عبدالله البقالي - اعترافات رجل ملعون..

لم اعرف درجات الاثم التي سأتبوأها عندما فكرت في كتابة هذه الاوراق . كما لا اعرف هل سيسمح لي بان امضي قدما في سرد وقائع هذه الحكاية ام ان المجال سيضيق لكي يلقي بها خارجا .
هي ببساطة حكاية شخص عرفته . لا اريد ان اوضح متى ابتدات علاقتي به ، وما ان كان صديق طفولة او ان السنين أوجدته الى جانبي صدفة في مرحلة من مراحل العمر . ولا هل كانت علاقتي به وطيدة ام سطحية . الا انها في كل الاحوال كانت علاقة ثم كانت حقيقة . ولئن فعلت ذلك فذاك نتيجة وعد قطعته وسر وجدته بعد فوات الاوان انه اكبر من قدرتي على كتمانه .
هو شخص كنت الى غاية اللحظات الاخيرة من حياته اعتقد انه رجل استثنائي . مضرب للأمثال لكل شئ نبيل .وكل ما صدر عنه كان يصنفه نموذجا للانسان الخلاق . نجاح . ثقافة. اتزان . رزانة . تجاوب مدهش مع كل الذين اثثوا فضاء حياته بما في ذلك الغرباء .
لا احد ارتاب في امره او وضعه موضع الشبهات طوال حياته . لحد لو اني حكيت ما سأحكيه لرجل سبق له معرفته فأكيد انه سيتهمني بالخبل و التخريف .لكن هناك فئة ممن حضروا لحظة من لحظات هذيانه وهو يعيش لحظات احتضاره ادركوا فعلا ان الرجل كان وراءه شئ غير عاد . وان شيئا فظيعا كان يتملكه ويؤرقه .
الحكاية بالنسبة لي ابتدات قبل لحظة اعترافه المدوي . اما بالنسبة له فقد ابتدا الامر قديما في مرحلة من مراحل عمر انقضى . وانه بعدها عاش كمثال هارب اطلق سيقانه للريح لعله يتلف كل اثر تقتفيه تلك الوقائع المذهلة فلا تصل اليه ابدا .
بالعودة الى لحظة الاعتراف اقول اني لا زلت لحد الان لا استطيع ان اجزم ما ان كانت تلك نتيجة ثمرة لحصار ضربته حوله بعناية ، ام انه كان تنيجة يقين تولد لديه بعد ان ادرك انه راحل لا محالة ومن ثم ليس هناك شئ يخشى من فقدانه .
حصاري له بدا بعد يقين تشكل لدي على مهل ، ولحظة ولادته ابتدات بعد ان لا حظت - وفي اوقات متباعدة - أنه يقوم بأشياء لا تبدو منسجمة مع المقام . او مع الجزء الظاهر من طبعه . كان مثلا يزم شفتيه بعنف في لحظة كان يتوجب فيها ان يكون تحت ظلال السكينة . ويضم انامله ليشكل قبضة يضرب بها راحة كفه الاخرى . ويتلفظ بعبارات مبهمة كنت ادرك انها مقاطع من حوار داخلي عنيف شق في غفلة طريقه الى العلن . وكل ذلك جعلني اجزم انه يعيش محاكمة رهيبة في دواخله الغامضة .
تكرار تلك الحالات جعلني اعي ان صديقي يمارس عملية تمويه كبيرة ، وان حالاته النفسية القاسية هي جزء من الوجه الحقيقي الذي استطاع ان يخفيه باتقان . ربما هي اطياف الماضي تحاصره . وربما هي وقائع عظيمة رفضت ان تموت وتقبر داخل ذاكرته قبل ان تتطلب حسما ، فتحولت بذلك الى اعصار يهب في اجتياحات غير متوقعة محطما الفواصل بين الازمنة .
اهتمامي بالموضوع بدا يتنامى من يوم لأخر . و أسئلتي صارت مباغتة وخالية من اي تحفظ . ومحاوري صار مع الايام يدرك اني لم اعد استصيغ الكثير من اجوبته حتى وان تظاهرت بالاقتناع . ومرة سألني كجواب عن سؤال كنت قد طرحته عليه : اتعرف فيما افكر فيه الان ؟ ... و دون ان ينتظر جوابا قال : أن اتراجع للوراء مثلما يفعل كبش في معركة شرسة ، وانطلق بكل قواي لأنطح هذا الجدار .
في البدء كنا نضحك من هذه الامنيات البلهاء ، غير اني صرت ادرك ان الرجل بعني فعلا ما يقوله . ومن ثم صار الذهول يحل محل الضحك وجعل رغبتي في معرفة ما يجري في دواخل ذلك الرجل تزداد اصرارا
اجزم اني كنت اسمع ذلك الهدير بكل وضوح ، غير اني ما استطعت ان افهم و لا ان اعي اشياء كثيرة لأني بكل بساطة احتاج الى عقل مشكل بكيفية مختلفة والى كائنات من طينة اخرى نمت في بيئة لا وجود للجنس البشري فيها

ما كنت ادرك انني في ذلك المسعى كنت اشبه بمن يحك لوحا أيقظ ماردا عظيما فنسي كل شئ و لم يملك سوى ان ينظر بانبهار اليه وكيف استطاع ذلك القمقم ان يستوعب جبلا شاهق العلو . وحين صحا بدأ يتساءل كيف استطاع الرجل ان يصنع توازنا و تماسكا ليعيش سويا كل ذلك الزمن دون ان يجن او يفقد صوابه .
فضولي دفع بي قبل لحظة المصارحة الى ممارسة سلوكات لا تليق بتاتا بعلاقة صديق بصديق . و الأرق الذي انتهيت اليه كان كنوع من الجزاء المناسب لذلك المسعى الخائب ، ولو كان بمقدوري ان اعيد الزمن الى الوراء فاني كنت سأقوم بأي شئ لا يخطر على بال الا سلك ذلك المسار .استنتاجاتي أكدت لي بما لا يدع مجالا للشك أن ورطة صديقي كامنة في منعطف ما من ماضيه لكنه ماض لا يزال يستطيع ان يعبد طريقا الى الحاضر تعبره على عجل أطياف لم تشأ ان تتحول الى مجرد خيالات و تذكارات لوقائع بعيدة . وانها ستظل تسعى وتعكر صفو انسان ما دام ما جرى لحد تلك اللحظة جعله مذنبا أغلق باحكام كل المنافذ التي جعلته مجرما بلا قصاص
فرضياتي و احتمالاتي الكثيرة كانت تشير الى ان وراء الحكاية امرأة .لكنها امرأة ليست ككل النساء . شئ ما فيها يجعلها مختلفة لتنشأ علاقة مختلفة عن اية علاقة عادية ربطت امرأة برجل ..هل طعنته طعنة كانت بعمق المسار الذي شقه في حياته ؟..هل امتلكته لحد جمد عمرها في لحظة مكتنفة بالسرية لكي لا يصير لها وجود الا في ذاكرته ووجدانه ؟
الى هذا الحد كنت قد تورطت و زجت بنفسي في مستنقع صار بالنسبة لي كل شئ . الهاجس ظل يسكنني و انا في العمل او في الشارع او في السرير او انا انقل لقمة من الصحن الى فمي . وخلواتي كانت فضاء مستباحا للعواصف القادمة من عوالم صديقي الشاحبة .
صار كل ما افكر فيه هو ان اجعل صديقي يفتح ملفاته . احيانا كنت انجح حين اجد الطريق سالكة واخرى كان يستوقفني بعبارة حازمة : دعك من هذا ، ذلك ماض انتهى.
لكن بالرغم من ذلك كان يلوح لي شئ ما في كلامه يجعلني اتمسك برغبتي الجارفة التي كانت تتقوى حين كان يتبين لي انه لم يعترض كليا على محاولاتي ، وانه فقط يقاوم . و ان مقاومته يمكن ان تتلاشى فجأة حين تتزامن مع ظرف معين .
تشكلت لدي قناعة بأن لحظة الافصاح باتت قريبة و رهينة برصدي لمزاج معين في لحظة محددة يجب ان انجح في تشخيصها قبل ذلك .. و قبل هذا كنت قد توصلت الى اشياء مهمة من تاريخ الرجل اللغز ، لكنها لم تكن لتعني اشياء مهمة يمكن ان ترقى لتشكل عقدة .غير انها قربتني اكثر منه وقوت ثقته بي مما جعلني احس اني صرت اكثر قربا من البؤرة .
في المرات التي اطلعني على صوره الخاصة او المرتبطة بذكرياته كنت الاحظ و انا اتصنع الانشغال عنه أنه كان يطيل النظرفي صور معينة ، وان تأمله ذاك كان مقترنا بتعابير قاسية كانت ترسم قسمات حادة على وجهه .وصرت احاول رصد الصور التي تحدث فيه ذلك التأثير . وانتهيت الى ثلاث صور كلها لنساء في اعمار متفاوتة .الاولى لم تكن ذات جمال اخاذ ، لكنها لم تخل من عوامل الجاذيبة . و الثانية كانت اصغر من الاولى لكنها نضجت قبل الاوان . و الثالثة كانت الاكبر سنا لكنها مع ذلك لا تزال تنضح فتنة و اغراء .
لا شئ مشترك بين النساء الثلاث سوى كون الصور التقطت في جو احتفالي .ـ لكني كنت متأكدا ان واحدة من النسوة الثلاث على الاقل كانت من وراء ورطة صاحبي .
لم اشك لجظة في كوني وضعت القدم الاولى داخل الملجأ السري لصاحبي . واني تعرفت على نقطة الانطلاق في رحلة البحث عن المكامن الدفينة في عمق وجدان رجل جعلته مبهما

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى