محمد حيدار - الفصل السادس والأخير من رواية " دموع النغم

6- رائحــــة الـــنــطــق:

أطلق سراح الشيخ بوخلوة وخصّه الدوار باستقبال مميز، وأعاد مجيئه إلى أذهان الكثيرين هيبة الطابور وإباءه، إلا أن واحدا في دهاء الرجل ما يلبث أن يتلمس بقوة ذلك الشحوب الذي غزا شخصيته بفعل الغياب المتطاول، لقد أسلم الطابور صغائره وكبائره إلى الشيخ معلى، ويبدو انه يحسن تصريف الأمور بشكل غبطه عليه الكوراط السابق.

غير أن ما آل إليه أمر حليمة وما طرأ على حركة قيادة العرش من تضييق أعطيا الشيخ بوخلوة حقيقة جديدة، وهي أنك لكي تسود عليك أن تسلس القياد، أن تعتزل الجموح الفطري، أكدها كحقيقة خالدة، وبين يديه بكت حليمة فواساها بقوله:

" إن الشيخ المكي بخير وهو يقرئ الجميع السلام"

هكذا قال رغم أنه لا يعرف عن الشيخ المكي أكثر مما يعرفون،

وحين انصرفت حليمة منتعشة بهذا الخبر، بادرته العجوز زهرة:

" منذ أن افتقدك الطابور افترست حريمَه الكلابُ"

وغمغم الشيخ بوخلوة:

" إنه أمر الله"

وعلى عجل غادر الشيخ عطاء الله خيمة بوخلوة في حديث خافت يهيم مبارك بالإنصات اليه في أدب، وسائل الشاي المشيّح يرشح من إبريق حديدي سماوي اللون، ليكوّن دقيق زبد أخذ يتكوّم بعنقي كوبين زجاجيين، أقسم الشيخ عطاء الله إنهما من بقايا مشتريات قوافل الجنوب، فتنهد مبارك وهو يضع ظاهر الكأس على خده وكأنه يدفئ جرحا، وقال عطاء الله:

" أبلغني الشيخ بوخلوة أن بوغريبة معتقل!"

" معتقل؟!!! وهل التقيا؟"

" سمع انه التحق بصفوف جيش التحرير وأسر أثناء اشتباك بـــ (تلال النعام)"

" ألم يقتل على مسمع من الرومي ويعقوب؟!"

" تيقن انه لم يرتكب ما يدفع إلى قتله"

" لقد كنتُ على يقين من ذلك دائما"

وأكد الشيخ عطاء الله مبتسما:

" إنه لغز احتار فيه الطرفان الثكنة والناحية معا"

وبعد المغيب أقبل الشيخ معلى عائدا من سوق المدينة، وقد ابتاع قطيعا من الكباش بكامله، أخذ بعضها يثغو خلف ألواح الشاحنة، ويعقوب يحاول تهدئتها في نرفزة معهودة فيه.

هكذا تواترت حياة الشيخ معلى، ما أن تنقضي أيام حتى يصطحب أحد رعاة الطابور إلى سوق المدينة، ليعود بعدد من رؤوس الأغنام، وقليلون هم أولئك الذين يدركون مصادر ثرائه المتنامي، وفي هذه المرة آب بقطيع بكامله.

كان يعقوب لا يفكر إلا في كلمة سمع اليهودي التاجر يخاطب بها الشيخ معلى أثناء مرورهما بمتجره، قال له في تأكيد:

" حين تصير غنيا فلن يهمّك أمرُ من غلب"

الرومي، لكم توقّع أن يقع عليه اختيار قائد الطابور ذات مرة، ليزور المدينة اللغز، فيستطلع عن كثب مغريات أفلح بوغريبة في تأجيج مفعولها بنفسه، ولكنه توقع بعيد التحقيق لحكمة يجهلها.

إن المشاهد التي رسمها بوغريبة في ذهنه تحتاج إلى معاينة على الطبيعة، إنه من كل أعماقه يود لو يعايش وقائعها، أن يلمسها

أم أن حظه من الحياة هو الخيال فقط؟!

وسأل يعقوب حين خلا به في الخندق:

" هيه لعلك عدت بأخبار كالتي عودنا عليها بوغريبة ؟!"

كلاهما تمدد بإحدى زوايا الخندق:

" غامرت بتفقد جناحها لأسألها عن بوغريبة، الحظ تعس"

" من؟ الرابلة؟"

" أجل"

وقهقه الرومي وهو يصلح حزمة من سعف الحلفاء كانت قد شذت عن المفروش:

" كلكم لا يزور المدينة إلا طمعا في رؤيتها، إنكم رعاة بحق"

وتنهد يعقوب دون أن يضحك كما توقع صاحبه:

" ومن نحن غير ذلك؟"

وقبل أن يستبدل بالكلام آخر قال:

" سمعت أن بنت النمر تنوي إقامة وليمة تبركا بشيخها الجيلاني"

وأطنب الرومي في سكوته.

وفعلا طوال الجدل النسائي الصاخب، كانت بنت النمر تفكر في الوليمة متى ستقام؟ ومن سيحضرها؟ وهل يمكن أن تقتصر على النساء وحدهن أم؟ وكلما هدأ الجدل خشيت حليمة أن يتحول الحديث إلى قضية طلاقها، ولاسيما ما ستتفوه به رقية من كلمات نابية تترك أثارها بينة على صفحات الفؤاد الرهيف.

وقررت حليمة أنها ستتصدى لكل ما قد تتلفظ به رقية المتعجرفة لسوف تكيل لها الصاع ثلاثة وليحدث ما يحدث ، اكتفت في أول الأمر بمناغاة طفلها وهو يعبث بقطعة خبز مفؤود.

ما يهم حليمة هو فقط أن ينظر الدوار إلى فاجعتها كحادث مضى، فما دامت مُطفلا نتيجة زواج معلوم كامل الأركان، ما الداعي إلى نبش مكامن الألم؟ لماذا لا نرصد الظواهر مجردة عن أصولها أحيانا حتى نمنح الأخرين إحساسا بالدفء ولو مؤقتا؟ لماذا؟

وقالت حليمة مخاطبة بنت النمر وكأنها تستفز رقية:

" لسوف أذبح بدوري لبودربالة نعجة لأنني أنهيت إدماني على التفكير القاتل، إنني حرّة، ومن يدري؟"، ولم تعلق رقية رغم أن دافعا ما يدعو إلى ذلك، بل قالت وكأنها تتحدث بلغة أخرى:

" ربنا أكبر، والماضي يمضي يا حليمة"

واستحسن الجميع كلمات رقية غير المنتظرة، وهمست حليمة في تصاغر وقد تبللت عيناها الواسعتان، وهي تديم النظر إلى طفلها الممدد:

" الماضي يمضي يا خالة، إنني أحب كلماتك حين تزايلها الغلظة تجاهي"

ولأول مرة أبكاها شأنُ حليمة، وسكتت أم حليمة فأطالت السكوت، وكأنها تخشى تكدير مطالع الصفو، ومسحت رقية دمعها وقالت:

" لن أتناول قضية ابنتي بغلظة ما حييت، لن تلتمسي فيّ إلا ألين الكلام، فأنت لينة ويجب أن نعاملك بلين"

صحيح؟! ماذا بقي من حليمة ليقاوم؟ لقد خمدت جبهتها، فخبر اليوم كان إعلانا نهائيا عن سقوط أخر تحصيناتها، إن من يحارب حليمة إنما يحارب نفسه من باب التسلية، فلقد سقطت (كأخر) توهّمه الآخرون، انتهت كطرف، وهي في الواقع لم تنصب من نفسها (آخرَ) لأي (آخر) ولكن؟ هل ان كل ما ننشده في عدونا هو أن نوصله إلى حد يفتكّ منا فيه شفقتنا لننعم بتفاعل إحساسين موغلين في التضاد؟ النقمة، الشفقة؟ وكأبلغ تعزية احتفظت حليمة بكلمات الخالة رقية، وهي ذي الحياة لا تعطينا إلا حين تفقدنا كل ما نمتلك؛ تاجر ماهر، جدول ميزانية هي الحياة.

واكتفت حليمة بما تحصلت عليه من صفاء الخالات، واتجهت صوب خيمتها يتبعها الناصر الصغير، وتنهدت الخالة زهرة صادقة وعيناها تلفان قامة حليمة حين انصرفت:

" إيه، فرس نجيبة"

وتفطنت بنت النمر إلى انصراف حليمة فنادتها:

" حليمة، أتذهبين وقد اعتزمنا (توقيت) ضريح سيدي عبد القادر؟"

" ولكنني متعبة يا خالة"

" خالـــــــة!"

وقهقه الجمع.

" تصورن أنا بمثابة خالتها؟!

وتوقفت حليمة تنتظر، فقالت بنت النمر:

" لن نبرح بدونك، تعالي يا جميلتي"

وابتسمت في عطف:

" انتظريني إذن"

وصاح الشيخ عطا الله من خارج الخيمة:

" الواشمة، هل من لبن؟"

وانفجرت بنت النمر مداعبة:

" تتجاهل صهاريج اللبن بخيمتك ثم تطلب إلى الواشمة ذات الخمس عناز إطفاء عطشك!"

" وما دخلك أيتها البخيلة؟"

" بخيلة؟!لسوف ترى بعد حين دمها يُهرق تبرّكا ببودربالة"

" اللهم اطعمنا حلالا"

قالها وهو يتناول الإناء السعفاوي من يد الواشمة التي أرغمتها كلماته على الضحك.

" مساء الخير عمي عطاء الله"

نبرت حليمة بالقرب منه في طريق عودتها إلى خيمة بنت النمر.

"حليمة، انتظري"

وانتظرته إلى أن فرغ من شرب اللبن، ماذا يريد عمي عطاء الله من حليمة؟ تساءلت.

" عندي لك مبلغ من المال "

" إلي؟! "

وقال وهو يتأكد من انصراف الواشمة:

" أجل، إليك كتعويض عن الخسارة"

" خسارة؟!"

" ذري التفاصيل إلى ما بعد، فقط عليك بالكتمان"

واصلت خطوها وقد أراحها الخبر، لم تفكر إطلاقا في مقدار المبلغ المرسل إليها، ما يشغل بالها أن هناك جهة تشاركها التألم، تعترف بأنها خسرت فعلا، هذه الجهة تحس، إذن ذات الإحساس، وتمادى عدّاد ظنها في الإشارة فتجاوز العام إلى الخاص.

" من؟ جمال يواسيني بالمال! وقد تمنيتُ كلمة منه؟"

أكدت لنفسها أن الشعور أكبر من جمال، أكبر من مجرد معرفة أو علاقة فردية أو انتماء طابوري، إنه تعويض من الجبل، بهذا التعبير تبقى الهدية مغرية، حقا فالشيخ عطاء الله لا يتحدث إلا باسم الجبل كالسيناتور تماما.

كاد شعورها يحملها على جناحيه إلى ما وراء خيمة بنت النمر، من الذي صادفته اليوم فور يقظتها من النوم؟ من؟ الناصر الصغير؟ والدتها؟ من؟ هل يفرحها أمران في يوم واحد؟! رضا رقية وتعزية (أصحاب الجبل) ؟!

"حليمة، هيه، من يرافقني إلى الضريح؟"

قالت بنت النمر وواصلت:

" حليمة، زينب، الواشمة، الهلالية وأنا"

وعلقت العجوز زهرة ضاحكة:

" ترفضين اصطحاب المسنات إذن؟"

" حتى نسير على عجل فالوقت يلاحقنا يا خالة"

" والعسكر؟! ألم تقاطع نساء الدوار كل الساحات؟"

وقهقهت بنت النمر:

" إن أرادوا خمسا، فنحن خمس فاتنات"

وأكملت زينب:

" ومن طابور واحد"

وأحست الواشمة بنظرات بنت النمر وكأنها تجاملها، فهي أخر من يوصف بالجمال، وأسرعت بإجراء ترتيب منطقي فوجدت أن حليمة هي الأجمل، تليها بنت النمر، فزينب فالهلالية فالواشمة.

ومراد منهمك في سلخ شاة الوليمة قالت زينب:

" مراد؟ هل تفكر في كلام الشيخ عجينة؟"

" أبدا فالرجل مخبول كما تعلمين"

" لكنه عرّاف؟!"

وكاد يصرخ:

" لقد تنبأ بانهيار القلعة وهي ذي تزداد صلابة"

" قد يحدث"

" ألم يقل الضابط للأعيان إن المنجمين الفرنسيين حددوا قرنا واحدا لمكوث الفرنسيين ببلادنا وها قد تجاوزوه؟!"

"كان يفند مزاعم المنجمين حين علم بأمر العرّاف عجينة "

أولمت بنت النمر فأحدثت بذلك حركة غير معهودة في الطابور، وكررت الأيام لعبتها في دمل الجراحات النفسية، وإطفاء الأصداء التي خلّفها طلاق حليمة، فتراخت أمارات الامتعاض والإشفاق شأنها شأن أمارات التشفي والاستفزاز.

ورغم أن الطلاق كان في نظر الجميع، هاوية لا تفضي إلا إلى هاوية أظلم، اعتبره الرومي خلاصا متوقعا، فالظروف كلها صارت في نظر الرومي عابرة متغيرة تفقد مظاهر الثبات تحت تأثير اهتزاز يتمنع عن الرصد، ولعله الهاجس الذي جعله يعدل عن معاداة القصبة حين تزوجت حليمة، إذ سرعان ما ارتمى على بساط النغم.

الرومي لا يعتزل القصبة إلا مؤقتا تحت هذا الظرف أو ذاك، وإيقافها لا يعني إلغاءها، فمادامت الحياة ترتبط بسخريتها، فلماذا يضحي هو بلعبته المفضلة؟، أيقن يعقوب أن خبر الطلاق قد أسعد الرومي فجأة إلى حد انه طلب إليه أن يغني، وغنى يعقوب بحرارة وكأنه يعيد زمن الدوار، وأبكى الرومي قصبته بغزارة دمع.

اللحن كان موظفا وخفيفا يطال الأمس، ويتلمس اليوم، ويتموج في اندفاع نحو الغد، وأسعفت يعقوب قواه الصوتية على ملاحقاته، فتمازجا إلى أن أذاب كلاهما ذبذباته في زخم الأخر.

وتحسس الرومي مصدر هذا الصوت، فشخّصت مخيلته كهلا يعتمر عمامة، يجلس في وقار فني إلى جانب (مغنية أفراح) مقنّعة بخمار أسود، وهو يحترف إجفال القلوب، قصباه كانت موشّحة بتهاويل الخطوط الدائرية و المستقيمة، وثقوبها مزدانة بأنجم دقيقة ، وموقع شفتيه منها مرصّع بنحاس أصفر لامع ، القصبة فن وحرفة وهوية.

وحين اهتم يعقوب بإعطاء كل كلمة مدلولها الإيقاعي، كان الرومي يعزف بجنون وعيناه تترصدان تحركات القطيــــــــــــع، وسرعان ما حاصره تجهمه فأدرك يعقوب أن تداعيات القصبة قد أبحرت به إلى خارج جاذبية حليمة، إنّ النغم هذه المرة يستجمع كل أشتات اللوعة، بكائيا صار أكثر، يلحّ في دعوته إلى الانصراف عن الماثل، وفي صراحة متناهية أوحت عيناه العائمتان عبر النغم أن الأمر يتعلق بمريم.

مريم! تلك التي ضمن الموت طهارتها، فحملت مرادف المعنى الذي لا يصله إلا الشعر، وأنهى الرومي مناحته ليسأل يعقوب:

" ماتت مريم تحمل كل شارات الكمال"

" لقد حرصتْ على ألا تُريك إلا جوانب الكمال فيها كأي امرأة"

وتوقف الرومي مبحلقا في هندام زميله:

" هل أنابك بوغريبة عنه في مهمة التشكيك هذه؟!"

وغمغم يعقوب:

" الرومي، ما بك أم تذكرت مريم؟"

" بل تذكرتُ والدي هذه المرة"

وقال في حماس:

" لقد قُتل والدي من أجل فرنسا وعلى أبوابها، فممن يحق لي الانتقام إذن؟ منها أم من الألمان؟"

وأقبل المغيب ليسوق القطعان إلى الدوار، وكان الرومي عكس زميله يعقوب محمّلا بزاد من " الترفاس" و " الأيهقان" و"الحارّة" و"القيز" و" الفوقاع"، وألحقه يعقوب بضحكات متقطعة، وفنان الدوار يتجه مباشرة صوب خيمة حليمة ليضع الحمل بين يديها:

" حليمة، جئتك ببعض المشتهيات السهوبية"

" كان عليك أن لا تكلف نفسك حمل كل هذا يا الرومي!"

" إنه لك وحدك، لا تمنحي أحدا شيئا"

وقالت في شبه خنوع:

" تشفق عليّ؟!"

" بل أشفق على نفسي"

وضحكت:

" ولكنك ترهقها؟"

وحوّل نظره عنها:

" فلتُرهق من أجل حليمة"

وواصلت ضحكتها:

" الرومي؟! ما بك؟"

الخالة مسعودة تنظر إليه في دهشة أنستها دعوته إلى الشاي، وسارعت حليمة بالقول:

" اجلس لأهيئ لك كأسا من الشاي، فأنت متعب بل لسوف أطهو لك بعض هذا الترفاس"

وناوشت شفتيه بسمة شبه عابرة:

" أمّا الشاي فنعم وأما الترفاس فهو لك وحدك"

وبحركة غنج:

" وحدي؟"

وتدخلت مسعودة:

" ولا أنا؟"

" ولا أنت"

وعاود حليمة جدّها:

" مالك يا الرومي؟"

" حليمة؟!!"

وأجفلتها دعوته الهامسة وهي تقترب منه في تحفظ:

" بوغريبة لم يمت"

واتسعت عيناها أكثر:

" وكيف؟!"

" ولم يُجرم في حق السيناتور"

" كلام الرابلة حقيقي إذن"

" أكثر من حقيقي"

" وأين هو الان؟"

" أسير في الثكنة"

واستطرد الرومي:

" زميل له في الجبل هو الذي أرسل إليكما بخيرات السهب هذه"

وقالت حليمة شبه غاضبة:

" وأنت؟ ألا تحسن إلا الادعاء بأنك مرهق، ومتعب، وهذا لك وحدك، ومن أجلك، و"

ونبرت الخالة مسعودة:

" منذ أن غادرنا بوغريبة لم نذق للترفاس طعما"

وقبل أن تسأله حليمة عن اسم رجل الجبل هذا، اندفع الرومي نصف ضاحك:

" خالتي مسعودة أطلب منك يد حليمة!"

غامر بطلبه وسكن لا يبدي حراكا، وفي عصبية قذفت حليمة بإبريق الشاي الذي كانت تمسكه قائلة:

" ماذا؟!!"

وقالت الخالة مسعودة وهي تشفع كلامها ببسمة مصطنعة لم تستقر على شفتيها:

" عيب، يا ولدي، عيب"

ونظر في انشداه إلى حليمة وهي لاتزال مرتبكة:

" عيب؟!"

وصرخت حليمة بأعلى صوتها:

" أم أننا صرنا لا نتقي العيب؟!"

وتحرك في جلسته متضرعا إليها:

" أرجوك، أنا لا أقصد الإساءة، أرجوك كفى"

وغادر الخيمة شبه باك، يلاحقه نداء الخالة مسعودة:

" الرومي، اشرب الشاي فقط"

لقد ظن أن الأيام قد روضت جماح حليمة، وأن إصابتها قميئة بأن تضعها بين يديه، ولكن يبدو انه لا يزال تحت المستوى الذي رسمه لنفسه، وأن جسارته لم تُختبر بما فيه الكفاية.

وذُهل حين حاصره صوت حليمة هذه المرة وقد زايلتها المفاجأة:

" الرومي. تعال برأس حليمة أن تعود وأن تشرب الشاي"

وعاد الرومي يلفّه الخجل وعيناه لا تقويان على النظر إلى المرأتين معا، وفكّر في كلمات مناسبة للاعتذار لولا أن حليمة سبقته الى القول:

" آه، لايزال رأس حليمة ذا قيمة عندك كأيام عين الخروب؟"

وأضافت وهو منكس الرأس منزويا:

" ألم تحاول أن تلطمني بعصاك الغليظة يومها؟ لقد كنت شجاعا فماذا دهاك اليوم؟"

وحاول أن يبتسم وهو يحرك نظره غير المستقر نحوها:

" سامحيني يا حليمة"

وقالت وهي تصوّب فوهة الإبريق نحو الكوب الزجاجي:

" ماذا بقي من حليمة لكي تتزوج منها يا الرومي؟ أعتقد أنني لا أصلح لأحد!"

وبتلعثم قال:

" حليمة ستظل كما عرفتها"

" ومريم؟"

" لم أستبدلها إلا بما هو أنسب منها"

وقالت الخالة مسعودة:

" وتعرف كل هذا الكلام؟!"

وضحكت حليمة في وجه والدتها التي أخذت تقشر الترفاس:

" الرومي لا يحسن الكلام إلا من خلال قصبته، كلام كثير أفهمه أنا فقط"

وقالت الخالة مسعودة:

" الرومي، ربما كنتَ من تكهن بمجيئه العرّاف عجينة، إني موافقة وبقي أن تستشير حليمة والشيخ عطاء الله"

" عطاء الله؟ وما دخله؟"

وعجبت مسعودة لسذاجة الرومي:

" هو الذي يصدر عقود الزواج الصحيحة، هو القاضي"

وأضافت في ابتهاج وكأنها تحادث نفسها:

" لسوف أعلن للجميع ان حليمة ليست قابلة للكساد"

وأكمل الرومي وقد ارتشف أولى جرعات الشاي:

" ولا للبيع في السوق السوداء"

ورمقته حليمة باسمة وهزت رأسها بالإيجاب وقالت:

" آه، والطفل الناصر؟"

" أعرف أن لك طفلا يا حليمة"

بات الرومي ليلته تلك لا يعزف إلا لحن " حيزية" وكأنه يصرّح بإلغاء كل التزاماته نحو الماضي، سيما وأنه مرّ في طريقه بخيمة الشيخ عطاء الله وافتك موافقته نيابة عن المجلس القضائي وعن السيناتور، ومن ساعتها أحس انه سيكون القيّم على ترميم كل تلك المفاتن التي بعثرها الزمن، والمُلزم بإعادة صياغة تلك النفسية الرقيقة التي أثخنت فيها جراحات الأيام، نفسية حليمة.

ولما غنّى يعقوب من شعر محمد بالخير:

"خبّرني خبّرني على أعربْ خيرة وين أنزول"

صاح الرومي في غضب:

"عن أية خيرة تتحدث أيها المغفل؟! يا أخي غن لنا أشعارا لطالما كنت تغنيها تتضمن اسم حليمة، أي حليمة المهم حليمة"

وضحك يعقوب وقال:

" لكننا مللنا من ترديد الأشعار التي تمتدح جمال الحليمات!"

وقال الرومي قبل أن تستقبل شفتاه القصبة من جديد:

" وأنا لا أهيم إلا بالأغاني التي تفيض بذكر حليمة، بل إن ذكرها يساعدني على التركيز في أداء النغم والذوبان في إيقاعه"

وما كان للوضع أن يختلف لدى حليمة، فقد قضت ليلتها وكأنها غير حليمة التي تلقت من عبد الصابر أمرا رادعا بالطلاق منذ أيام، وباتت مخيلتها ترسم طيف الرومي ذلك الذي طالما ناجاها

بأ نغامه من بعيد في عتمة الدجى، وحاولت أن تتخلص من نزعات جانبية تتناوشها في وهن، كتلك التي لا تجعل من الرومي سوى راع، وانه لولا عمق الجراح ما استسلمت لمواساته، ولكنها وإن همّشت هذه النوازع المتطفلة مؤكدة لنفسها ان الرومي ليس حركيا على الأقل، وانه الوفي الذي انفرد وجدانه بالإخلاص للحب عقدا من الزمن بكى فيه مريم بكل غزارة دمع، فيعزّ عليها أن تتزوج ثانية في غياب والدها، وتنهدت.

كانت فكرة زواج حليمة من الرومي تمثل قاسما لتفكير خمسة من شخوص الطابور الواحد والعشرين: حليمة ووالدتها والشيخ عطاء الله والرومي ويعقوب، ويعقوب رغم انه سارع إلى الموافقة إلا انه

أبدى اعتراضات لم تصمد أمام حماس الرومي:

" وخرافك الأربعة هل ستكفي لإعالة حليمة؟"

" حليمة ليست بذئبة همّها افتراس الخراف"

" كن واقعيا فهذه قضايا لا تلطّفها خصوبة الأنغام"

" لسوف اشترط على (الباترون) رفع حقوقي السنوية الى ستة خراف، أو أعتزل الرعي ما رأيك؟"

" تعتزل الرعي؟ وماذا تصنع؟"

أنضم إلى إحدى الورش"

" ورشة السياج المكهرب؟! لا يوجد غيرها فيما أعلم، وبذلك تساهم في إحكام الخناق على دوارك"

وأضاف يعقوب:

"أنصحك بالرعي عند (الجودام) فرعاته يتقاضون تسعة خراف سنويا"

" ولكنه حركي؟!!"

" أم إنك تخشى ثورة حليمة؟"

وسكت يعقوب ثم قال:

" هل تذكر يوم أن دعانا بوغريبة إلى شن إضراب لتحسين دخل الرعاة فسخرنا منه؟"

" آه، أذكر، فلنبعث الفكرة من جديد في نفوس الرعاة، ونضع سادة السهوب أمام أمر واقع"

" نطالب بعشرة خراف سنويا"

" والشيخ معلى؟!"

" سيخضع هو الأخر"

وضحك الرومي:

" سينسب الفكرة إلى (أصحاب الجبل) ويستنجد بالضابط في تأديبنا".

وحين اضطجع كلاهما للنوم علّق يعقوب:

" منذ الليلة ستنام بخيمة السيناتور وتتركني بالخندق وحيدا، إيه الحظ"

" اطمئن لن أنام بخيمة الشيخ المكي احتراما له"

ولأول مرة نام الرومي في مثل هذا الوقت المبكر، تاركا يعقوب يسترجع ما دار بينهما قبل حين.

وفي الصباح الثاني لاحظت المدعوات إلى زفاف حليمة، انها استرجعت سابق توهجها كهرم متضرر أعيد ترميمه بعناية فائقة، كل شيء استعادته حليمة إلا ما لا يعاد، ولم يكن كبير أثرفي نفسها اليوم، فزفافها هذه المرة سيكون زفافا لا يعوزه إلا حضور الشيخ المكي، وفرحتها ستصير فرحة لا ينقصها الا ما ينقص فرحة الجميع.

بل إن (بوسنة) قد تطوع بعزف أنغام شجية أمسية عرسها، متجشّما استعارة ألة زرنة خصيصا لذلك، وأقسم الشيخ مبارك إنه لو وجد إلى جانبه فارسين فقط لأتخذ من المسافة بين الخيم والسياج الشائك ميدانا لألعاب الفروسية، وظل جواده يصهل ويحمحم وحيدا وكأنه بدوره يعبّر عن احتفائه بعرس حليمة من بعيد.

واستنبتت ساحة الطابور، رقصات رجالية شيّقة أعادت لقطاتها السريعة وتوثباتها الخاطفة، الى نفوس المشاهدين ماضيا لفّه الزمن في أرشيفه المؤجل، وافتقدت حلبة الرقص وجوها معروفة بحذق هذه الرقصات، كبوغريبة وقدور ويعقوب، وسجناء تأويهم ظلومات القلعة الرهيبة ، وأبدع مراد في رقصة ( النهارية) تحت زغاريد زينب والهلالية وبنت النمر، التي بالغت في مداعباتها إلى حد كاد يغضب زينب، وتحاشى بوسنة عزف لحن ( كي طال الحال) المحظور، الذي تسبب في تكسيره زرناه ذات مرة، مستعيضا عنه بألحان أخرى، وتعالت أهازيج النساء من داخل خيمة العرس، وبكت الخالة زهرة فعلا موسطاش الثاني فكادت تتحول رقصة الصف النسائي إلى مناحة، لولا أنها كفكفت دموعها وتكلفت مشاركة الجمع غناءه.

وناب الشيخ عطاء الله عن الرومي في دفع (جهاز) العروس إلى حليمة، وأفردها الشيخ بوخلوة بكبشه النايلي، وذبحه بيده أمام خيمتها، وعلّقت حليمة:

" إنه الكبش الذي كان يحسن استقبال بوغريبة"

وخصّ مراد خيمة العرس بحملي حماريه من الحطب، وتنازلت زينب عن بعض زينتها لصالح حليمة، وأهدى يعقوب الرومي 12 خروفا من خرافه، وجاء عبد الصابر بكمية من فاخر التبغ؛ بل إن رقية زوج قائد الطابور تولت شخصيا وضع الحنّاء في يد حليمة، وهو ما لم تحظ به امرأة غيرها منذ أن صارت رقية تعرف بــــ (بمدام القائد).

ورأى الشيخ معلى نفسه كقائد طابور، مطالبا بتقديم شيء ما إلى حليمة، فأعلن نزوله عند فكرة تسعة خراف كحق سنوي للرومي، وقد كان أخر من تنازل بقوله، وهو يناول الخالة مسعودة تسويغا بالعرس موقعا من طرف الضابط:

" إنه تنازل تستحقه منا حليمة"

وقال الرومي عندئذ:

" حليمة دائما فأل خير، كل شيء قد لان في وجهها حتى قلب الشيخ معلى"

وطار تعليقه عبر خيم الطابور وكأنه تصريح رسمي، إلى أن بلغ أسماع الشيخ معلى ذاته، فلم يزد على أن قهقه في تسامح غير معهود.

إن زفاف حليمة قد استعاد عادات الأعراس، التي كاد يكتم أنفاسها المحتشد بفعل طقوس الحرب الاستثنائية.

ومرت بالقرب من الطابور دورية عسكرية، توقف قائدها ليسأل عن هوية العلم الأبيض اللون الذي يخفق فوق خيمة العرس، فاستصعب الشيخ معلى إقناعه:

" إنه علم (الولي الصالح)، متوارث منذ قرون"

" هل كان هذا الولي قائد جيوش ليتخذ علما؟!"

" لا أدري ولكنه علمه على كل حال، كان صاحب بركات"

وكاد الشيخ معلى يوغل في أحاديث اعتبرها المترجم خرافية، فأغفل نقلها إلى قائد الدورية، وانصرفا ضاحكين.

وعلى متنها حملت إحدى ساعات الأيام الموالية نبأ الإفراج عن الشيخ الفُضيل، وكزعيم روحي غير رسمي للطابور الثاني، شهدت أحايين قدومه ما يشبه احتفالا اقتضى من الضبط الأمني مستوى ما ، ومع ذلك لم يتخلف عن حضوره الشيخان عطاء الله ومختار على غير علم منهما أن الرجل يحمل لطابورهما خبرين متبايني المحتوى، خبر بقرب إخلاء الشيخ المكي.

" وما هو الخبر الثاني يا شيخ؟!"

سأله الشيخ عطاء الله، وزفر الفُضيل بكل قواه الصوتية:

" إن بوغريبة يواجه عقوبة الإعدام"

" الإعدام؟!!"

" هذا ما بلغني، وهو مؤكد"

وفور تلقي دوار بوغريبة هذا السيل من المستجد، استأنفت نفس حليمة تطلعها إلى لقاء والدها.

" الرومي، لا تغادر الخيمة إنها ليلة رهيبة!"

قالت حليمة وهي تضع بين يديه صحنا من الكسكسي عليه شرائح(الفوقاع).

" ولكنني واعدت يعقوب بالمبيت سويا؟!"

وتدخلت الخالة مسعودة التي تدثرت بغطاء صوفي خشن لشدة البرد، وحظر إشعال النار:

" هل جننت؟ ألا تسمع دمدمات الرصاص؟!"

رغم طلقات النار، الدابة لم تسقط أرضا، إذ مكثت منتصبة على مقربة من السياج الشائك، محتفظة بالزاد الذي على ظهرها، كان أفراد الكمين من (الحركى) كلهم، وهم مجموعة عددية لا يستهان بها، قد استطابت العيش بهوامش ديوان شؤون الأهالي، فقدموا لهذا الديوان خدمات يعترف بجميلها ، تماما كنسائهم اللائي ينتدبن لخدمة زوجة الضابط ، وهي مثال الأروبية المدللة التي لا ترى فيمن حولها سوى أشياء وكائنات أعدت للاحتفاء بها ، ففي نظرها ان عوائل القرية ما هي إلا عينات من جنس بشري قد انقرض ، ويحتفظ ببقايا متحجرة للنزهة والتفسح.

الدابة تم تطويقها واقتيادها إلى ديوان الضابط، بعد فرار صاحبها نحو الدوار.

كان الضابط بوصفه مسيرا للأقسام الإدارية المتخصصة (S.A.S) حيويا ذكيا، يعتمد الدهاء، عاملا على كسب ثقة الأهالي، إذ فور اطلاعه على الخبر ومعاينة الحمار المحمّل بالزاد وقد تأكد من أن تلك البضائع النفيسة، كانت في طريقها إلى أصحاب الجبل طبعا، قال بلهجة آمرة يخشاها الحركى:

" افسحوا المجال في وجه الدابة، لتعود إلى منزل صاحبها فنتعرف عليه وينتهي الأمر"

غليونه أشعله غير أن الريح كانت تختطف منه حرارة أعواد الكبريت، بسرعة أخذ يمتصه بشراهة، تلقاء عتبة الديوان انصرف، الحركى لما يغادروا أماكنهم بعد، كانوا محدقين بالدابة، كل منهم يود إغفال زملائه لاختلاس بعض حمولتها، فهذه الدواب المتلبسة التي تُرصد في حالة كهذه، غالبا ما تحمل من الأمتعة نادرا وضروريا: جلابيب صوفية، سجائر فاخرة، أحذية قريبة من الأشكال العسكرية، مذاييع متفاوتة الأحجام، أدوات حلاقة، مواد غذائية متنوعة.

لكل هذا، أصبح الحركى يعرّفون الأحمرة المتلبسة (بالمتاجر المتنقلة)، التفت الضابط إلى الحركى وقال:

" قواد الطوابير يُدعون للاجتماع فورا"

" أمركم"

استدار ضابط الصف ذو الطاقم الذهبي، بعد أن أدّى التحية العسكرية، وأخلى سبيل الدابة التي انطلقت صوب نهج مظلم به انحناءات، ما لبث أن التوى في نهايته المسقوفة بخشب النخيل، وحافظ الحركى دائما على مسافة تفصلهم عن الحمار، وهم يزحفون مع الزقاق المظلم الذي كانت تنفخ الريح في أرصفته فتثير زوابع متقطعة، سرعان ما يكبتها المنحنى المسقوف.

أحذية الحركى تُحدث قرقعات مختلفة الإيقاع وهي تطأ شظايا زجاج متناثرة على امتداد النهج المظلم، وعلّق قائد المجموعة هامسا:

" لكأنه نهج سكارى!"

وأسمعه الحركى ضحكاتهم إرضاء لكلمته، إلا عبد الصابر الذي يبدو متخلفا عن المجموعة نوعا ما.

" الدابة تنتمي إلى القصر حسبما اعتقد؟"

" أجل، فأحمرة الخيم ليست مروّضة بهذا الشكل"

دنا الحمار من وصيد خشبي فارغ الوسط، متباعد اللوحات، متداخل الشكل، فجوة واسعة تفصله عن الجدار من الناحية اليمنى، كانت الفجوة كافية لإدخال حمار والباب في حالة إغلاق.

عن المسير توقف، برأسه أخذ يلامس الوصيد وكأنه يقبّله في اشتياق، وهو يتمسح بالجدار الذي يُمثل نهاية قوس الباب، فما كان من الحركى إلا أن هاجموا المنزل، كان ضيّقا لا يحتوي على أكثر من غرفة، أخرجوا صاحبته، لم تكن رجلا كما توقعوا، بل انها امرأة مسنة، رثة الثياب متواضعة الزاد فيما يبدو، بادرها ضابط الصف ذو الطاقم الذهبي:

" حمارك هذا؟ أليس كذلك؟!"

" ليس لي حمار"

في عصبية هذه المرة:

" أتنكرين أيتها العجوز الحقيرة؟"

قالت في ارتجاف بيّن:

" لا أنكر أن لي قطا يا ولدي أسود اللون هزيلا"

وابتسم عبد الصابر في صمت.

" ثم ماذا؟"

" غيره لا أمتلك أي نوع من أنواع الحيوان"

" حسنا"

أخرجت العجوز بعد أن مُشط منزلها مشطا دقيقا، وإلى جانب الحمار سيقت مشيا على الأقدام نحو ديوان شؤون الأهالي، ضابط الصف يتتبع الدابة باهتمام، وبقية الحركى يحدقون بالعجوز وهي تسير في تحفظ والظلام يكتم دموعها، ودنا عبد الصابر من قائد المجموعة:

" أتشكّون حقا في أمر هذه البائسة؟"

" حظها لم يخدمها"

" ولكنها لا تمتلك حمارا؟!"

انتهره:

" كلمات خطيرة تتفوه بها دائما يا عبد الصابر"

" إنها الحقيقة"

ولمعت عيناه في الظلام فتثاقل به الخطو:

" أو تعرف حقيقة الحمار؟"

" كل ما أعرفه ان الحمار لا صلة له بهذه البائسة"

" ولمن عساه يكون؟"

وقهقه ضابط الصف في تعب:

" ألا تعرف أن عبقرية (الفلاقة) لا تكمن إلا في استغلال هذه الأنماط المغلوبة على أمرها؟!"

عبد الصابر رجلاه تتحركان في تعب خلف ضابط الصف الذي يتقدم المجموعة، والعجوز تردد شهقاتها كإيقاع يواكب حوافر الحمار وهي تفرقع دقيق الحصى.

الديوان كان مُضاء، وبعتبة بابه الزجاجي ذي الدفتين، يجثم شيوخ يعلكون التوقع، لا يتحادثون إلا لماما، عكس ضوء الباب قامة الحمار وأشباح الحركى، وصورة العجوز المسنة بثيابها الرثة.

عيون الشيوخ استقرت على الحمار محمّلا بالزاد، وعلى العجوز الباكية خلفه وقد قبض على يديها حركيان، بدا أحدهما ببذلته العسكرية التي تفوق قامته كما لو أنه ممثل كوميدي. دُهشوا، أجمعوا على النظر إلى " العامري" فالعجوز (منصورة) تنتمي سكنيا إلى طابوره، طابور القرية، وجهه استحال قطعة رمادية داكنة، غادر مكانه كأنه يجرجر رجليه ، في طريقه إليها لاحظ انها ترتجف كما لو أنها انتشلت من بركة ماء في هذه الليلة الديسمبرية القارسة، قال وهو يعض شاربه:

" العجوز منصورة؟!"

" ن ع م "

" ماذا حدث؟!"

" لا أدري يا سيدي"

وأجهشت. وعلى مرأى الأضواء المنداحة إلى خارج رواق الديوان، وهو يمارس حضوره إلى جانب قادة الطوابير، تفرس الشيخ معلى في هيئة الحمار بدوره، فأجفلته حقيقته، إنه، إنه،

يا للفاجعة ماذا يرى؟!!! وكاد يسأل الذي يجلس إلى جانبه من زملائه، إن كان في حلم أم لا يزال على قيد اليقظة؟ ولقد خدمته اللحظة الموالية حين سمحت للضابط بالانصراف إلى الثكنة لاطلاع النقيب عن مقدمات الأمر، بحيث قفز الشيخ معلى باتجاه ضابط الصف ذي الطاقم الذهبي الذي كان يتخذ من بقية الحركى مكانا شبه منعزل.

" ما بك يا شيخ معلى؟"

ودنا منه:

" لقد تعرفتُ على هوية الحمار"

وأقبل عليه ضابط الصف:

" حدّد أسماء المشتبه فيهم وأضف إليهم عبد الصابر، لا تتسرع"

" عبد الصابر؟! إنه زميل بوغريبة ولا حيلة لي في مجابهة نائب النقيب المتعاطف معهما؟"

" منذ إلقاء القبض على بوغريبة متلبسا، اهتزت ثقة الضابط في عبد الصابر وأريدك أن تُحظى بشرف تسديد الضربة القاضية إليه"

وأضاف:

" ولكن من هو صاحب الحمار المغامر؟"

وتراجع إلى الخلف:

" تلك حكاية قد تطول"

" إلى أي الطوابير ينتمي؟

وانتزع الشيخ معلى تنهيدة من أعماق صدره وهو يقول:

" وهل يجرؤ على ذلك غير طابورنا المعتوه؟"

وانتفض ضابط الصف:

"من؟ عطاء الله؟ مبارك؟ من؟"

" ألم تنصحني بعدم التسرع؟"

وأوقفت سيارة الضابط خلوتهما، كان بمعية النقيب الذي بدت كلماته مشحونة بما يشبه الغضب، وفور دخولهما سمح ذو الطاقم الذهبي لنفسه بمحادثة ضابط شؤون الأهالي على انفراد.

العجوز منصورة ما فتئت جاثمة خارج الديوان إلى جانب الحمار، تطوقها مجموعة الحركى في عياء ظاهر.

وبدلا من قاعة الشيوخ التي كان قد عاد اليها الشيخ معلى بعد حين، قرر الضابط والنقيب مقابلة قادة الطوابير فرادى، نزولا عند رغبة ذي الطاقم الذهبي الذي فهم الشيخ معلى من إشارته أن الأمر ممهد له لدى الضابط.

ودُعي العامري إلى المثول بين يدي الضابطين، فدافع عن العجوز المتحفظ عليها، كما أبعد التهمة بقية من دخل إلى أن جاء دور الشيخ معلى الذي قال:

" إن الحمار المحتجز هو حماري يا سيدي"

وبدا الضابط وكأن المفاجأة أسكتته إلى أن قال النقيب:

" ولمن تزف هذه البشرى؟!"

" لقد سُرق ليلا وتم تسخيره فيما تريان يا سيدي، إنها مؤامرة حيكت ضدي"

وتشرّب الصمت بقايا الكلمات، ووجه ضابط شؤون الأهالي كلامه إلى ذي الطاقم الذهبي:

" أخلوا سبيل العجوز"

ثم خاطب الشيخ معلى المنتصب في إحراج:

" ومن الذي سرق الحمار وسخّره في ما نرى"

وأربكه السؤال:

" آه، آه، قد يكون عطاء الله والرومي؛ وربما عبد الصابر"

واندفع النقيب إلى القول:

" وما دليلك؟"

" عطاء الله شريك المكي، والرومي افتقدته حين زرت خندق الرعاة، حيث أوهمني زميله انه بخيمة الشيخ المكي، واعتقد أنه من كان يصطحب الحمار"

وسأله الضابط هذه المرة:

" وعبد الصابر؟!"

" لا أحد يمكنه شحن الحمار ليلا غيره بحكم حظر التجول المضروب"

ولمعت عينا ذي الطاقم الذهبي دون أن يلحظهما أحد، قبل أن يسأله الضابط هو الأخر:

" من يمكننا تكليفه بأمر الطابور إلى غاية انجلاء الحقيقة؟"

"هناك الشيخ مبارك"

واعترض معلى بقوله:

" هو زميل عطاء الله"

وقهقه النقيب:

" وأنت من هم زملاؤك؟!".

انتهت الرواية.


هوامش:("")



(1) الــــــــدوار: في مناطق الشمال تطلق هذه الكلمة عادة على مجموعة من الدور( المدر ) (الدشرة)، بينما في عالم الريف والبادية تطلق على مجموعة هامة من الخيم ( بيوت الشعر) تكون عادة من عشيرة واحدة، وبهذا المعنى الاخير جاء ت الكلمة في الرواية.

(2) كان يتم اختيار القايد بناء على ما يتمتع به من جاه ومكانة، وكان هناك صنفان من القياد: قياد المهام وقياد القبائل. فقياد المهام هم قياد تحصيل الضرائب وما يشبه ذلك من مهام بسيطة، ويبدو ان قايد المهام هو الذي كان يُعرف في الأوساط الشعبية (الريفية بالأخص) بالكوراط، او شيخ العرب الذي يمثل سكان الدواوير و يسهر على ادارة شؤونهم و هو النائب الشخصي للقائد، بينما يتمتع قياد القبائل بسلطات واسعة نسبيا، تشمل مختلف جوانب الشأن العام في القبيلة، وقد تطورت صلاحيات القايد وفقا للمستجدات التي كانت تقتضي تطور (القوانين ) بما يخدم أهداف قوات الاحتلال..

. (3) الباشاغا:الباشا و الاغا ألقاب فخرية في الدولة التركية.( وقد احتفظ بها الاحتلال الفرنسي في الجزائر الى عهد متأخر، لاسيما في المناطق العسكرية كالمنطقة التي تتحدث عنها الرواية.( للتوسع لاحظ كتابنا" الافريقي صانع ملحمة فزوز ورجال وجبال / ط 2016".

(4) المستاتور: هي تحوير لكلمة l'administrateur وهو المتصرف المحلي أو المدني ، والمعروف شعبيا أنذاك أن المستاتور هو كل شيء، أي الشخص الذي ينتهي اليه القرار المحلي، بينما في النصوص هو متصرف بلدي يرأس اللجنة البلدية ( في البلديات المختلطة) .

(5) الملفوف: الملفوف هنا ليس نبات الكرنب كما هو معروف، بل المعني (عامي) وهو قطع من كبد الضان تُـــلـــف بشفاف الشحم وتُشوى منظمة على سفافيد دقيقة

عُربت بكلمة "سيخ" وهي: BROCHETTE
(6) الــرابلة (لعل أصلها الربلة وهي اللحمة في باطن الفخذ)، والرابلة كاسم انثوي


تغنى بها شعراء الأغنية البدوية ( في الجزائر) شأنها شأن " الواشمة"، وغيرهما من الأوصاف التي اطلقوها على الغواني ، والرابلة هي المرأة الممتلئة الجسد بحيث قيل انها تلك التي لا يُرى عصب عرقوبيها ، وقال أبوالعباس ثعلب:" الربلات أصول الأفخاذ" ، وهو معنى كان معروفا حيث جاء في " المفضليات" قول المرار بن منقذ الذي كان قد عاصر جريرا وتهاجيا:

" دفعت ربلتُها ربلتَها وتهادت مثل ميل المنقعر"



(7) المقطع الثالث أضيف الى هذه الطبعة بحيث لم تتوفر عليه الطبعة الاولى سهوا.



(8) (الوعدة) لعلها من " وعد " أي من تواعد الناس تلقائيا باللقاء فيها، اما اصطلاحا فهي عيد سنوي تحييه القبائل تبركا بأشهر أجدادها، (أقرب جد مشترك لها في النسب) كانت هذه المناسبات في الماضي مجرد ولائم للإطعام وعقد حلقات الدعاء و الزيارة (الجود بأموال وهبات تعطى الى القائمين على أضرحة الأولياء)، لكن الوعدة أصبحت بمثابة مهرجانات فنية ( فلكلور. فروسية) ومعارض تجارية.ومتع سياحية الخ

(9) الصاص" S.A.S " المصالح الإدارية الاختصاصية، عُرف رئيسها أيضا بضابط الشؤون الاهلية (عُد الى كتابنا الذي ذكرناه في الهامش"3" أعلاه، حيث أعطينا بسطة موسعة عن تاريخ هذه المؤسسات القمعية). ومن كثرة الاستعمال أصبحت كلمة " الصاص " تعني في نظر العامة، الشخص أكثر مما تعني هذا المرفق.

(10) لعل السند الوحيد لقصة "خيرة البوذنيبية "هذه، هو ما تتضمنه قصيدة شهيرة مطلعها:

راها في" بوذنيب " طول البستانة و"خيرة" فالغرب دونها كادوا الأوطان

والقصيدة تصور المراحل الجغرافية التي كانت تقطعها قوافل الجنوب، الى أن يستقل الشاعر ورفاقه القطار نحو الشمال، يقول:

يوم السبت انعولو فالماشينا "" واركبنا في ابلاص قرابت لوطان

والشاعر هو عبد الله الذي يصرح باسمه في أخر القصيدة بقوله:

عبد الله يا ملاح طلعت لو قانة ""واتفكر خاطري الجلسة و الغيوان

(الجلسة بجيم مصرية) ويقال عن قبيلته انه من " أولاد العقبي" بتفخيم القاف، و"بوذنيب" بلدة بجنوب المغرب الأقصى.

(11) ولا نحفظ من هذه القصيدة ـــ التي لم نتمكن من تحديد قائلها ـــ الا بيتين يأتيان بعد البيت الذي ذكرناه وهما:

ما يديروا خيمــة او ما يسكنــــــو دار

ما ايضاوو شمعة او ما ايشعلو نـــــار

(12) الشيخ حمادة: من نجوم الأغنية البدوية في الغرب الجزائري.

(13) كان الأدق تاريخيا أن نقول " القسم" لأنه الأسبق، وليس "الناحية".

(14) " القصّاب" هنا ليس الجزّار (بائع اللحم)، بل عازف الناي البدوي أي القصبة. الزامر.

(15) الفلاّقة: مصطلح روّج له المحتلون الفرنسيون وأعوانهم، كنعت من النعوت المشينة الكثيرة التي الصقوها بالمجاهدين الجزائريين إبان الثورة، كقُطاع الطرق، الخارجين عن القانون، العصابات، الخ، يريدون بذلك تخويف الشعب منهم ، فهم ــ حسب مصطلح الفلاقة ــ يفلقون الرؤوس البشرية بلا رحمة.

(16) اللفيف الأجنبي: قوات عسكرية تابعة للجيش الفرنسي، تتكون أساسا من جنود مرتزقة أجانب ولكن تحت امرة ضباط فرنسيين، (انظر كتابنا " الافريقي صانع ملحمة فزوز ورجال وجبال" حيث أشرنا الى ان نشأة اللفيف الأجنبي، انما جاءت نتيجة تأثر الفرنسيين بما كان يُعرف بالقوات الإضافية في الجيش الروماني المحتل قبل الميلاد).

(17) عشبة خضّار: لم نعثر في المعاجم التي بين أيدينا على صيغة " خضّار" ضمن حقل ( خ ض ر ) اما من حيث الحكاية فالأمر يتعلق ببطلة قصة شعبية رائعة من قصص الأحاجي، بطلتها تدعى " عشبة خضّار" ارتبط غيابها بانحباس المطر الى أن قيل" من عشبة خضار ما صبت أمطار"، وربما جاء الاسم بجزئيه معا مركبا من هذه الدلالة، دلالة العشب والاخضرار وهما بفعل المطر دائما.

(18) البيتان من نظم الكاتب فهو صاحب ديوان في الشعر الشعبي عنوانه "أوشال الحنين"

(19) العارفــــة: أصلها (عرفات) لأنها تحدث يوم عرفات وزمن الليالي العشر (العواشير)، حيث تتجمع الفتيات وهن بألبسة أنيقة ( كان معظمهن يخرجن بألبسة أمهاتهن) يتزين ويطوفن عبر الديار مرددات بصوت جماعي:

عارفة عارفة ليلة مباركة "" أعطونا الشعير يعطيكم الخير"" أعطونا القمح يعطيكم الفرح" ..الخ" فيجمعن مقادير من الحبوب ( قمح .شعير) ومواد أخرى يقمن في النهاية ببيعها وشراء الحناء ليتخضبن بها. وربما أشياء أخرى .

(20) المسبلون: يقال ــ في اللغة ــ سبّل حياته أو أملاكه، بمعنى جعلها في سبيل اللـــــــه أو خصصها أو نذرها، واسم الفاعل هو مسبل بكسر الباء ، وتأسيسا على هذا نقول أن المسبلين هم شريحة واسعة من فئات الثورة الجزائرية الأخرى، التي تمثلت في المجاهدين من حملــــة السلاح و الفدائيين وغيرهم ممن نذروا حياتهم لله وللوطن ، وكما اختص الفدائيون بالنشـــاط المسلح داخل المدن الجزائرية، كان المسبلون القلب النابض للأرياف الجزائرية، حيث تمثــــــل دورهم أساسا في التمويل والتموين والتسليح والتخزين و نقل المعلومات ( الاتصال)، وضمان التواصل بين قيادات جيش التحرير العسكرية وأفراده من جهة ، والقيادات المدنية للثورة والشعب من جهة أخرى. قال شاعر المقاومة محمد بالخير:

"النفس أنهونها أمسبّل خير من المال والقيـــــادة

نوقف عند العلام الأول تحضر الايمان والشهادة "

(من ديوان الراية المحظورة للشاعر محمد بالخير جمع ومراجعة الأستاذ بوعلام بالسايح)



محمود حيدار (1).jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى