثكنة ذي الدفتين الفولاذيتين؛ أوقفه مركز الحراسة بإشارة من العسكري صاحب الخوذة الداكنة الطلاء، وقفازاه الطويلا الذراعين يرسمان فكي كماشة، وما أن استظهر الورقة المتضمنة للدعوة حتى أومأ الحارس العسكري الى عسكري كان يقف بالقرب منه.

صحيح أن هناك تعقيدات وصمت مخيف يضفي عليها مزيدا من الطلسمة في نظر بوغريبة، ولكن يديه لا تزالان خلوا من القيد وهو ما يشير إلى أن مزيدا من الإجراءات ينتظره.

أدار خلده هذه الفكرة وهو يسير خلف العسكري باتجاه وصيد مطبق في نهاية رواق ممتد، في غير اتساع تتخلل سقفه فجوات تسترق أشعة الشمس في حياء أحيانا.

دقّ العسكري المرافق الباب الخفيف الطلاء، وفتح مشيرا إلى بوغريبة بالدخول قبل أن يرسم قوامه القصير تحية عسكرية، كان المكتب الفولاذي يئن بأكوام أوراق تنصص بعضها بأحزمة قماشية ، تماما كالتي تستلقي في نظام على سطح الخزانة المزججة الرفوف بزاوية محاذية لباب داخلي، أيقن بوغريبة أنه لا يفضي إلا إلى زنزانة أو مكتب استنطاق.

انصرف العسكري المرافق، فودّع فيه بوغريبة أخر بقايا المحيط الخارجي، ورفع ضابط الصف نظره عن الأوراق فحيّاه بوغريبة.

" أتحسن الفرنسية؟!"

" بعض الشيء"

" عظيم"

وبالهاتف حادث شخصا ما، أدرك بوغريبة انه يعلوه رتبة، بل انه يقاطع أحاديثه معه بكلمة (حضرة الملازم)، الملازم إذن لايزال يجدّ في طلبه! المكالمة تتعلق بالدعوة إذن؟ ما في ذلك ريب، وضع السماعة وأشار عليه:

" تفضل اجلس"

(تفضل؟!) أية كلمة تلك؟!أهم يستقبلون بها أسرى القلعة؟!هل يختلف العسكريون عن شرطة الحديقة؟ يشاع أن ضابط شؤون الأهالي وحده هو المهذّب في هذه القرية، فما بال العسكريين أحسن تربية منه؟ ما سر هذه المعاملة شبه المهذبة؟!

أين القيد؟ أين النطق بالسجن؟ من القاضي؟! وأمهل بوغريبة نفسه، لعل للملازم شغلا أرجأه عن الإسراع بالقيد؟ لعل؟

أعاد ضابط الصف بصره الى أوراقه يستكنهها، تاركا الدهشة تركب بوغريبة فتحلق به في أجواء كل احتمال.

وحين تناول ضابط الصف قلما توقّع بوغريبة أن موعد الاستنطاق قد حان، غير أن الضابط لم يسأل الا قلمه، وحاول أن يسأله هو بدوره عن مدعاة إحضاره الى الثكنة، ولكن لماذا يستعجل شرا آتيا بلا شك، فهو ليس ملقى على ظهره يتجرع سائل الملح، ولا يتلقى جسده مكواة الكهرباء في غيبوبة، ولا هو بحجرة ثعبان الأدغال الذي تداعب أنيابه أطراف الأسير في ظلمة داكنة، لم ليس بعد ليس.

ورن الهاتف ثانية فأسرع ضابط الصف بالإنصات:

" أمركم حضرة الملازم"

وضع السماعة وقام متناولا معطف بذلته من على المشجب القريب منه، أشعل لفافة وأقفل الخزانة بإحكام مخاطبا بوغريبة:

" هيا يا صاحبي"

الى أين هذه المرة؟!هو ذا السؤال الذي يستلقي في تكوّر ثعبان الحجرة بخلد بوغريبة، فتح الباب الذي سبق أن دخل معه بوغريبة قبل حين، وغادرا المكتب عائدين مع الرواق شبه المظلم ذاته، لولا ان ضابط الصف قد انعكف تلقاء قبو مزلّج الأرضية تتقابل بجدرانه مجموعة من الأبواب المغلقة الصامتة، وقبيل نهاية البهو أمره بالتوقف.

" انتظرني"

فيم كل هذا؟ تساءل بوغريبة وضابط الصف يلج بابا لحسن الحظ لا يحمل رقم (2)، أي انه ليس المكتب الثاني وهو جهـــــــــاز المخابرات الرهيب، اشتد به الندم، لماذا لم يفرعملا بنصيحة الرومي؟ لكم كان مصيبا ذلك الطفل المعتوه في رأيه البارحة:

((ليس هناك من بلغ القلعة إلا وسُجن أو قُتل يا بوعلام))!!

((الثكنة لا تهتم الا بحملة السلاح، أو المحالين على المكتب 2))!!

من المتوقع جدا أن يسفر الباب المقابل عن ذلك العملاق " جوليا" جلاد القلعة، أو عن شخص مساعده "أنطوان" المتحذلق، وظلت عيناه مشدودتين الى أشعة الشمس المنبعثة من إحدى فجوات الرواق، الشمس؟! لسوف يفتقدها والى الأبد، لسوف يُلقى به في إحدى الزنزانات الرهيبة، أمر موجع أن يُبعد عن النظر الى الشمس وقاتل.

وارتطمت عيناه بمزلاج الباب يتحرك في غير صخب، وتراقص الطيف أمامه، وفغر فاه متلعثما ودهشته تكبر نظراته المرتجفة:

" مـــــــن ؟!"

" خديجـــة ؟!"

" بوعـــــلام"

" أيتها المجنونة"

عانقها في تحفظ وتجهمه يضرب على محياه دكنة سميكة ، وبادرته وعيناها تحاصرانه:

" مجنونة؟!! أهكذا تستقبلني؟"

وتلاعب لسانه كصخرة تسدد هدير الوادي في موسم فيضان:

" دعوات رسمية وليلة أرق مخيفة، وشبه طوارئ في مراقد الطابور، أكل هذا من أجل أن نلتقي؟!"

" وهل يمكن أن نلتقي بدون كل هذا؟ كل ما في الأمر اني انتهزت فرصة مجيئهم بنا الى الثكنة فقررت رؤيتك"

ودخل غضبه طور التنازل:

" صحيح ولكن ليس الى هذا الحد، ليس الى أن يبيت الدوار باكيا"

" أعرف أن الجميع يحبونك"

" خديجة؟"

" ماذا؟"

" ذري لغة الماخور جانبا أرجوك فما نحسه اليوم هو لغة الزنازين فقط"

" صدّقني إنها لغة، لغة الضيعة، لغة القلب، وهي زنزانة أفظع في نظري من زنزانات الجناح الأخر من القلعة"

وسكتت ثم أخذت تتحدث من جديد وعيناها مركزتان على الباب الموصد:

" ألا ترى أن ضباطا سامين يُسيل لعابهم حلم خلوة كهذه، ومع ذلك؟!"

واشتط ثانية:

" ومع ذلك فضّلت عنهم راعيا أم ماذا؟"

ووضعت أصابع يدها على شفتيه:

" لا تقل هذا أرجوك أسكت أسكت فقط"

" أحس بكل هذا يا خديجة، ولكن بماذا أقابل الطابور؟ ليست هناك تحركات إضافية في هذا الوقت، فحين تتحرك عليك أن تُهيء الجواب؛ فأنت إما آخذ أو مأخوذ منك، ودخولي الثكنة لابد أن يخدم واحدا من الطرفين، الدخول ليس حياديا كما تتصورين، ماذا أقول للرومي ويعقوب اللذين قضيا ليلتهما باكيين كالأطفال؟؟؟"

وقالت كما لو أنها لم تجار أفكاره:

" منذ متى كنت تحفل بالآخرين؟"

وبتأثر باد:

" إذا لم أحفل بهم فأنا محسوب عليهم، وهذه صفة لا ترتضينها لي فيما اعتقد"

وتنهدت:

" تتحدث لغة العشاق لغير صالحي"

" دعي ذلك يا خديجة لم يعد الأوان يستسيغه"

" وأوان ماذا هذا الذي يجمعنا؟"

" أوان الثكنة"

وضحكت ساخرة وهي تطقطق كعبها العالي على البلاط:

" وثكنة المدينة؟ ألم تتعاط العشق في تابوتها المزدان بثريات اللهفة؟"

وأضافت في ازدراء:

" أراك عفيفا منذ الآن!"

وفي رزانة أشار بيده:

" هذه الزنزانات بجانبنا تلتهم أسرى يئنون في الأغلال"

" سلواننا ليس قميئا بإطلاق سراحهم"

وغمغم:

"إنهم رواد العشق الأبدي"

وحاولت إثارته عمدا:

" الرومي أيضا يعشق بالمؤبد"

وضحك بوغريبة:

" لقد صرت مناظرة لا يمكن إفحامها؟"

وتنهدت بدورها:

" تخاطبني كمحايدة! وعذرك أنك تجهل وجهي الأخر!"

" صحيح؟!"

وحاول أن يقرب يده من يدها فصدته في عنف، وتبللت عيناها ولكنها اضطرت الى مهامسته خوفا من أن يكون بالمكان أداة تسجيل:

" إسأل عن المتلثمة التي أطلقت النار على مخبر الاستنطاق بسوق الخضر"

وأضافت وعيناها تذرفان خاثر الدمع:

" وعن التي طلبت إلى النقيب أن يصطحبها بسيارته الى نزهة بالغابة الخلفية، أين استسلم للكمين صاغرا"

" وماذا فعلوا بك؟"

" كان حريصا على ألا يرانا أحد معا خوفا من الرائد الذي كان يهيم بجمالي، وبذلك تم اقتياده؛ ثق أن أنبأ مقتل الرائد ذاته ستبلغك"

وتجاهلت اعتذاراته.

" ونقيبكم الذي أصبح(طارزا) القرية، آه لو أقيم هنا. لست محايدة يا بوعلام ولكنني مع ذلك أحبك"

وتساءل بوعلام في نفسه: من أفلح في تصويب نقمتها نحو الضباط؟! وقالت فور أن هدأت:

" وأنت؟ حدّثني عن نفسك"

وسألها دون أن يجيب:

" والخنثى؟"

" أخبرني عنك، عن دقائق حياتك المهجرية كما يفصلها ملفك احذرهم يا بوعلام"

وأردفت:

" لماذا لا تفكر في الفرار الى الجبل؟"

" نصحوني بالبقاء"

في هذه الأثناء برز وجه ضابط الصف من خلف الباب، فعمدت " الرابلة" الى القول:

" وخالتي منصورة لعله بلغها الشال الذي أرسلت به إليها؟"

واختفى وجه ضابط الصف بعد أن خاطب بوغريبة:

" لك أن تنصرف فور انتهاء اللقاء، هي ذي أوامر الملازم"

وتضاحكت الرابلة:

" شكرا"

وقال بوغريبة كما لو أنه تذكر شيئا:

" وهل أنهيتن مهمتكن في القرية؟"

وبصقت على البلاط، لم يخض معها بوغريبة في الموضوع ،موضوع المومسات اللائي جيء بهن عوضا عن " الحسناوات الخمس"والرابلة واحدة منهن طبعا، كان يشده التفكير في أمر الضابطين اللذين زعمت انها أودت بحياتيهما، هل في إمكانها القيام بذلك؟ أم انه من باب طمأنته على وحدة القناعة بينهما؟ وواصلت حديثها:

" ثكنة بهذا العدد لا يوجد بها امرأة إلا عشيقة النقيب، التي اعتادت قضاء عطلتها بالقرية؟!"

" ومن هي؟"

" الأنسة شونتال"

" ليست بأحسن منك ولا أكثر ثقة بالنفس"

وتنهدت بعمق:

" أحسن وأنظف أيضا؛ أنا مطعونة الأخلاق يا بوعلام"

" ظروف ظروف"

" أنت تجاملني؟"

قالتها وانصرفت نحو الباب الداخلي قائلة:

" انتظرني"

لم يطل اختفاؤها فقد عادت إليه تحمل شيئا يشبه الطرد البريدي وسلمته إليه في رفق:

" بعض السجائر فقط لا تؤاخذني لم يمهلونا لاقتناء أشياء جديرة بالمنح"

وطلبت إليه أن يكشف الثوب عن ذراعه، لترى الوشم الذي يجسّم يدا بشرية ممدودة السبابة، ففعل.

" حسبي وجهك آراه"

واحتدست أنه غير صادق فعانقته وافترقا.

قطع بوغريبة منحدر القلعة مسرعا تدفعه المفاجأة السارة التي أسفرت عنها دعوة الملازم، هل إن الثكنة أحيانا تدعوك لأمر يسرك؟!

تساءل وهو يلهث لشدة العدْو الذي انطلق فيه مذ غادر برج الحراسة، مذ أن عاود رؤية الشمس، كان فعلا يستعد لتلقي التهاني واحتار فيما إذا يلحق بيعقوب والرومي في مرعاهما، أم يقضي يومه محاضرا بين الخيم حول جزئيات لقاء مثير قد يُمتّع الجميع سماعه؟؟

الرابلة؟! هذا الوجدان الدافئ من قاده إلى دربه بكل هذه السهولة؟ وجه صبوح فعلا ما أن يلتقيه حتى تنجرف بداخله حيوية، وارتياح عجز السهب والدوار عن استظهارهما من تحت حمأة اليوميات القاتلة للنوازع.

كل هذا، وظل يؤكد لنفسه انه أقوى من الانجذاب، ولم يكن بهذا التأكيد إلا يترجم إحساسا باطنيا، فوظيفته أن يتلقى، أما التفاعل فمن وظيفة الرابلة، وعليها أن تُحدث هذه القابلية في صدره إن استطاعت، أو تلتزم أحادية الفعل.

وألقى نظرة سريعة على ما تحت إبطه بداخل علبة الورق المقوّى التي تحتوي هديتها، وابتسم لخليط يتجانس بهذه العلبة؛ حلوى ، سجائر،صور شمسية ، وساعة جيب، وعمامة ، وأشياء أخرى تسربت الى أسفل العلبة، وصادف في طريقه الى الطابور أطفالا يسعون تلقاء الوادي، فمنحهم قطعا من الحلوى ، وافترس علبة سجائر فتناول منها لفافة فاخرة، واستشرف جمع الشيوخ بالمصلى فخيل إليه انهم ينكسون رؤوسهم، كما لو أنهم يؤدون حركات جنائزية في ديانة غير معروفة، وحيّاهم فلم يزد بعضهم على أن همهم في غموض وارتباك.

وانتصب الى جانب الشيخ بوخلوة الذي لفّه بنظرة فاحصة لم يعهد قوتها فيه من قبل، وأخذ مكانا بمحاذاة مراد ونفسه تحدّثه أن سيلا من الأسئلة سينهمر، وكان فعلا قد هيأ الجواب، إذ لا يعقل وليس من تقاليد الدوار، أن يخاطب شيوخا كهؤلاء عن لقاءات " الرابلة".

لسوف يجيبهم أن الثكنة دعته رغبة في التجند لأنه يحسن الفرنسية، وقد رفض لأسباب تخصه، وأن رفضه أقام شجارا بينه وبين النقيب، وتقضت فترة صمت دون أن يحدث ما توقعه بوغريبة أو قريب منه، فالشيخ عطاء الله يستمر في كلامه حول عادات الزواج عند القبائل الجنوبية، والكل ينصت في أدب جم.

" لكأنكم كنتم تنتظرون اعتقالي؟"

" هو بعض ما اعتقدنا فعلا"

سارع الشيخ معلى بالجواب كعادته، ورمقه الشيوخ كما لو أنهم يناهضون الحديث في الموضوع إطلاقا، استمر الشيخ عطاء الله في سرد قصص رحلاته، ولاذ بوغريبة بسكون وقد أخفى هدية الرابلة، وأصلح عمامته وعيناه تناشدان الشيخ بوخلوة أن يفصح، بيد أن هذا اعتزل تبادل النظر، اتجه بوغريبة صوب خيمة " الواشمة"، لسوف يهدي أطفالها الأيتام بعض قطع الحلوى، وما أن استجمعت عيناها الشاردتان قوامه حتى صاحت:

" بوغريبة ؟! ما هذا الذي أقدمت عليه؟!"

وكاد يبكي:

" ماذا يا خالتي؟! ما بال أسئلتكم معكوسة منذ اليوم؟"

وظل صوتها يحتفظ بشدة اللهجة:

" أتنكر أن الشيخ المكي قد ألقي عليه القبض بوشاية منك؟!"

ومدّد كلماته في احتقار:

" ماذا؟!!!! بسبب ماذا؟"

لم يلج الخيمة كما كان يعتزم، بل عاد أدراجه الى حلقة المصلى وزمجر قبل أن يصل:

" من الذي وشى بالشيخ المكي أيها الأفاضل؟!"

" تسألنا أم نسألك؟"

أرعد الشيخ معلى وعيناه تحاولان رسم صدق انفعال، وتجاهله مستطردا حديثه الذي شرع فيه من قبل:

" ضابط الصف الذهبي الطاقم، اشترى تسع عشرة قطعة من مزارعي القرية دفعة واحدة، وأقامهم خماسين عليها، لقد أصبح بحق ذا عقار"

" وهل ماهيته تسمح له بذلك أو أكثر؟"

" اشترى أيضا مياها تفوق حاجة الأراضي، وهو يستخدم الفائض منها للكراء، عشرة ألاف فرنك للساعة الواحدة"

" وبعضهم يستبدل بالرجال فرنكات صدئة مقابل اقتناء السجائر"

زفر بوغريبة وقد طال وقوفه قريبا من المجلس كعمود نور مختل المصباح، وهرول صوب السهب حيث يعقوب والرومي، شاتما الرابلة على مسمع من أذنيه، مخلفا الطابور في حالة ارتجاج قصوى.

" ألم أقل لك يا حليمة وأنت تجادلين عن جهل بحقيقته؟"

رددت زينب في ثورة.

" لقد خُدعتُ فيه"

همست حليمة خلف دموعها.

" مراد استغوره بعمق"

" وماذا يعرف عن أبي ؟! الخبيث؟"

" بل ماذا صنع أبي ليُسجن؟"

لم يتم إخلاء سبيل الشيخ المكي خلال اليومين المواليين كما اعتقد الدوار في شبه إجماع، ومعنى هذا أن الإدانة أصبحت نافذة، وهي من الخطورة بحيث أخذت مدة عقابها تخرج عن ظرف الحبس لتمنح نفسها صفة السجن.

" ولكن مدة الحبس عندهم غير محدودة"

قال الشيخ عطاء الله، وما كان انتفاء الدعوة ليبرئ ساحة بوغريبة ، فهو الذي تلقى دعوة الثكنة كسابقة، وإلقاء القبض على السيناتور إنما حدث أثناء وجوده بالقلعة.

بوغريبة أكثر من يعقوب والرومي يدرك خطورة الدور الذي يؤديه السيناتور في ربط الطابور بالقسم، بل إن الرومي ذاته هامس يعقوب في وصية بوغريبة قبل شخوصه إلى الثكنة:

" قال لي ((احتفظ بهذا المبلغ وإذا لم أعد، حله على الشيخ عطاء الله كهبة للقسم)) "

وبرقت عينا يعقوب في صدق:

" ((فهمت، أغفل ذكر الشيخ المكي مع أنه قائد العرش!!"،

ولكن ضابط شؤون الأهالي هو الذي ألقى القبض على الشيخ المكي، وبوغريبة اتجه الى الثكنة حيث النقيب؟!"[HM1]

" ومن أدراك أن الديوان حوّل الشيخ المكي بدوره الى الثكنة؟"

" جائز"

وبادره الرومي:

" يعقوب؟ من سيوزع المنح الشهرية على الأرامل والأيتام في غياب الشيخ المكي؟"

" أكيد أن أحدا سيخلفه"

وأسرع الرومي بالعودة إلى موضوع بوغريبة ليزيل إشكالا طارئا:

" الملازم يستدعيه وهو ينكر لقاءه به! ثم هل يحدث أن تتحكم مومس في ثكنة، فتستخدم ضباطها كما تشاء؟"

وضحك يعقوب وهو يجسم سخريته:

" لا اخال سجائره الفاخرة سوى هدية من الملازم مقابل؟"

وقاطعه الرومي:

" أتذكر مواسم تردده على المدينة؟"

" أجل، وما بها أيضا؟"

"أكاد أجزم أن حكاية الرابلة من أساسها مفتعلة، وأن صاحبنا كان عينا للفرنسيين على تحركات الدوار منذ ذلك الحين"

" وأسرار الحركي عبد الصابر التي كان يهربها للشيخ المكي؟"

وتنهد الرومي:

" نقسو أحيانا في المحتمل ولكن لا أدري"

دلف بوغريبة إلى خندق المبيت، فأجهض شبحه المهتز همس الزميلين، وسارع يعقوب الى استبدال الحديث في ذكاء مفضوح:

" سعيّد مات قبل حيزية"

وتفطن الرومي فساير الوقع:

" بل حيزية ماتت قبل سعيّد"

وعلق بوغريبة متهيبا الحوار ومحيّاه يعكس موجة من قرف:

"ألأهم من كل هذا انهما ماتا فاستراحا"

وأعاد إليه الرومي المبلغ المالي الذي اختزنه عنده قبل زيارة الثكنة، فمسك الأوراق النقدية بشبه عصبية، وانزوى بركن المبيت وقد تلثّم بما فضل من عمامته، كان الوجدان المرح يكابد معاناة في ثقل الرواسي، أهو تكبيت ضمير؟ أم أثار لعنة كاللعنات الوثنية القديمة؟ أم تجريم غير قابل للدفع؟

في نظر الدوار سقط تمثال بوغريبة بغتة، تماما كشبح من قش لا يقوى على مجابهة العواصف.

أفرغ الشيخ معلى تعاليقه بشأن الحادثة، وقضى بوغريبة بقية ليله بخيمة الشيخ عطاء الله متحديا هذه المرة حظر التجول؛ فنهاية اختراقه الموت؛ والموت غاية طبيعية ينشدها الآن بالذات، فقط على هذا الموت أن يفد اليه من مصدره الطبيعي، من القلعة.

تضرّع رجل الأسفار الى الشيخ عطاء الله ليؤجّل إشعار القسم بما حدث، وأنكر هذا علاقته بالقسم، بل تساءل عن هذا المصطلح الذي يسمعه لأول مرة (القسم!!!)

" أشر الى اعتقال الشيخ المكي فقط، على أن تُلحق التعليل فور اتضاح القرائن"

" اعتقال، قرائن، تعليل، صدّقني لا أفهمك"

" أعرف أن القسم يهمه السبب أكثر من الخبر لكن"

وقاطعه جادا:

" ما دمت تعرف أساليبهم، فلم تسند الي مهمة إشعار جهات لا أدري إن كانت موجودة بالفعل؟!"

" استوضح عبد الصابر؟"

وكأنه يعلن عن نهاية المقابلة:

" هذه أمور لا تعنيني على الإطلاق على الإطلاق"

واعتدل بوغريبة واقفا وهو يقول:

" لست أفضل من كثيرين ماتوا ضحية الالتباس"

وكاد يزجره ولكنه أظهر الحياد، وردد الشيخ عطاء الله في نفسه )) إنها الثورة، وهمها منّا الوضوح ما أمكن، كما يردد جمال دائما)).

اتجه بوغريبة تلقاء خندق المبيت، وحججه تتناثر من حوله، ليس من بينها واحدة تقوى على الصمود، كل القرائن تخدم التهمة والتهمة تتعلق بالشيخ المكي بالذات وهنا تبلغ مأساته شأوها.

الشيخ عطاء الله شخصيا أخذ يعلك فكرة الفرار، فالوشاية في كل الافتراضات لا يمكن أن يقتصر أمرها على الشيخ المكي، والشيخ المكي نفسه لا يُؤتمن تجلّده أمام ضراوة الاستنطاق التي أصبحت تعرفها القلعة، مذ أعطيت صفة المكتب الثاني.

ووفد عليه الشيخ مبارك في خيمته صباحا، محتفظا بكل أعراض الحيرة:

" هل من جديد يا شيخ عطاء الله؟"

ودعا بشاي وكأن السؤال لا يعنيه، لكن سرعان ما انجرف حديث أخذ يتطحلب بداخله:

" بوغريبة؟ أمره يحيّرني، أخشى أن نظلمه!!"

وضحك مبارك في صدق:

" وهل تخال القسم جزارا أعمى يذبح بدون تحر كاف، فحين يتعلق الأمر بالأنسان، لن تجد متطوعا لقتله إلا بإدانة ثابتة؟"

" ضابط شؤون الأهالي أيضا يشيع مثل هذه الرأفة!"

" الوضع يختلف، القسم هو الأخر لا يدّعي إنسانية تجاه العسكر، أما الشعب فمن يرحمه غيره؟"

"أحيانا يعتمدون شفقة حتى تجاه العسكر لكسب ذويهم"

احتسى مبارك جرعة صغيرة من كوب الشاي:

" بوغريبة أخر من يُتهم في قضية الشيخ المكي، فقبله بالضرورة يصنّف الشيخان بوخلوة ومعلى ثم الحركي العاشق"

" صحيح إن الإدانة لم تعرب عن نفسها، لكن لا مفر من تعليل ما حدث، ولكنك تتجنى حين تدرج الشيخ معلى تحت الاشتباه والرجل لم يغادر الطابور يوم القبض على الشيخ المكي، أما الحركي فجاهل لصفة المكي، وبوخلوة ثار على الضابط ذاته كما تعلم"

" ثار؟!! ومن أدراك انه تقاسم أدوار؟ ثم هل الذي يشي بأحد ملزم بالشخوص الى القلعة؟، كان بوسع بوغريبة أن يفعل دون أن يُدعى الى الثكنة، وعبد الصابر يكفيه كل هذا العناء لو شاء"

" عبد الصابر لا يطاوعه، إنه أشرف حركي على الإطلاق، على الإطلاق"

لم يستقر رأي الشيخ عطاء الله على مرافعات مبارك، فمبارك كآخرين لم يطمئن الى التغيير الذي طرأ على مواقف الشيخ بوخلوة ، وكأن الشيخ بوخلوة خُلق على هذه الصورة ، صورة رافضة للتهذيب ، بالأمس القريب كانا كلاهما مبارك وعطاء الله يجهلان ما يخوضان فيه الآن، فكيف اهتديا إلى بوابته؟

يكفي أن يكون المصباح قويا ليُهدي كل مدلج، وحين يشح المصباح قليلون جدا هم أولئك الذين تكون أقدامهم قد ألفت حصى الطريق، بشكل يؤهلهم على الاستمرار في التزامه، ومادام المصباح كما يراه الشيخ عطاء الله اليوم يضاهي الشمس في ثقلها الحراري، فلا ينكره إلا مصاب بغريزة الرمد.

غير أن الشيء الذي فات الشيخ عطاء الله ومبارك معه، أن أفضية السهوب قد افتقدت بسماتها الصباحية في عين بوغريبة، فلفّها سواد الأراضي المُحرّمة رغم أن القطعان تسترعيها في يسر وتريث، وسنوات الثورة ــ كما يشاهد مربو الماشية ــ هي من أخصب أعوام العقدين الماضيين، فخلف الأسيجة المكهربة أينعت أزاهير الأيهقان تحتضنها نباتات الحارّة والجرجير لتكسب الدمن الرملية لون الحدائق الغنّاء ، وسطوح السهول شقق خدودها "الترفاس"( الكمء) وقذف كبيره بالقشرة الأرضية ليحدق في الشمس علنا، وعلى قمم الآكام الصخرية علت سعاليج " القيز" بعيدا عن عبث الأطفال، وبلونها الأغبر نازعت خُضر الفوقّاع ( الفطر) جذوع الأشجار وطحالب الأدغال.

ولأنها خارج السياج المحيط بالمحتشد، اعتاد الرعاة وحدهم أن يؤوبوا مع الأماسي محمّلين بهذه الألوان الغذائية جميعا، وكان بوغريبة أكثر زميليه حملا وتفننا في الانتقاء، فبنت النمر وحليمة و الواشمة و الخالة زهرة وأخريات لا ينعمن بخضر السهوب إلا من جراب بوغريبة.

وحين امتنع عن التموين تحت الأزمة النفسية التي تجتاحه، كن في حقيقة الأمر من أوائل المتضررات، بل إن حليمة قررت أن ترده بما يحمل إذا ما أقبل المساء، لكن قراره جاء سبّاقا، ولأنها مولعة بــــ"الترفاس" طلبت بعضه من الرومي، فكاد يشرع في عزف لحن داخل خيمتها، فأضحكها الموقف رغم مأساتها.

" حليمة! هل تعتقدين أن بوغريبة "

وقاطعته:

" لو ظننت أنك ستذكر اسمه بخيمتي ما طلبت إليك ترفاسا"

" إنني أشك فيه لكن"

" لكن ماذا؟!"

وعدل عن الكلام خوفا من ثورتها في وجهه.

" لقد قاطعناه يعقوب وأنا لن يجمعنا به حديث ودّي"

أفراد الطابور جميعهم أخذوا يتطيرون من بوغريبة، وهذا ما يستشعره بعمق دون أن يتسمع تفاصيل هذه الطيرة، ولو شغلت باله أكثر من أي أمر أخر.

والرابلة؟ آه لو تعلم انعكاس زيارتها عليه، تعتقد المسكينة انها جددت عهدا بما يكفل استعصاءه عن الصرم، ولكن الواقع لا يطاوع خواطر أحد، وبوغريبة ــ حتى وإن لم يحدث ما يجابهه الآن في تحد ــ ما أعار لقاءهما فوق البسمات المتكلفة التي تظاهر بها أمامها، ولعلها لذلك لجأت إلى دعوة رسمية لا تشتم منها رائحتها، وإلا كان قد عدل عن الزيارة لو علم أن الامر يتعلق بها هي فقط.

ما يغبطه عليه آخرون انه محظوظ وفي هذه الزاوية بالذات، لأنه يحمل نظرا لا يتعامل مع الكائنات والاشياء بأثر رجعي، وكاميراه تجهل لعبة الارتداد المقيتة.

كان جالسا إلى شجرة بطم وكأنه يتفيأ ظلالها الممتدة، إلى أبعد من المساحة التي تغطيها جذوعها في منحنيات شديدة الالتواء كعقود شهادة ميلاد غابرة.

إلى أسماعه ترامت أنغام الرومي من هضبة محاذية وكأن شيئا لم يقع يمنعه من الإدمان على العزف، بل إن يعقوب رافق الإيقاع في خفة بكلمات لا تتضمن إلا مزيدا من التشكيك:

" ما صرنا كي أزمان شوف اتبدّلنا

وانسينا ما جار عنّا بهوالــــــــــو

أنسينا سادات ماتو بالغبنـــــــــــــه

ومن عاشرهم بالخدع يا تهوالــــو"(18)

ولحسن الحظ ان يعقوب لم يرتبط بهذا الاستهلال المخيف، إلا ليوصله إلى أغراض أشد التصاقا بلونية وجدانه، وفعلا فالرومي هو الأخر التمس تخفيفا في اللحن إلى أن صيّره يقترب من لحن ( مدّاح المدينة) ، وتنهد بوغريبة في عزلته السهوبية المهينة:

" آه يوم أن كانا لا يفرقان بين الأحرار والعفاريت!!"

انقذف صوت يعقوب ليكوّن وألحان القصبة نسقا منظّما في غاية التكامل، وارتمى يعقوب واقفا ورسمت هيئته لقطات رقصة طويلة النفس، غالبا ما حددت اتجاهات عصاه الغليظة ذبذبات توجهاتها الإيقاعية بدقة، وأقلع عن الرقص هكذا بدون مقدمات كعادته وغنّى ضارعا.

بعيدا منهما ظل بوغريبة مسمّرا في مكانه تحت شجرة البطم العجوز، وكأنه يستفتيها في بعض تعاريج صباها التي ترسمها مستظهرات الجذوع الواضحة، ولم يدر بخلده قط أن الرومي ويعقوب إنما كلفا بتتبعه من قبل الشيخ عطاء الله وإلا كان لجلسته تلك شأن أخر.

ما يشده الآن أن أنغام الرومي قد توقفت، وخيل إليه أنها إنما أجهضت، فمن عادة الرومي التي غالبا ما داعبه بها أيام الصفاء ذلك الشبه الذي يربطه بقائد الطائرة، حيث يعمد إلى التحليق قريبا من المطار دون أن يداهمه مباشرة وبصورة رأسية انتحارية، حدد بوغريبة نظره غير انه لم يعكس بملتقى القطيعين سوى شخصي الرومي ويعقوب، وكأنهما يوقّعان هدنة بين جيشين متقابلين؛ وحاصرته صيحة من خلفه امتقع لها لون وجهه:

" أنت بوغريبة، بوعلام العايدي؟!"

الصيحة صدرت عن رجل مقنّع يشهر بندقية ويرتدي جلبابا بنّي اللون، وعمامة تقاسم الجلباب معظم خاصيات صبغته:

" نعم"

" أضف القطيع إلى زميليك وسر أمامنا"

فعلا لقد كانوا ثلاثة بذات الشكل، ولو أن المرافقين لم ينبسا، تحرك يجرر رجليه مطاطئ الرأس كاظما غيضه على شخص ما، لكن من هو؟ الشيخ عطاء الله الذي لم ينزل إلا عند إلحاح أنانيته؟ ،الرابلة ؟ إنها مصدر الداء كالمعدة؟ في مرارة كان يتشرّب تحفظ الجميع ازاءه، وقد حاول إشعال لفافة فزجره رجل الصيحة الفجائية الأولى:

" أجّل ذلك إلى حين وصولنا"

وصولنا؟!إلى أي مرفأ يساق هذه المرة؟ منذ أسبوع سيق تحت مخاوف دعوة الملازم، واليوم يساق إلى حيث لا يدري.

" هل أصبح غامضا في نظر هؤلاء أيضا؟!" ،

هو السؤال السابح بدون عناء على سفوح المنحدر القائم في واجهة الشمس؛ وأيقن بوغريبة أن قمة المنحدر ليست قفرا كما ظل يعتقد، ففيها يتكلم الشجر، وتتقن الصخور مواقعها.

" الساكنين الأوعار"!!!

هكذا وصفهم مداح المدينة في اعتزاز دافق لا يزال يستشعره بوغريبة رغم الشعورين المتصارعين بخلده، بل إن الشعورين يتجمّعان في سؤال واحد، يتوقف عليه رحيله كله:" هل سيُستنطق؟! وهل سيُصغى إليه؟!"، وسمع بوغريبة كلمة ((قف) دون أن يحدد موقع مصدرها، ولكن في نبرة ثقة بعيدا عن الزمجرة.

" عام الغلة"

ومسك الذي يليه بذراعه وتقدّم، لم يكن بوغريبة يميّز بين تنظيمات الثورة، ولذلك يجهل أهو بقسم أم بمنطقة أم بولاية.

((في جيش التحرير كاين المحافظ السياسي العاقل وكاين اللي يعذّب الخونة والمرتدين)) هو ذا التصنيف الذي اعتمده الشيخ المكي دائما، فأي الطرفين سيتولى أمر بوغريبة؟!

" هل سيستعملون التعذيب في استنطاقي؟"

سأل بوغريبة الجندي الماسك بذراعه، وضحك الرجل المتوسط القوام وأصلح وضع بندقيته على ظهره وقال في وقار:

" أصدقهم القول فقط"

سائرين لا يزالان صوب تجويف صخري، يبدو أن صخرته فقدت إرادتها في البقاء بالكهف أمام عنف السيول الموسمية التي جرفتها لتنتبذ من بقية الحجارة موقعا شبه منفرد. وخارجها انتصب عسكري بكامل بزته الشبيهة بملابس الصاعقة ورشاشه يتدلى قرابة صدره، هل هو المستنطق؟ لماذا يسارع بوغريبة إلى تقتيم الاحتمال؟ فلعله المحافظ السياسي (العاقل)، فالعقل أساس التفاهم، كان متجهما هزيل العود طويل القامة، يضاعف من وسامته المتوسطة طول شاربيه:

"أأنت بوعلام العايدي، بوغريبة؟"

اللهجة صارمة ما في ذلك شك على بساطة السؤال.

" أجل يا سيدي"

وخلا به داخل دهليز الصخرة الشاردة.

" تفيد معلوماتنا أنك زرت الثكنة في هذه الأيام؟"

مباغتا كان وسريعا في أحاديثه، تناقض تبدّى لبوغريبة بين شكله الظاهر الهادئ وحزم الاستفسار.

" نعم"

" وفيم ذاك؟"

" في دعوة وجهت الي"

" حول؟"

وأصدقه بوغريبة الخبر بكامل جزئيات لقائه "بالرابلة"، دون أن يقاطعه أو يظهر ضجرا لطول التفاصيل، كل ما في الامر انه ابتسم حين أبلغه بوغريبة ان " الرابلة" قتلت ضابطا فرنسيا، وتسببت في اغتيال أخر برتبة نقيب.

" ولصالح من قتلت هذين الضابطين؟"

وانتصب شعر بوغريبة برأسه فرأى الصدق هو الأخر مدعاة للشك:

" ألستم، ألستم، من جيش التحرير؟!!"

وقهقه المستنطق حتى دمعت عيناه هذه المرة، وقلب بوغريبة يواصل إبحاره.

" ومن نحن إذن؟ جيش رابع؟ أقصد من أمرها بتنفيذ العمليتين؟"

" آه رجال الثورة بضاحية المدينة"

" مدينة(...)؟"

" نعم"

وكتب اسم المدينة بلغة سي محمد كما يعرفها بوغريبة:

" لسوف نتحقق"

وداهمه إحساس بالخوف ثانية، آه لو تكون كاذبة الداعرة إذن، علق بوغريبة بسرعة وانتظر السؤال، وتنهد محدثه.

" فور عودتك من الثكنة زعمت إن الملازم دعاك ترغيبا في التجند بصفوف العدو، وأشفعت ذلك بكونك تحسن اللغة الأجنبية؟"

" الحقيقة"

وقاطعه.

" انتظر وحين اختليت الى زميليك بالمبيت، ادعيت ان الدعوة إنما كان هدفَها لقاؤك بالرابلة، ففيم التناقض؟"

" ارتأيت انه من سفاسف القول أن استعرض لقائي بالرابلة أمام شيوخ المصلى، لذلك افتعلت مسألة التجنيد"

" كان عليك أن تنفرد بمن تثق فيه منهم وينتهي الأمر"

" لم استشف المسألة إلا من منظار جد عادي"

والتمس بوغريبة في نفسه رغبة في البوح، فأخذ يحادث المستنطق بماضيه المهجري البعيد، في صورة مذكرات متقطعة الفصول، وأحسن الرجل الاستماع بدون تكلف فيما يبدو.

"آه إنك أجبت عن السؤال الموالي مسبقا"

وتسارعت حركات رموشه:

" حول ماذا؟"

" زياراتك الأسبوعية الى الديوان"

وابتسم في طمأنينة:

" آه صحيح"

وعلق رجل التحقيق على كلام بوغريبة بقوله:

" صحيح انه ماض مشرق، لكن ثق لو أن الأمير عبد القادر ذاته أساء إلى الحاضر ما عصمه ماضيه من نقمتنا "

وتنهد بوغريبة في مرارة كما لو أنه فوجئ بتعليق المحقق.

" الأهم من هذا ان أنظار الطابور ما لبثت أن حدقّت إلي في حين كان ينبغي لها أن تحدّق بآخرين هم أقرب الى دائرة الشبهة "

" أسماء المشبوهين عندنا، اطمئن"

وفي سره قرأ المحقق ما كان كتبه أثناء التحقيق (( إلقاء القبض على بوغريبة أيام المهجر بتهمة الانتماء الى حركة استقلالية، وتفتيش منزل عشيقته "سوزان"، ثم إبعاده الى الجزائر وإلزامه بالتوقيع الأسبوعي لدى مصالح الدرك بالمدينة)).










[HM1]

محمود حيدار (1).jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى