محمد عبد المنعم زهران - سيـدة المـاء.. قصة قصيرة

قفز فى الماء ، فبدأ القارب يتأرجح بشدة .

تلفتت ولم تجده ، كانت تحدق ذاهلة ، ودون أن تشعر خرج صراخها عاليا حادا ، فانتبهت نوارس كانت تطير عاليا فى السماء والتفتت بأعناقها ، بدا الصراخ لاذعا مريرا ، له صدى ، كأنما يأتى من كل أنحاء البحر . كان القارب ما يزال يتأرجح بها ، وعادت تنظر كأنما تبحث عن شئ لا يرى ، نادت عليه مرات ، ثم عاودت صراخا بدا قادرا على دفع الروح فى أعماقها إلى الخارج ، خارت قواها فانهار جسدها فى قاع القارب ، وأخرج فمها أنينا متواصلا ومكتوما وهى تفكر مشوشة فى قوة غامضة جعلتها تنفلت من بين يديه وتتشبث بالقارب :

كانا سيقفزان متلاحمين . عاودها بكاء صامت ومستمر ، لم تكن قادرة على إيقافه ، بعد قليل تحركت زاحفة ومالت بعنقها فوق حافة القارب ، نظرت خلال الماء الشفاف ... ورأت جسده الخامد يهبط ببطء إلى الأعماق ، وشعره الأسود الطويل يتماوج كأعشاب بحرية ، غامت عيناها وفكرت فى أشياء كثيرة ، أشياء مرتبكة يتخللها وجهه ، وأصوات النوارس والشمس والموج الهادئ ، نهضت وقررت فجأة أن تقفز ، ولكنها تراجعت وانكمشت فى قاع القارب مرتجفة .


* * *
*
لم تتذكر أبدا كيف عادت إلى البيت ، ولكنها تعرف الآن أنها نامت فى فراشها لأيام طويلة ، لم تشعر بأى شئ ، من حين لآخر كانت تفتح عينيها وترى رقابا مدلاة نحوها ، رأت وجها يشبه وجه أمها ، ووجها يشبه نورا أختها ، رغم ذلك ظلت غير متأكدة من أى شئ ، كان الخدر يأخذها للنوم سريعا . لكن لم يكن بمقدورها تذكر أنها وطوال هذه الأيام كلما رأت البحر انتابها هياج فأغلقوا الشرفة وأسدلوا ستائرها ، كذلك لم تعرف بصراخها المتواصل ولا بكمونها فى الفراش ، محدقة خائفة من شئ لا يرى ..

كان صباح هادئ ، كل شئ كان يقول لها إن هذا صباح هادئ وجميل ، نهضت ، وفجأة شعرت بآلام فى كل جسدها ، تجمدت فى مكانها ، لم يكن يغيب عنها أى شئ ، فكرت :

.. كنا فى القارب .. وأبحرنا ... كان يمسك بيدى .. كنت أمسك بيده فى قوة ، ما كان يمكن أن أتركه .. ولكن يدى انسحبت فجأة ! أى شئ جعلنى أسحب يدى ؟!!

شعرت بدوار مفاجئ وبرأسها ثقيلا ، ولكنها عادت تفكر مرة أخرى فى أنه لم يصر ، وأنه فى النهاية ترك يدها .. ترك لها أن تختار . أزاحت الستائر ، فتحت الشرفة وتأملت البحر ، اندفع الهواء إلى الداخل مشبعا باليود ، وباغتتها الدموع ، كانت تهبط هكذا من دون بكاء ، قالت لنفسها إنها ستكف الآن ، جففت الدموع بوجه صلب وأغلقت الشرفة .


* * *
*
على مائدة الإفطار ، كلمات قليلة تصدر من الأفواه ، بدت لها بعيدة ، كانوا يرمقونها ، أحست بعينى أبيها تقول بغلظة : انسيه .. قد مات الآن .. وكانت عينا الأم تمتلئ بلهفة ، وحدها نورا كانت تنظر إليها بعينين لا تعبران عن شئ .

عادت إلى غرفتها ، فتحت الشرفة والنوافذ ، فتسلل صوت الموج ، تبعتها نورا ، دخلت بابتهاج واستلقت على الفراش ...

- الهواء رائع اليوم .

- نعم .

كانت ما تزال تنظر إلى البحر ، والناس التى تمشى على الشاطئ ، كانت تعرف أن نورا ستتكلم الآن وتسأل ، انتظرت أن تسمع أى شئ ، التفتت ورأتها مستلقية شاردة تحدق فى السقف..

- نورا . أنت تفكرين ..

- ... نعم .

- أعرف . كان يجب أن أقفز معه ..

- لا .. لم أفكر أبدا !

- ترين أنه ... سيبدو شيئا رائعا كما فى رواية ... أليس كذلك ..

أرادت أن تقول لها إن الحياة ليست رواية تقرأ .. إنها حياة ، ولكنها توقفت ، كانت تعرف أن نورا لن تفهم ، وأن صبية مثلها تهفو دائما إلى رومانسية الحياة ، فشعرت بخوف مفاجئ
عليها ..

كانت نورا فى أحضانها .. تبكى ..

- أنا سعيدة لأنك هنا ..

ارتديتا ملابسهما وخرجتا . قضيتا طيلة النهار فى التنزه ، كانتا تضحكان كثيرا يستقلان الباصات وتهبطان منها من دون هدف . جلستا فى حديقة ، أسندت نورا رأسها على كتفها ، فشعرت أن هذه الصبية تحبها أكثر مما تصورت . كانت الشمس تميل للغروب ، وسحابات قليلة تتحرك فى السماء ، نظرت نورا .

- أترين ... هذه الأجواء ... طالما قرأتها فى روايات ، الشمس .. شمس العصارى .. التى تميل للغروب ، المليئة بصمت ما قبل الموت ودفئه ...

التفتت إلى ذلك الأفق حيث شردت نورا ، رأت الشمس تتجه ناحية البحر ، كبيرة متوهجة بالضوء ، تميل فى بطء لا يستطيع أحد إدراكه .


* * *
*
بالليل استيقظت ..

كانت تفكر فيه من دون رغبة فى أن تفكر ، يقتحمها دائما ، يغمرها بصوته ، نظرة العينين ، التفاتاته وابتسامه ، قالت إنه الحب ، ولكنها على نحو مفاجئ تذكرت أنه قد مات ، فبكت وشهقت بصوت مرتفع ، أدركت أنها لأول مرة تبكى موته ، فاستلقت على فراشها ، وعاودها مرآى ذلك اليوم ، رأت يدها تنفلت من يديه ، وجسده يتحرك هابطا إلى الأعماق ، بينما تقف مرتجفة فى القارب فصرخت باكية ، ارتفع صراخها وانتابها هياج وهى تتقلب فى فراشها ، تشد الملاءة وتقذف بالوسادات صارخة صراخا حادا وباكيا ، دخلت نورا وحالما رأتها بكت أيضا محاولة الإمساك بها ، دخلت الأم ، بدت كأنما انفجر قلبها فجأة ، أمسكتها هى الأخرى ، كانت تتلوى بين أيديهن ، صارخة . حين وقف الأب عند الباب ينظر بغضب ، سمعت شتائمه ، كان واقفا عند الباب ، عيناه حمروان ، يشتم .. ثم بعد ذلك لم تشعر بأى شئ .



فتحت عينيها ، كل شئ هادئ فى الحجرة المظلمة ، رأت ملابسها ممزقة ، خلف النافذة كان البرق يضئ كل وقت فيغمر الحجرة بالضوء ، ظلت مستلقية تنظر إلى الشرفة حين سمعت صوتا يتخلل صوت الرعد المكتوم اتسعت عيناها ، صوته ... صوتا إنسانيا رخيما .. صوته هو .. كان خافتا .. كأنما يجئ من وراء جبال ..

هالة .. أنا هنا .. فى القاع يا هالة .. فى القاع ..

انقطع صوته فجأة ثم عاد واضحا نقيا ..

.. هل شعر بى أحد يا هالة .. هل شعر بى أحد ، غير الماء وبضع كائنات بحرية .. كان هبوطى رائقا جدا ... وصافيا .. كورقة ملونة وجميلة .. لم تكونى معى ، .. وكان استقرارى فى القاع .. رقيقاً .. وهادئاً .. حاولت إعادة تلك الابتسامة الدائمة على وجهى ... أن يكون لطيفا كعادته ، ولكننى لم أستطع .. تلفت حولى .. لم تكن هناك هالة .. راقدة فى القاع بجوارى .. لم تكونى هنا .. وبدأ جسدى يتآكل ويهترئ .. آآه .. كنت أراقبه يا هالة كنت أراقبه .. أرى ذرات صغيرة تنفصل كل وقت وتسبح فى المياه ، كان بمقدورى رؤية قطع صغيرة تنتشر فى الماء .. ثم تتفتت إلى دقائق صغيرة .. تروح وتجئ مع تيارات الأعماق ، لم تكونى .. هنا .. حين تلاشيت فى الماء ..

انفجر صوته

.. تلاشيت يا هالة .. تلاشيت ...

كان الرعد يصرخ ، فصرخت هالة وظلت تحدق مرتجفة ، وحالما هدأت انتظم صوت تنفسها ، نهضت وتحركت ، تحركت فى بطء من يخضع لسحر غامض ، مضت باتجاه الشرفة وفتحتها ، نظرت إلى السماء ، رأت وجهه منقوشا فى السحب مقطبا وعينيه تنظران فى غضب ، لم يبد أنها بوغتت ، كانت تنظر إليه فى ضعف ، فى استسلام مهزوم ، أسندت جسدها على الحائط ، بدا لها وكأن كل أمطار العالم تسقط من وجهه ، عنيفة وحادة كسياط ، تجمدت فى مكانها فاغرة الفم ، بدت كإلهة مذعورة ، ترتجف تحت أمطار غزيرة ، مهيشة الشعر ، ممزقة الملابس ، يصرخ الرعد فى وجهها ، وتسقط الأمطار كأنما تجلد جسدها جلدا . وبكت كان ذلك حين رفعت ذراعيها إليه ، إلى وجهه ، ولكنه كان قد اختفى ، فتشت عنه فى كل مكان ولم تره ، عاودها الهياج عنيفا ، فاندفعت فى كل مكان ، تقلب الأشياء فى الحجرة ، ثم خرجت من البيت جريا ، انزلقت فى وحل الشارع ثم نهضت مرة أخرى وجرت باتجاه البحر .

وقفت على الشاطئ متلاحقة الأنفاس ، تلفتت حولها ولم تجده أيضا ، انتابها سكون غريب ، هدأ جسدها وتوقف رأسها عن الالتفات ، أرخت عينيها وابتسمت ، ثم مضت بخطوات بطيئة باتجاه البحر ، أخذت الأمواج ساقيها فاختفت ، بعد قليل لم يعد يظهر إلا رأسها وكتفاها .

صرخ الرعد فانقلبت الأمواج شديدة هائجة ، لم يكن بمقدور أحد رؤية أى شئ ، عادت الأمطار تهبط مرة أخرى ، غزيرة ، والسماء تومض ببروق متوالية ، كانت هناك ، على الشاطئ مستلقية على ظهرها تدفع الأمواج أقدامها ، تتنفس بخفوت ، بدا وكأن الأمواج قد لفظتها ، فتحت عينيها فى صعوبة ، استمر الموج يضرب أقدامها ، قويا رهيبا كسيوف لامعة ، يدفعها إلى السطح الأملس لرمال الشاطئ حتى ألصق جسدها بالرمال . أخيرا رأت وجهه فى رذاذ الماء ، رفعت رأسها قليلا ، ورأته يملا سطح البحر الرحب ، ووجهه يمتد إلى نهاية الأفق الذى لا يرى ، كان مبتسما .. عطوفا ، عيناه رقيقتان فشهقت باكية . أحست به يقترب ، كأنما يلمس جسدها ، غمرتها موجة فسمعت أنفاسه وأحست بدفء ذراعيه ، فغابت .



فى الصباح دخلت إلى البيت رائقة باسمة ، ملابسها ممزقة ومبتلة ، وآثار الرمال على جسدها ، كانوا جميعا واقفين ، نورا وأمها وأبوها ، لم تنظر إليهم ، مشت غائبة فى طمأنينة ، ببطء وهدوء ، ودخلت غرفتها ، لم تكن تريد أن ترى أحدا ، كانت ترغب فى أن تظل هكذا ، مستلقية فى الفراش ، تتذكر كل شئ كما لو كان حلما ، ولكنه لم يكن حلما . حين رأت أباها واقفا لم تلق بالا ، تركته واقفا وقالت فى نفسها : بعد قليل ستمضى الأشياء السيئة . استمرت مستلقية مسبلة العين باسمة ، ولكنه شد ذراعها وأنهضها ، فحدقت فى عينيه . عندما دخلت نورا وأمها كان يلوى ذراعها ويشتمها ، أحست برذاذ يخرج من فمه ، رذاذ مائى كريه الرائحة ، نتنا ، قالت فى نفسها : ابتعد ، ولكنه لم يبتعد ، نورا وأمها تبكيان لا تجرؤان على الاقتراب ، قالت مرة أخرى بصوت منخفض : ابتعد عنى .. أرجوك .

شعرت باختناق ، لم يبتعد ، أحست بسكون الموج فى الخارج .. سكون أشبه بسكون الموت ، فصرخت ، ورفعت يدها عاليا فى الهواء وهبطت بها ، هبطت بها كموجة قوية وحادة ، صفعته على وجهه ، فتراجع مذعورا ، بينما اندفعت خارجة من البيت .


* * *
*
....

- هالة ..

- نعم .

- أنا هنا ..

- وأنا هنا أيضا .

- كونى .. قريبة ...

- أنا قريبة . سأظل قريبة .

هكذا هامت بوجهها على الشاطئ تحادثه باستمرار دون تعب ، تحب الأشياء كأنها هى ، تعشق البحر ، والسحاب فى السماء والمطر الذى يهبط رقيقا ، كأنه هو ، وتمضى هكذا فرحة تتألق الحياة فى وجهها ، لأنه أحبها دائما ، ولأنه يحبها الآن ، شعرت بالرغبة فى الضحك والبكاء معا وفى عناق كل الأشياء ... كل الأشياء ..

هكذا كانت عندما عثرت بعد أيام من التجول على كوخ صغير بجوار الشاطئ ، محطما ، فأعادت بناءه ، أصلحت ثوبها وقررت أخيرا أن تبقى قريبة ، قالت فى نفسها : هنا ودائما ، فسمعت صوته يقول : هنا .. ودائما . ابتعدت عن البيت تماما ، وبدت لها الحياة على الشاطئ شيئا قريبا من روعة الحب ، فكانت تجرى على الشاطئ مهللة تقفز على الأمواج المتدافعة ، تغمر جسدها بالماء ، تتلاحم معه ، ثم تعاود العبث بالماء وتخرج من البحر مبتلة ، تمشى على طول الشاطئ ، أحيانا يأخذها المشى بعيدا ، فتصل إلى صخرة يضربها الموج ، تجلس وسط الماء وتريح رأسها على الصخرة وتنام .

وتتأمله بالليل حين يطفو وجهه على سطح البحر ، أو فى السماء وتكون مقفلة بالسحب فتصرخ كصوت رعد وتضحك ، ثم تجلس طوال الليل مقيمة ركبتيها ، تنظر باسمة . وحين تهب رياح شديدة ويرتفع الموج إلى أقصى مدى ، هادرا كجبال ، يكون الشاطئ خاليا ، ويتناثر رذاذ صوته بين رذاذ الأمواج ، تسمعه يقول : هالة .. ارقصى .. ارقصى ..

فتأخذ فى الرقص وتميل على إيقاع صوته ، يلين جسدها ويتناغم مع حركات الموج ، وشعرها يتطاير مع الرياح ، ساعتها تغنى ، غناء خافتا يشبه صوت الأعماق .

وحين يختفى ولا يعود يظهر ، تبكى ، وتظل فى الكوخ نائمة لأيام ، تأكل الأشياء التى يضعها الناس فى الكوخ ، ثم تعاود النوم .



وفى ليلة ، كانت السماء صافية ، والبحر راكد الموج ، حين دخل إليها رجل ، رأته واقفا أمام باب الكوخ ، ثم رأته يقترب ، لم تكن تسمع ، كانت تفكر فى الموج الذى لا يتحرك والغيوم التى لا تجئ ، والأمطار البعيدة .. حيث هو ..

مال الرجل عليها ، لم تنظر إليه ، كانت تنظر بجنب عينيها للرمال .. حبيباتها صغيرة .. جافة ..

وحالما لمسها ، صرخ منتفضا ، نهض متراجعا ، وما أن عبر الباب الكوخ حتى جرى بعيدا ، كانت راقدة ، تعسة ، تفكر . لم تعرف أبدا أن الرجل الذى فر الآن قد جُن ، وأنه ظل يهلوس لأيام عن المرأة التى لها ملمس الماء . والتى ما إن تقترب منها حتى تشرف على الغرق ، وأنه فى النهاية رقد فى بيته ، كارها رؤية الماء ومذاقه حتى مات .

لذا فقد بدأ الناس يبدون خوفا كلما رأوها ، يضعون بجوارها طعاما ثم يرحلون سريعا ولا يتعرضون خوفا كلما رأوها ، يضعون بجوارها طعاما ثم يرحلون سريعا ولا يتعرضون لها مطلقا . إلا أنهم اكتشفوا سريعا إنها طيبة ولا تضر أحداً ، وأنها أحيانا كثيرة تبكى لبكاء الناس ، وتبتهج حين تراهم فرحين . قال بعض الصيادين إن روحها فى البحر ، وإنها ستظل تبحث عنها إلى الأبد ، وكلما أرادوا أن يشيروا إليها وجدوا أنفسهم يطلقون عليها اسم سيدة البحر ، ولكن آخرين أحبوا أن يسموها سيدة الماء ، لأنهم كانوا يندهشون تماما فى كل مرة يرونها ، كانت كلما حلت فى مكان على الرمال أو فى الشوارع تترك أثرا مندى بالماء ، ما يلبث أن ينمو حوله العشب .

أحيانا تغيب فى أسفار بعيدة مشيا على الشاطئ ، أو تقفز فى البحر ، تغيب قليلا ثم تعود ، فيشعرون بافتقادها من دون سبب .

هكذا كانت قبل أن تختفى فجأة ، لم يعرف أحد أين ذهبت ، انتظروها طويلا ، ولم تظهر مرة أخرى ، مرت أعوام ، فاعتقد الناس والصيادون أنها قد هجرت الشاطئ . وكانوا حين يخرجون بقواربهم للصيد ، ينظرون إلى الأفق البعيد ويفكرون .

لكن أحدا لم يفسر أبدا هذا التعلق الغريب بها ، أحيانا كانوا ينكرون ذلك علانية ، بل ربما أكدوا لأنفسهم إنها محض مجنونة ، ولكن ما إن يروها جالسة على الشاطئ منكسة الرأس ، تنظر بآسى إلى الأمواج المتدافعة فى البحر ، حتى يغمرهم ذلك الشعور الغريب : كانوا جميعا يحبونها . تماما كما يحبون البحر ، أحيانا ينتهزون أى فرصة للاقتراب منها فى تجوالهم ، فيلقون تحية عابرة ، وحين ترد عليهم يشعرون ببهجة لا حد لها ..

وفى المقاهى المنتشرة على طول الشاطئ ، وحين لا يجد الصيادون ما يتحدثون عنه ، يتذكرونها ويتذكرون غيابها الطويل ، ويندهشون من تلك اللهفة التى ظهرت على وجوههم جميعا ، حين أنصتوا فى سكون لصياد رسى مركبه منذ أيام على الشاطئ ، حين أكد أنه شاهد جسدها يدفعه الموج قرب شاطئ كريت ، وأنه دهش حين رآها تقاوم الأمواج التى تدفعها إلى شاطئ الجزيرة .

هكذا تأخذهم أخبارها ، يتبادلون الحديث عنها ، ويجدون لذة غريبة حين يتخيلون أنها ربما وصلت إلى الجهة الأخرى من البحر ، إلى الشاطئ اليونانى مثلا ، وأنها ربما تعيش هناك ، فى كوخ على شاطئ ، قريبة من البحر ، تغنى بالليل ، وسط صيادين أجانب ستسحرهم قصتها بالتأكيد فيشفقون عليها .


* * *
*
يعرف الصيادون على شاطئ البحر الأبيض ، وفى أى مكان على شواطئه الممتدة ، أن مياهه أكثر إنسانية من أى مياه أخرى ، منذ الأزمان الغابرة إلى الآن ، وأنه طوال هذه الأزمنة أخذ من البشر وأعطى لهم ، وفى أعماقهم يدركون أن ذلك سبب أكثر معقولية لتشابه حياة البشر على شواطئه ، ولذلك التوحد الغريب فى متع الحياة ومباهجها : الصيد والغناء والحب ..

لذا عندما اختفت ، كانوا يعرفون أنها فى مكان ما هناك على شاطئ يشبه شواطئهم ، فبدت رؤوسهم تنسج حكايات ، كانوا يحبونها ولا يملون من ترديدها فى أسفارهم .



ولكنها عادت

عادت فجأة ، كما غابت فجأة ، فشعر الجميع بأن الشاطئ يكتمل بها ويسترد نفسه مرة أخرى . كانوا دائما ما يشعرون بأن الشاطئ يفتقد روحا غامضة طالما كانت بعيدة ، وككل مرة تعود فيها يبتهج الصيادون ويتأملونها بابتسام ، ويرمقها خفية أولئك المصطافون الذين يسمعون عنها بطريقة عابرة .


* * *
*
لم تكن تعرف ما مر من زمن ، كل ما كانت تدركه محاولاتها المتكررة للذهاب إليه ، كانت كلما حاولت ، يلفظها الموج ويدفعها بعيدا ، تفتح عينيها وتجد نفسها على الشاطئ فتبكى ، تحادثه ، تستعطفه ، وفى كل مرة يبدو غاضبا ، تقول إنها لن تفعلها مرة أخرى ، ولكنها
دائما تعاود المحاولة ، تلقى بنفسها فى الماء ، وفى كل مرة تفتح عينيها تجد جسدها ملقى على الشاطئ .

أحيانا تأتى سيارة تحمل بدوا مسلحين وتأخذها ، تأخذها بعيدا ، فتغيب أياما ، يتركونها فى الصحراء وحيدة ، يمر يوم ويومان ، فتجف وتذبل ، تلدغها الشمس والرمال كعقارب ، تهيم فى صهد الشمس ، وحين تشرف على الموت ، تبحث فى الصحراء ، تشم الرمال ، وتمشى ، جسدها يتمايل كطيف على وشك التبدد ، تنحى فجأة على بقعة رملية ، تأخذ فى حفرها بيديها ، فى هذه اللحظة يظهرون ، يجلسونها فى خيمة ويطعمونها ، يخدمونها كملكة ، ويحفرون البئر ، وحين ترى الماء ، تبتسم وتلقى بجسدها فيه فينظرون إليها بعيون حزينة ، ويلوون أعناقهم بعيدا . بالليل يجلسون أمام خيامهم التى تضربها رياح هادئة ، يغنى الشعراء فتبكى ويبكون . وأخيرا يعيدونها يتركونها على الشاطئ حيث كانت ، فيسترد الشاطئ حياة غابت عنه لأيام ، تعاود رؤية وجهه بالليل ، وفى السحب ، فتلمع فى عينيها الحياة .

كان غروبا جميلا ، مشت على الشاطئ شبه غائبة ، تتمتم بأحاديث لا يسمعها أحد ، ورأت بعيدا ، شابا وفتاه يجلسان على صخرة ، فتوقفت وتأملتهما ، كانا متباعدين ، وتهيأ لها أن بحراً عظيماً يفصل بينهما . نظرت إلى السماء الصافية والنجوم التى بدأت فى الظهور وبكت ، بكت فى مرارة ، سمعت صوته يقول : هالة .. أنا هنا .. أنا هنا .. فتوقفت عن البكاء ، أخذت تتلفت باحثة عن وجهه ، ولكن السحب بزغت فجأة فى السماء ، هبت ريح قارسة البرد وارتفع الموج مشت قليلا ثم التفتت إليهما ..

ورأتهما متلاصقين تحت ستره واحدة تغطيهما ، يرتجفان ويبتسمان ، رأت عينيهما تضحكان فرفعت ذراعيها وهللت ، وأخذت تجرى وترقص فوق أمواج الشاطئ .


* * *
*
......

... صوت الموج أتسمع ! صوت الريح ! أتسمع ! صوت قلبك الذى أسمعه يجئ لأنه قريب فى يدى التى تمسك به لن أتركه أبدا رغم أنك لا تريد الإمساك بقلبى كلما ذهب إليك فى كل مرة تتركه يعود وحيدا يعود ، تنام ... تنام هناك وأنا لا أنام . اخرج ساعة واحدة وشاهدنى ثم اركب القارب معى واذهب بى إلى البحر البعيد ، أفلت يدك واتركنى أقفز وحيدة وشاهد جسدى يغوص فى الأعماق وجرب ، إن عدت إلىّ لن أقول لك لا ... ولن أتركك كشىء خائن وجبان .. لن أتركك .....

- هالة .

صمتت . رفعت وجهها من على الرمال المبتلة ، بدت ممتلئة أكثر مما كانت من قبل ، ينسدل على كتفيها طرحة سوداء طويلة وقد ظهرت فى رأسها شعيرات فضية أقرب إلى لون
الماء ..

- ينبغى أن تعودى ..

نهضت وواجهته ، كان صيادا عجوزا ، ساقاه سمراوان ، عاريتان حتى الركبة ، وشعيرات بيضاء قليلة على ذقنه .

- إنها أمك ..

- سأبقى هنا ، أنا هنا قريبة ، سأبقى ...

نظرت إلى البحر ، مشت باتجاهه حتى لامست الأمواج أقدامها ، جلست بركبتيها فى الماء ، مال العجوز عليها ..

- أبوك مات يا هالة ... مات . أمك وحيدة ..

اعتدل العجوز مرة أخرى ، مشى قليلاً ثم عاد إليها . نظر إلى ماء البحر تدفعه
الأمواج ...

- هل يعيد الماء من ذهب ؟!

نظرت إلى البحر والسحاب فى السماء ..

- الماء . الماء هو الحب ..


* * *
*
.. فى كل مرة تحوم حول البيت تشعر أن قلبها ضعيف وصغير جدا ، فتنصرف مرة أخرى . وفى ليلة ظلت تحوم حوله تتأمله كشئ غريب ، وبعيد .. اقتربت قليلا ، كان البيت مظلما ، رأت الباب مفتوحا ، وقفت تفكر ، تراجعت أقدامها إلى الوراء وتأملته مرة أخرى ، أبوابه وشبابيكه وحوائطه ، رأت شرفتها ثم تقدمت ، دفعت الباب وتلفتت ، لم تتذكر أى شئ ، رأت حجرة مضيئة فدخلتها ، كانت الأم مستلقية فى الفراش كجثة ، تقدمت وجلست على الفراش عند قدميها وأخفضت رأسها .

- من ؟!

كان صوت الأم خافتا ، تحركت فى صعوبة ورفعت رأسها ..

- هالة ! .. أنت هالة .. لقد جئت .. لقد جاءت هالة ..

انخرطت فى بكاء ، ولكن هالة ظلت جالسة منحنية الرأس .

- نورا .. ذهبت يا هالة .. ذهبت .. منذ سنين طويلة .. كانت تشرد مثلك .. كنت أحس بذلك .. كنت أعرف ، نورا كانت تحب يا هالة .. كانت تحب .. أبحرت معه فى قارب .. ذهبت .. ذهبت ولم تعد .

صمتت وبكت بكاء حارا ، بكاء من افتقد كل شئ فجأة ، افتقده وترك ليتعذب . جففت دموعها ..

- اتعرفين يا هالة .. كان الخطأ من البداية .... منذ البداية يا هالة ..

تحركت هالة واقتربت منها ، أمسكت بيدها ثم استلقت بجوارها على الفراش ونامت على كتفها ، ظلا كذلك طويلا .. تحدثت الأم شاردة ، كانت تنظر إلى شئ غامض ولاح على وجهها ابتسام .

- كان ينبغى أن أفعل أنا أيضا ... منذ البدء .. كنت أحب يا هالة ، أنا أيضا كنت أحب ، كنت أحبه حبا لا يمكن تصوره .. كان يمكن أن أموت لو ابتعد ، ولكننى تركته يذهب .. أنا تركته يا هالة .. أنا قلت له اذهب .. استقل باخرة كبيرة .. كبيرة يا هالة .. ممتلئة بالبشر ، كانت من أضخم البواخر التى أتت إلى هنا ، كنت أراقبه من الشاطئ .. وتحركت الباخرة .. كانت عيناه تبحثان عنى .. كنت مختفية جبانة .. وذهب .. ذهب إلى بلاد بعيدة خلف البحر .. ذهب ولم أره بعد ذلك ..

داعبت وجه أمها ..

- .. كنت تحبين !

- .. وجاء أبوك ، ذلك المدفون فى التراب .. هناك .. بعيدا ..

صمتت قليلا .. ثم نظرت لهالة ..

- لماذا أشعر الآن .. أنه كان مدفونا هناك دائما .. طوال هذا العمر وهو مدفون فى التراب .. نعم كان مدفونا منذ البدء ..

بكت فجأة

- ولكنه هو .. ذهب يا هالة .. كنت أحبه .. الباخرة .. هل تستطيعين أن تعيديها .. أعيديها يا هالة ... أعيديها ...

أمسكت هالة يدها وقبلتها ، كانت الأم قد صمتت وأغلقت عينيها . نظرت إلى وجه أمها ، كان ساكنا ، قطرات دموعها متجمدة أسفل عينيها ، احتضنتها مرة أخرى ، وهمست ...

- ستذهبين إليه .. ستذهبين ..

وعرفت هالة إنها ماتت ، عرفت ذلك تماما وفى لحظته ، حين خرجت روحها ، توقف سير الماء فى جسدها .

حملتها إلى الشاطئ ، وتركتها حيث يضرب الموج جسدها رويدا رويدا ، وجلست بجوارها منهكة . بعد قليل نهضت واختفت ، وعادت تجر قاربا صغيرا ، وضعت أمها فى القارب ثم دفعته إلى الماء وجدفت ...

جدفت هالة بعرض البحر ، جدفت متعبة تنظر إلى أمها بوجه جامد ، وفى المكان ذاته ، الذى حدث فيه كل شئ منذ سنين طويلة ، توقفت عن التجديف ، مالت على أمها ...

- ستقابلينه يا أمى .. أكيد ستقابلينه .. أنت تعرفينه .. اجعليه يعطف علىّ ، قولى له : كفى .. كفى ، قولى أيضا – لا تنسى يا أمى – إننى أريد أن أعود إليه .. ليقبلنى الآن .. طوال هذه السنين ولا يريدنى أن أعود إليه ، قولى إنى أتعذب ، قولى له : كفى .. كفى ..

بكت هالة ، ولكنها غالبت البكاء ..

وفجأة رفعت أمها وألقتها فى الماء ، ورأتها تغوص فى الأعماق ..

- ... ستكونين سعيدة ..

وغنت هالة ، غنت لنورا ، ولأمها ، وله ، غنت طويلا ..

ثم بكت وجلست فى سكون ، وحيدة فى القارب الذى يهتز بها ، ولكنها لم تنتظر ، نهضت وقفزت بجسدها فى الماء ، فارتفع الموج صاخبا قويا ، برقت السماء بخطوط منكسرة وحادة وهطل ماء غزير .

ولكن الموج دفعها إلى الشاطئ مرة أخرى ، فجلست تبكى ، ثم نهضت وأخذت تجرى على الشاطئ ، وتتقافز على الأمواج ، مهللة .. صارخة .. باكية ..

وحين هدها التعب نامت على الرمال المبتلة .


* * *
*
لسنين طويلة سيتذكر سكان هذه المنطقة من البحر سيدة الماء ، تلك المرأة التى عاشت زمنا طويلا تناجى الماء وتحادثه ، وترقص على الشاطئ بالليل ، والتى وحالما تخطو فى مكان ينبت فيه العشب . وعندما كبرت وأصبحت عجوزا منحنية تستند على عصاه ، بدأت الطحالب البحرية تنمو على جسدها اللين كالماء ... حتى ماتت فى كوخها .. فقذفها الناس فى الماء حسبما أرادت ، فاختفت ولم تظهر مرة أخرى .

وسينقل الأحبة حكاياتها ..

حكاية البنت الجميلة ، التى ترددت وجبنت لحظة أن قفز حبيبها فى الماء ، فعاشت أسيرته على شاطئ البحر ، قريبة منه ليست قريبة تماما ، وبعيدة عنه ليست بعيدة تماما ، يفصلهما حاجز كانت تقول عنه دائما إنه .. حياتها التعسة .


* من مجموعة : حيرة الكائن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى