جمال الدين علي - العم قوستاف

التقيت بها عند المرفأ القديم. كنت ذاهبا لتفقد قاربي بعد العاصفة التي ضربت بقوة في الليلة الفائتة. فقد ظل البحر طوال الليل يتقيأ غضبه بالشط. حين قابلت العجوز شارلي جالسا مع خمسة أو ستة بحارة خارج الحانة أدركت سوء يومي. هتف العجوز وكحة كحة جافة نفثها من صدره الملي بالدخان كافراغك كيس تبن أمام بغل سيئ الطباع.
- هاااي قوستا الصغير. الى أين في هذا الجو الكئيب؟.
لوحت بكفي لطرد شبح النحس عن ذهني. و بصقت الطعم اللاذع من تذوق كلماته المختلطة بالكحة ورائحة الدخان وتمتمت.
- الى البحر. لأقول له صباح الخير يا بحر. لم تقيأت غضبك على مركبي الصغير؟ .
الى أين يمكن أن يذهب واحد مثلي؟.
لحظتها أيقنت أن البحر ابتلع مركبي الصغير بجوفه في مده واحدة لا محالة. كانت الحانة مكتظة بأنفاس الصيادين الثملين. كانوا يتنفسون الهواء الثمل الخارج من صدورهم في وقت واحد. ويخرجونه في شكل دخان ضبابي يترنح قليلا في أجواء الحانة. ثم ما يلبث أن يرتمي متعبا على الزجاج الخارجي وتسيل دموعه بلا توقف. وكان يبدو عليهم الارهاق والتعب وقد قضوا ليلتهم يلعبون الورق و يحتسون الجعة. وينظرون بنصف وعي استفاقة بحر ثمل يستفرغ غضبه بالشط. ابتلعت ريقي مع سوء ظني بالعجوز شارلي حينما أبصرتها منتصبة بالرصيف كمسلة برج كتدرائية المبجل القديس بطرس وبولس. استقبلتنا ذراع خليج فيلندا الممدودة من بحر البلطيق بالتحية للقديس بطرس بكرم كبير. فأبحرنا معها بلا شراع ولا مجداف. دفعت المركب اللعين في الماء ودقات قلبي كانت المحرك القوي. الكتدرائية الواقفة بمهابه كإله. و أنفاسي المتسارعة نفختا الروح في القارب فشق عباب البحر كدولفيت صغير.
جدي لأمي دوما كان يقول (وأنت بداخل البحر يا قوستا. لا تقاوم فروعه الممدة. ولا تشد جذوره الممتدة. دعه يتحكم في الأمور . البحر بساط رقيق من المياه تحركه الريح بحرفيه عالية. وهو يعرف متى وأين ينزل ركابه؟). تهادى بنا القارب على بساط المياه الساحر الشفاف ونحن على ظهره كراقصين على الثلج. تركنا أجسادنا المنتشية بروعة اللحن تفعل ما تشأ. يحركنا ايقاع القارب المنتشي هو أيضا يمين فتسقط فيرونكا على صدري. ينحني يسار فاتشبث بخصرها الضيق. ثم يدور فجأة مع الدوامة فتدور رأسينا ونرتمي فوق بعضنا كجروين صغيرين يتشاجران. ولا يهم من يسقط على الآخر. ولا نهتم في أي موضع يغرس أحدنا أنيابه ومخالبه. قضينا ساعات ونحن نتقلب ونتعاضض ويحاول كل واحد منا أن ينشب مخالبه الصغيرة و أنيابه القصيرة بجسد الآخر بلا دماء ولا ضغينة. بالمجمل كانت تلك من أمتع الحركات التي قام بها موج البحر. والقارب معا في تناغم وانسجام كاملين مع انغام البحر الشجية. وسيمفونيته الرائعة. و قد استغليت تلك اللحظات بخبث مراهق نزق. قابلته فيرونكا بتلذذ انثوي فاجر. قضينا لحظات ممتعة بجزيرة البطريق. وحين اكتمل البدر تمدد البحر مرة أخرى. وانكمشت فيرونكا على نفسها وأصبحت شرسة كقطة تحمى صغارها. لا أدرى علاقة اكتمال القمر بتمدد البحر ونمو مخالب قطة لفيرونكا. كل ما أذكره انني فقط أردت تقبيلها. صفعتني على خدي ودفعتني حتى كد اسقط. وقالت.
-كن رجلا. قوستا
وهرولت مبتعدة تجاه البحر. دفعت القارب في الماء ورحلت وتركتني أرقب رقصة النصر التي أدتها باتقان تحسد عليه على ظهر قاربي بتواطوء تام مع الموج. حيث عزف لهما البحر سيمفونية خالدة.
النساء في زماننا كن يبحثن عن رجال. ليس كما هو حاصل الآن. في زمانكم هذا الفتيات يبحثن عن فتيان. ولا وجود لكلمة الرجال في قاموسهن البتة.
أذكر حين عدت للشط منهكا آخر النهار. استقبلني الصيادون بفرح غامر. حملوني على أكتافهم وهم يهتفون.. قوستاف صار رجلا.. قوستا.. قوستا.
بيدي مسحت غبار الصفعة عن خدي وصرت رجلا بمفهوم البحارة و الصيادين. جاثت سنابك خيلي حانات المدينة بطولها وعرضها. كنت أريد أن أتعرف على كائن هلامي نبت فجأة بداخلي. كان يقرصني بمنتصف الليل هنا بقلبي ويوقظتي من النوم. فأصحوا مفزوعا مثل فارس يحرس حصن من أعداء متوهمون. كنت أسرج فرسي لأغزو أجساد العاهرات. أدك حصونهن الواهية. و أرفع رأية رجولتي المتوهمة. وأعود مع بذوق الفجر خائر القوى أنام وأحلم بالصفعة على خدى فأصحو من النوم مذعورا. فامتشق سيفي الذي لا يفارق جسدي مرة أخرى وأغرسه بالوحل.
في ذلك الصباح الشتوي كنت ذاهبا الى مدينة ستالينغراد. لا أحب أن أطلق عليها اسم فولجو جراد وان كان نهر الفولجا الرائع يستحق أن يخلد اسمه في تاريخ المدينة الباسلة. ولكن اسم ستالينغراد ارتبط بذهني بتلك المعركة الحاسمة التي غيرت وجه الأرض. وكما قال الشاعر التشيلي. ( ان وسام البطولة هنا يزين صدر الأرض). فلا يصح أن نخلع هذا الوسام لنلبسه لحسناء جديدة مهما كانت فاتنة. لن يغفر لنا التاريخ. ولا الأحفاد ان قمنا بمثل هذا العمل الجبان. ولكن ماذا يفعل عجوز مثلي أمام دعاة اللبرالية الأوربية الفاشلون. المهم كنت في طريقي الى المدينة الباسلة لأستطلع حصون النساء هناك. بعدما مللت من تمزيق حصون فتيات الحانات الواهية. وبينما أنا أقف على الرصيف متأهبا لصعود القطار تكعبلت قدمي بمعطفي. وكدت أسقط أسفل عجلات القطار. اليد الممدودة بالرحمة انتشلتني. والابتسامة البيضاء ككرات الثلج فتحت هوة كبيرة بقلبي. المسافة من رصيف القطار وحتى مقعدي بداخل القطار كانت كافية لأكون رجلا بمفهوم فيرونكا البائنة خطواته على قلبي بعد أن محت رياح الغربة آثار كفها من على سطح خدي. دخلت لينينغراد من أوسع أبوابها بعدما أهديتها معطفي المصنوع من فرو الدب القطبي والذي كسبته في القمار من أحد البحارة الطليان. كان رجلا بدينا متأنقا وثرثارا. ولكن حينما ثمل لم يستطع التفريق بين الآص و الجوكر فكسبت الرهان في لعبة توزيع الورق وخسر هو معطفه الثمين.
أسأل نفسي الآن. هل كان ينقص رجال هتلر الرجولة الكافية ليدخلوا الى مدينة لينينغراد؟
أم أن بسالة نساء لينينغراد وبحثهن عن الامان بصدور رجالهن حمى شرف الرجال الروس من التمرغ بالوحل.
ابتسمت بازدراء وقلت بسخرية. وأنا أنظر بطرف عيني الى صدرها الناهد.
- أملك رجولة جيش بأكمله صوفيا وهذا كان اسمها.
قذائف البارجة أفرو باتجاه قصر الشتاء. اخترقت قلبي حين علمت أن صوفيا من فتيات الليل. وهي آتية للمدينة بحثا عن اللهو والمتعة. وأن آخر شيء تفكر به هو البحث عن رجل. عزت صوفيا ذلك لفقدها الثقة في كل الرجال.
- ولكنك حتما تبحثين عن الأمان عزيزتي صوفيا. كما أبحث أنا عنه في حضن امرأة هي كل النساء.
همست بأذنها بعد أن أطلق القطار صافرته ومن ثم ترجلت. نفث القطار دخانه بوجهي وتهادى مبتعدا بالخطين المتوازيين الى الأبد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى