مولود بن زادي - الأمير المغربي محمد الجزائري الذي حاول خطف مي زيادة بمساعدة خادمها!



لقد استطاعت السندبادة البحرية مي زيادة، بحسنها وعلمها وأدبها وذكائها، أن تُذكيَ نارَ الإعجاب في نخبة من كبار الأدباء والمفكرين والسياسيين من مشارق الدنيا ومغاربها من أمثال محمود عباس العقاد وأحمد لطفي السيد وطه حسين وجبران خليل جبران. سعى كثير من هؤلاء للتقرب منها، وكسب ودها، والفوز بفؤادها. وكل ذلك لا يخرج عن المألوف والمعقول. لكن أن يبلغ الإعجاب بأحدهم حد السعي لاختطافها والزواج منها قوةً، فهذا ما يصعب تصديقه! إنه أحد الأحداث المأساوية في حياة مي زيادة المليئة بالمآسي. ورغم أهميته، يبقى مجهولا إلى حد بعيد!

الذين أحبوا مي وأوبريت جميلة

ما نلمسه ونحن نسعى لفهم ملابسات قضية الاختطاف هو ندرة المراجع التي تناولت هذه المؤامرة العظيمة، فضلاً عن ندرة المعلومات عن الأمير وآثاره الأدبية. فجل الباحثين الذين تناولوا حياة مي زيادة أعاروا "مؤامرة" مستشفى العصفورية - وهي إلى يومنا هذا محل جدل في غياب أدلة قاطعة – أهمية أكثر من مظاهر وأحداث أخرى في حياتها كمؤامرة خطفها من عقر دارها، وهذه جريمة خطيرة تستند إلى أدلة ولا تقبل جدلاً! فلا نكاد نجد إلا كتابا واحدا تناول أحداث المؤامرة وسعى لتصويرها بتفصيل، كتاب (الذين أحبوا مي وأوبريت جميلة) لكامل الشناوي.

الأمير المغربي يحل في مصر

يروي لنا هذا الكتاب أنّ "في عام 1920، زار مصر أمير مغربي اسمه الأمير محمد الجزائري، ونزل في فندق دار السلام بالحي الحسيني، واتخذ له مجلسا في أحد مقاهي خان الخليلي، والتف حوله كثيرون من شباب المغرب الذين يطلبون العلم في الأزهر الشريف. وكان الأمير يبسط سلطانه عليهم، وقد جعل منهم حاشية تحف به كلما مشى أو جلس."

مطران يقدم الأمير إلى مي

ومن ثم، انتقل مجلس الأمير إلى حي الأزبكية حيث تعرف إلى عدد من الأدباء كحافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي وعبد الرحمن البرقوقي ومحمد السباعي وخليل مطران الذي صاحبه إلى صالون مي زيادة في جلسة من جلسات يوم الثلاثاء. وإذا بها تخلب لبّه من أول نظرة.

الخادم يكشف المؤامرة

انبهر بحديثها وبهائها وذكائها، فراح يكتب عنها الشعر ويجتهد للقائها في صالونها أيام الثلاثاء وغير أيام الثلاثاء. وراح يمطرها مدحاً، ويغرقها بالهدايا. وفي كل الأحوال بدت تصرفاته طبيعية، لا تثير الشك ولا تبعث على القلق ولا توحي بأن الأمير يعد العدة لاختطاف مي. ولولا الخادم لوقعت الكارثة. يروي لنا الكتاب كيف أنّ خليل مطران وأنطوان الجميل وإسماعيل صبري ونجيب هواويني وإحدى سيدات أسرة شكور كانوا يتناولون الشاي في منزل مي زيادة عندما بدا خادمها مضطرباً. مي زيادة في بداية الأمر حسبته مريضاً فسألته عن حاله، فبكى وانصرف من الصالون إلى المطبخ وراح ينتحب.

الخادم اعترف بمشاركته في المؤامرة

مي زيادة ومن معها تبعوه إلى المطبخ لمحاولة معرفة ما حصل. حينئذ، قال لهم الخادم: "أنا لا استحق الشفقة، فقد خنت العيش والملح." وشرح والدموع تنهال على خديه أنّ الأمير المغربي منحه عشرة جنيهات. فربّت خليل مطران على كتفه وقال مطمئناً: "وماذا جرى؟ هذه هدية أمير! وهدايا الأمراء لا ترد!"

فردّ الخادم معترفا بذنبه منتحباً: "إنّ الأمير لم يعطني هدية! الأمير أعطاني رشوة! الأمير طلب مني أن أساعده على خطف الست الليلة! وأنا قبلت!"

وأخرج الخادم الجنيهات العشرة، ورمى بها على الأرض وقال: "سامحيني يا ستي!" والتمس منها الأذن لترك خدمتها.

تفاصيل المؤامرة

اتفق الأمير مع أعوانه على تطويق المنزل على الساعة العاشرة. وطلب من الخادم أن يكمن في الشقة دون علمها حتى إذا فتح له الباب اقتحم غرفة النوم وربط الست بالحبال وكمم فمها، وأخذها على حصانه بحراسة أعوانه ليعقد عليها قرانه بالقوة.

على الساعة العاشرة مساء، طوق عشرة فتيان مغاربة بيتها وكانوا مسلحين بخناجر وسيوف. طرق الأمير الباب شاهرا سيفه يتبعه خمسة من هؤلاء الفتيان. فتح له الخادم فدخل ومن معه البيت وساروا على أطراف أصابعهم لخطفها. ففاجأهم رجال الشرطة مشهرين في وجوههم المسدسات.

وهكذا ألقت الشرطة القبض على الأمير ورجاله. كما ألقى رجال شرطة خارج الدار القبض على الفتيان الآخرين الذين كانوا يحاصرون البيت.

تدخل السلطات الفرنسية

المسألة لم تنته عند هذا الحد. فقد تدخلت السلطات الفرنسية بعد ذلك، فأفرج عن الأمير ومن معه. الأمير من جهته اعتذرعما حصل وتعهد بعدم القيام بمثل ذلك مرة أخرى. لكنه، دافع عن موقفه قائلاً إنه لم يكن يريد بمي زيادة سوءاً وإنما كان يرغب فقط في الزواج منها!

مي زيادة، الخائفة والمصدومة، لم ترجع إلى بيتها إلاَّ بعد يومين من ذلك. بعد هذه الحادثة، ما يُعرف عن الأمير أنه قطع صلته بمي زيادة، ثم رحل عن مصر نهائيا.

مي زيادة المرأة المسامحة الكريمة

مي زيادة فاجأتنا في أكثر من مرة بحرصها على الإصغاء واجتهادها للتفهم. وخير مثال على ذلك علاقاتها بأحمد لطفي السيد. فمع أنه خذلها مثل كثير من الأدباء والمفكرين والسياسيين الذين تجمهروا حولها ساعة الفرح وتخلوا عنها في ساعة الترح عندما زج بها في مستشفى العصفورية، إلا أنها غفرت له ذنبه وظلّت في اتصال معه في الفترة المتبقية من حياتها.

وهنا أيضا، مع أنّ خادمها قبِلَ "رشوة" من الأمير ووافق على مشاركته في خطفها، فإنّها تفهمت موقفه بعدما أصغت إلى ما قاله، وقدرت ظروفه، "فتمسكت به، وأعطته الجنيهات العشرة، وقالت له: ستظل معي إلى أن أموت، واعتبر هذه الجنيهات مكافأة مني لك!"

لكن، قد يقول قائل إنها، مع ذلك، لم تغفر لأدباء ومفكرين آخرين سعوا للاتصال بها بعد خروجها من المستشفى. من بين هؤلاء طه حسين، لما رفضت لقاءه وطلب معرفة سبب ذلك، ردت عليه قائلة: "لقد قررت ألا أقابل أحدا من الناس إلا رجال الدين.. إذا أردت أن تراني فكن قسيسا!".

الجواب على ذلك هو أنّ مي زيادة كانت تصغي إلى الناس من حولها بذكاء وتتعامل معهم حسب نياتهم وأعمالهم. وهكذا غفرت للطفي السيد لأنه باح لها بذنبه تجاهها وطلب عفوها وكان صادقا معها. الخادم هو أيضا باح لها بذنبه وكان صادقا معها. وهو ما لم يفعله طه حسين وآخرون، ما يفسر تعاملها المختلف معهم.


من صفاته ركاكة الأسلوب الأدبي

يذكر كامل الشناوي في كتابه أنه عندما رأى الأمير مي زيادة وأعجب بها أنشد بين يديها قصيدة وصف فيها جمالها وذكاءها. "وقد احتملوها على الرغم من ركاكتها وتفاهتها."

وهكذا في الوقت الذي سعى فيه كثير من الأدباء والمفكرين والسياسيين للتقرب من مي زيادة بوسائل معقولة مثل الخطابات الرقيقة والأشعار الجميلة والكلمات الطيبة والمعاملات الحسنة، ها هو الأمير المغربي – الذي كان أقل من هؤلاء حظا في الأدب والثقافة والحكمة – يسعى لاختصار الطريق والتفوق على منافسيه الذين سبقوه إليها، بخطفها من بيتها في جنح الظلام وعقد القران عليها دون موافقتها! ورغم خطورة هذه الجريمة، تبقى حدثا مجهولاً لدى كثير من الجماهير وحتى المثقفين. وتبقى المراجع التي تناولت هذه القضية وملابساتها وسيرة الأمير قليلة نادرة، لا تعادلحجم هذه الجريمة. ورغم مقامه وأسفاره وأشعاره، يبقى الأمير المغربي نفسه شخصية مبهمة لانكاد نجد عنه شيئا يذكر في محركات البحث في غياب البحوث والدراسات والجهود التي مازالت تركز على علاقة مي زيادة بجبران خليل جبران فضلا عن معاناتها في مستشفى العصفورية أكثر من اللازم، مهملة جوانب وأحداث أخرىفي حياتها لا تقل أهمية وخطورة مثل محاولة خطفها وعقد القران عليها بالسيف، وهي جريمة خطيرة يعاقب عليها القانون. ولو نجحت المحاولة، لتحطمت حياة سيدة الأدب في الشرق، مي زيادة، للأبد.


مولود بن زادي – كاتب بريطانيا
  • Like
التفاعلات: سمية بوغاشيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى