بانياسيس/جزء من رواية قديمة (نقطة ارتكاز )

قبل آلاف السنين ، كان هناك رجل، يعيش نصف عار في كهفه ، ورغم أن الحياة كانت قاسية جداً وملأى بالوحوش ، ورغم أن القبيلة لم تكن قد وجدت بعد ، ومن ثم فإن كل من يطلق عليه إنسان ، كان يعيش وحيداً ، رغم كل ذلك قرر هذا الرجل الوحيد الذي لا يكترث به أحد في عالمه المتوحش ، قرر أن يكتب عن نفسه ، لم يكن يعرف القراءة والكتابة ، لأنه لم يكن من شيء يُقرأ ، لم تكن اللغة قد كتبت بعد ، أصابت الحيرة هذا الرجل النرجسي ، وهنا قرر أن يرسم لنفسه لغة ، وأخذ ينحت على جدران كهفه أشكالاً يذرف فيها معاناته في الحياة ، وبما أن أدوات الحياة كانت بسيطة ، فقد كانت الصور بسيطة بذاتها ، تأتي في مقدمتها صور الوحوش بإعتبارها الخطر الذي يهدد حياته ، ثم يليها الزرع الذي يمثل حالة أمانه واستقراره ، ثم الماشية التي تعبر عن حالة قلقه . ثم الشمس والقمر والنجوم ، وحاول من هذه الصور القليلة أن يخلق لغة يمكن للآخرين فهمها ، لكنه لم يتساءل من هم الآخرون ، في الواقع لم يكن يهتم ، فقد كان يدرك أن عليه فقط أن يكتب ، أن يجعل من نفسه رمزاً خالداً . وحين بدأ .... لم يتوقف ، إلا بعد أن لفظ أنفاسه ، تاركاً خلفه آلافاً من الرموز الخالدة على جدران الكهف.

ثم مضت بعده القرون وراء القرون ، وآلاف السنين وراء بعضها ، وبصدفة محضة اكتشفت فتاة من هواة التخييم هذا الكهف الصغير ، وفجأة تحولت كل أنظار العالم إلى الفتاة وكهفها ، وتأثرت هذه الفتاة التي لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها بما حدث لها أيما تأثر، فقررت أن تفك رموز كهفها بنفسها ، وهكذا تحولت من التفكير في دراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الآثار والسيموطيقيات وكل ما يمكن أن يساعدها على فك رموز كهفها . لم يكن بإمكان أحدٍ غيرها أن يفك هذه الرموز ، والسبب أنها كانت إنسانة عاطفية ورومانسية ، وليس لأنها ذكية. فرغم محاولات جميع المتخصصيين فك شيفرة الرموز لكنهم فشلوا ؛ أما هي فقد نجحت ، وكان سبب نجاحها بسيطاً ، فهي لم تعمل على عقلنة الرموز ، وإنما الشعور بها. وأكتشفت أن هذه الرموز ليس لديها أصل صوتي ، كانت مجرد تعبير عاطفي عن حالة أو حالات ، وفجأة أخذت هذه الرموز تترابط بسرعة ، وفجأة فكت أسرار أعظم لغز في العالم ، كانت جدارية الرجل الوحيد.

وفي آخر الجدارية كان يقول :

- من سيكتشف معنى هذه الرموز هي حواء التي أحببتها .. لا أحد غير حواء يمكنه أن يكشف عن هذه الرموز .. لا أحد سواها .

وسُرَّتِ الفتاة الصغيرة أيما سرور ؛ فقد شعرت بأن الرجل الذي كتب هذه الرموز هو حبيبها فعلاً وأنه قد أرسل لها رسالة الحب هذه قبل آلاف السنين، وأن قصة حبهما صارت خالدة. فقررت أن تكون مخلصة لحبيبها حتى الموت . ثم أنها بنت كوخها قرب الكهف ، فاشتهرت بزوجة الرجل الحجري . ولم يتوقف العالم بأسره عن الحديث عن هذا الرجل وذاك الكهف وهذا الإكتشاف التاريخي برمته. ولم يتوقف السياح والعلماء عن زيارة العاشقين وكهفهما.

وحين كانوا يسألونها عن كيفية اكتشافها لمعنى الرموز كانت تجيب:

- إن الشمس التي تبدوا بغير إشعاعات تعني (الفجر) ككلمة ؛ وكلمة الفجر تعني قضايا مصيرية ، تعني السلام ، تعني النهاية ، البداية ، الأمل، الإيمان ، الحب ، المرأة ، الميلاد ، الأنبياء ، الحواس ، الطبيعة ، النرجس ، الفَراش ، الخضرة ، العشب ، الإنفتاح ، الإكتشاف ، الذات ، التآلف ، الإندماج ، النشوة ، الصدق ، الحلم . وأما القمر الذي يبدو شاحبا يعني الغروب و (الغروب) ككلمة ، لا يعني حركة التغير الفلكي، إنها ككلمة تعني تخييلات عديدة ، قد لا يكون بينهما رابط قانوني ، قد تعني : ، الحب ، وقد تعني البحث عن الحب ، وقد تعني المرأة التي تتخيلها دائماً خلف الظلال ، وقد تعني عزلة الروح ، وقد تعني القُبلة ، الحوجة العاطفية، اللحن ، الموسيقى .

إن الكتابة لا تتم بشكل منطقي محض ، إنها عملية تتجاوز الشعور والوعي إلى اللا وعي ، لأنها استخدام الإنسان للرمز في أعمق تجلياته وخفاياه . وحيث تكون الكتابة من العمق فإنها ستعكس لا محالة مناخ هذه الأعماق ، وليس بالضرورة أن نستطيع تجسيد هذا المناخ ولكن يكفينا أن نشعر به. إن (الكلمة) نفسها ككلمة لها معناها الأوسع ، إنها تحمل معنى ميتافيزيقياً وأنطولوجياً واستطيقياً أيضاً ، يمكننا ان نتتبع قيمة (الكلمة) عبر التاريخ ، بل قبل التاريخ ، وعبر أساطير النشوء حيث: (في البدء كانت الكلمة).

كانت وسائل الإعلام تحيط بها من كل جانب ، وكانوا يسألونها:

- ماذا تسمين حبيبك ؟

- أسميه إيروس ..

وهكذا ارتبط الماضي قبل آلاف السنين بالحاضر بعد آلاف السنين .

***

قال أديب:

- ما رأيكم في هذه القصة ؟

ابتسمت أولجا وكعادتها لم تتحدث ، أما زاهر فقد دفع برأسه إلى الوراء ، وظل صامتاً وهو ينظر إلى السقف بأسى ، في حين ابتسم عطا وقال:

- جميلة ، إنها تبدو عميقة .. ومتفائلة إلى حد بعيد.

كان العاجب يهمهم كأسد مأسور ، ثم نظر إلى أديب وقال بحدة:

- كلام فارغ .. ما تقوله كلام فارغ .. إنها قصة مليئة بالأوهام . يظهر الإنسان ككائن ملائكي وذكي وقادر على النفاذ .. إنها تلك الفلسفة الإنسانية التافهة التي قادتنا لها عقول الأنبياء والمتفلسفة .

قال عطا بتعجب :

- إنها تتحدث عن حقيقة وجودنا .

قال العاجب:

- بل هي أبعد ما تكون عن حقيقة وجودنا .. إنها تمحور الإنسان حول القيم البائسة لتغرقه في الأوهام تماماً كما يتوهم الشخص أن من تبناه هو إبنه بيولوجيا. دعني أقول لك حقيقة يجب أن تفهمها .. إن الطيبين هم من لم يجدوا فرصة بعد ليكونوا أشراراً .

- أنت تنفي الأخلاق .. كحقيقة متجذرة في وجودنا .

صاح العاجب :

- الأخلاق تقييم لاحق على ما هو موجود مسبقاً في الإنسان .. فكيف تجعل الأثر يلغي الأصل .

كان أديب يتنقل ببصره بينهما مبتسماً ، وكان العاجب يزداد اهتياجاً :

- هل تقول لي أنكم عانيتم من الحب الزائد ومن الخير المتدفق .. إن ما تعانونه كلكم هو العجز .. هو العجز .

أخذ يجترع كأسه بسرعة وعصبية فقال عطا:

- لقد أثرَّت فيك الخمر ..

صاح العاجب:

- أنا لم أسكر بعد .. لم أسكر بعد .. ثم .. لماذا لا تنظر إلى حقيقة نفسك .. ألست عاجزاً عن أن تدافع عن حقوقك التي سلبها منك نظامك السياسي .. فماذا فعلت .. جئت لتعمل حمالاً متفلسفاً لتتجاوز مأساتك .

احمرت عينا عطا وصاح:

- لا تتجاوز حدودك ..

لم يحرك أديب ساكناً ، إلا أن الخوف بان على عيني أولجا ، وصاح العاجب بعصبية أكبر:

- لماذا صُدمت من كلامي .. لأنه حقيقي .. صديقك الذي فقد رجولته ..

حينها قفز عطا ، وكال لكمة قوية لوجه العاجب ، الذي بدوره ردها بلكمة ضعيفة ، ثم دفع عطا عن جسده بقوة ليست ناتجة عن عمره الذي يتجاوز الخمسين ولكن عن غضب رجل مهزوم ، أما زاهر فقد وضع رأسه بين كفيه وأخذ ينتحب بجسد مرتجف ، ثم قال العاجب:

- تضربني .. لو كنت تخشى على مشاعره لماذا لا تذهبا إلى الزنجي المجرم وتقطعا ذكره . هل تستطيع فعل ذلك . أم أنك لا تستطيع سوى مواجهة الأضعف منك .. إليس ذلك هو حقيقة الإنسان الذي تجسدونه في شعركم وقصائدكم التافهة كملاك ..

كان أديب صامتاً ويتأمل الأفق على خط بصر مستقيم ، ولم يتدخل ، إلا حين وجه له العاجب كلامه:
IMG-20181228-WA0042.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى